29 - 03 - 2024

في الذكرى الخمسين لاغتياله .. غسان كنفاني الذي أحببت صغيرا

في الذكرى الخمسين لاغتياله .. غسان كنفاني الذي أحببت صغيرا

كنت صغيرا . ربما لايتجاوز عمري 15 أو 16 عاما عندما عثرت على ثلاثة كتب للأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني في مكتبه بشارع السكة الجديدة بمدينة المنصورة. التقطتها عيناي في واجهة المكتبة الصغيرة وسط كتب أخرى يعلو أغلفتها التراب. وصممت وبعزيمة على اقتنائها كلها معا دفعة واحدة. ذهبت إلى أمي واستكملت منها بعد الحاح ثمن الكتب الثلاثة المطبوعة والمنشورة في بيروت . وكان من بينها روايته الشهيرة " رجال في الشمس"، و المجموعة القصصية " أرض البرتقال الحزين". وكان الكتاب الثالث مجموعة قصص أخرى ، نسيت عنوانها. لكنني أتذكر من بينها قصة غاية أيضا في الإنسانية والعمق. وهي مازالت محفورة في الذاكرة على الرغم من مضي كل هذه السنوات منذ النصف الأول من عقد السبعينيات في القرن العشرين.

كان اشقاؤنا الأكبر سنا في الجامعات والمعاهد من أبناء الطبقة الوسطى بإمكانهم أن يقصدوا أوروبا في إجازات الصيف في شهور تمزج بين السياحة والعمل اليدوي واكتشاف العالم . ولفت نظري في هذه القصة أنها بدورها أثرت في وعي الطفل أو المراهق الذي كنته باكتشاف عالم آخر غير ما كانت المسسلات الأجنبية التي يبثها التلفزيون العربي ( ماسبيرو) تلمح أو تكشف عنه من حيوات وعلاقات متحررة بين الجنسين في الغرب. وهي الدراما المستوردة التي كانت شاشة القناة الثانية تبثها مع حلول عقد السبعينيات.

 وما أذكره ويعلق بالذاكرة لليوم أن قصة غسان كنفاني تلك بدأت بتجسيد النظرة النمطية لواحد من بين شباب الجامعات  المرتحلين إلى أوروبا صيفا. وقد تزود عبر رفاقه بخبرات ومعارف تلخص المدينة الأوروبية الحديثة في كونها فرصة لإطفاء ظمأ الحرمان الجنسي لطالب يأتي من العالم العربي . لكن ما إن يصل المدينة الأوروبية التي يقصدها ويضع حقيبته في الفندق ويتوجه إلى حي بغاء شهير في ساعة متأخرة من الليل، إلا ويلفت نظره كلمات خطها أصحاب منزل في هذا الحي الفقير البائس على بابه : ـ " من فضلك لا داعي للإزعاج ..هنا يسكن عمال"

  ويبدو أن هذه العبارة التي تنتهى بها القصة القصيرة قد أسهمت في إعادة تشكيل وعيي بأوروبا والعالم والحياة. تماما كما فعلت مع بطلها الطالب الجامعي الذي بدأ عابثا لاهيا مختصرا أوروبا ومنمطا إنسانها، وانتهى ليكتشف أن هناك أوروبا أخرى وإنسان آخر.

وهذا الشهر بحلول الذكرى الخمسين لاغتيال المخابرات الإسرائيلية "الموساد" لغسان كنفاني بتفجير سيارته في بيروت (صباح 8 يوليو 1972) ـ وقد تجاوزت أنا الستين من العمر بنحو أربع سنوات ـ يمكنني أن أعيد اكتشاف هذا العمق الإنساني لتراث وقضية هذا الأديب والسياسي اليساري الفلسطيني، الذي ولد في عكا وسط وهج الثورة الفلسطينية الوطنية الكبرى ضد الاستعمارين الصهيوني والبريطاني عام 1936، والتي امتدت لنحو ثلاث سنوات. 

وأظن أن إصرار هذا الصبي الذي كنته وإلحاحه على شراء هذه الكتب الثلاثة المعروضة في واجهة المكتبة يفيد بأنني كنت قد قرأت شيئا ما عن مؤلفها. وربما كنت قد تابعت من خلال قراءة الصحف التي يصحبها أبى إلى المنزل وقائع وأصداء اغتياله، مع سيرة حياته رمزا وطنيا فلسطينيا، وبوصفه أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهو الفصيل الذي كنت وغيري ننظر إليه خلال سنوات الجامعة لاحقا ، بوصفه الأكثر نقاء واستقامة وراديكالية بين الحركة الوطنية الفلسطينية بعد هزيمة 1967. ولقد أتيح لي وأنا صحفي مقابلة ومحاورة مؤسسه وزعيمه التاريخي "جورج حبش" رحمه الله ولروحه السلام خلال دورة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر أبريل 1987، فزاد تقديري له وللجبهة ولإخلاصها لقضية تحرر الأرض والشعب في فلسطين. 

 وعندما استرجع اليوم ما هو منشور عن الشهيد "غسان كنفاني"، يلفت النظر أن هذا المثقف الفلسطيني الذي عبر بأدبه عن محنة ونضال شعبه واقتلاعه وتهجيره بامتدادتها وأبعادها الإنسانية الرحبة استطاع خلال حياته القصيرة (36 سنة ) أن يترك تراثا مهما يستأهل الاستعادة والتأمل صحفيا وكاتبا ورساما ومناضلا سياسيا ونقابيا. وعلاوة على  الروايةوالقصص القصيرة والمسرحيات، خلف لنا كتبا ودراسات نقدية عرفتنا ـ وجيلي على نحو أخص ـ بشعراء الأرض المحتلة كتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو. كما أنار لنا ولأجيال كتابه العمدة باللغة العربية "في الأدب الصهيوني" فهم أبعاد الشخصية الإسرائيلية الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية العنصرية ، فضلا عن الإطلاع على رموز واتجاهات هذا الأدب حتى وقت صدور هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 1967. 

 بالطبع .. لم يكن تدفق المعلومات ميسرا سهلا سريعا في العقود القليلة التالية لنكبة فلسطين عام 1948 ، كما هو عليه الحال منذ انتشار وشيوع شبكة "الإنترنت" مع نهاية عقد التسعينيات. لكن الصحف و الكتب، بما في ذلك القادمة إلى القاهرة من بيروت ، كان فيها " البركة وكفاية" كي يتشكل وعينا صبيانا وفي سنوات الشباب الباكر برموز وأبعاد القضية الفلسطينية . كما كان للأطر النقابية التنظيمية الجامعة للكتاب والأدباء العرب كاتحاد الكتاب العرب واتحاد كتاب آسيا وأفريقيا ( ومجلة الأخير الشهيرة لوتس ) دورها المهم في أن تكون مصر في سياق وقلب تفاعل ثقافي خلاق منفتح على فلسطين والعالم بأسره. ومن ينسى الاستجابات الثقافية من القاهرة تحديا لهزيمة 1967. وكان من بينها إسراع دار "الهلال" في عهد الراحل المثقف والصحفي الأستاذ "كامل زهيري" رحمه الله إلى إصدار نصوص في المقاومة للأديب الفلسطيني أميل حبيبي "سداسية الأيام الستة" مع  قصة من تراث المقاومة الفرنسية ضد النازي بعنوان "صمت البحر" لكاتب أطلق على نفسه في ظل بطش الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية لباريس" فيركور"، وذلك في كتاب واحد . 

  واليوم مع الذكرى السنوية الخمسين لاغتيال "غسان كنفاني" أيضا أعي وأتأمل كوني شاهدت فيلم "المخدوعون" لمخرجنا المصري الراحل "توفيق صالح " في منتصف عقد الثمانينيات.  وهذا بينما كنت قد قرأت رواية كنفاني "رجال في الشمس" المأخوذ منها الفيلم قبلها بنحو عشر سنوات. ولعلي كنت محظوظا لأنني شاهدت الفيلم للمرة الأولى في قصر ثقافة السينما بالقاهرة عندما عاد " صالح " من رحلة غربة طويلة خارج مصر كان خلالها قد عثر على منتج لهذا الفيلم في سورية، فأتيح له إخراجه في عام 1973 بانتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق.   

من اللحظة الأولى لاغتيال "غسان كنفاني" بتفجير سيارته في بيروت كان مفهوما إنها أيدي العدو الصهيوني. وفي 3 أكتوبر 2005 اعترف مسؤولون إسرائيليون رسميا وللمرة الأولى بتدبير " الموساد " وتنفيذه للاغتيال بأمر من حكومة "جولدا مائير " حينها، وذلك في تقرير للصحفي " إيتان هابر" نشرته صحيفة " يديعوت أحرونوت " في هذا اليوم . وأوضح التقرير أن هذا الاغتيال يتجاوز ذريعة إنزال " الانتقام " بالمقاومة الفلسطينية وبخاصة الجبهة الشعبية جراء عملية رهائن البعثة الأولمبية الإسرائيلية بميونيخ. فقد جاء في سياق حملة اغتيالات ضد شخصيات فلسطينية من غير الجبهة الشعبية أيضا ولا صلة لتنظيماتهم على أي نحو بعملية "ميونيخ" وبهدف بث الرعب بين الجاليات الفلسطينية وإرهابها . 

 في ذكرى إغتياله الخمسين، تذكرت "غسان كنفاني" ، الذي أحببت صغيرا، ومازلت أحب ، ومعه رموز عديدة من أدباء وكتاب هذا الجيل الفلسطيني الذي شهد النكبة و النكسة / هزيمة 1967.  ولعل في ذكرياتي على هذا النحو ما يدفع للتساؤل عن مدى توافر إبداعات الأدباء الفلسطينين المعاصرين حاليا في مصر .. أين هي ؟!..وهل هناك من يهتم بتوفيرها كتبا مطبوعة وإلكترونية عندنا ؟.. وهل هناك من يلفت النظر ويكتب عنها في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، ويناقشها في ندوات ومؤتمرات  ؟. 
----------------------------
بقلم: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعية

 




مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان