26 - 04 - 2024

تونس بعد 25 يوليه/جويليه

تونس بعد 25 يوليه/جويليه

- تدمير ميراث الثقة والسمعة الحسنة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات نتيجة شبه مؤكدة للاستفتاء        

العديد من المؤشرات القادمة من تونس ترجح تمرير الرئيس قيس سعيد دستوره الجديد الذي يعيد للبلاد سلطات رئاسية / فردية / مشخصنة واسعة وبلا رقابة أو توازن مع السلطات التشريعية والقضائية أو بناء مؤسسات وهيئات مستقلة. وهكذا هي وكأنها عودة لما كان كان عليه الحال قبل الثورة. نعم .. الأرجح أن يمر "دستور الرئيس" بصرف النظر عن نسبة المشاركة في استفتاء 25 يولية /جويلية الجاري. وهي المرجح لها أن تكون منخفضة متدنية. 

 ومن يتابع الشأن التونسي عن كثب، يلاحظ أن أجواء الأيام السابقة على الاستفتاء وما صحبها من اجراءات "العملية" تفتقد إلى الاهتمام الشعبي ، والثقة من قوى المجتمع المدني الوازنة ناهيك عن السياسية. وحتى إنها افتقدت كذلك إلى الجدية والمسؤولية الكافيين من السلطات، بما في ذلك رئيس الجمهورية الذي قام بتعديل نص مشروع الدستور يوم 8 يوليو وخارج الآجال التي حددها هو بنفسه لإجراءات عملية الاستفتاء.

وبالاصل فإن الاستفتاء ـ وللأسف ـ يفتقد إلى ما عرفته تونس في طريق التوصل إلى دستور يناير 2014 المسمى بـ "دستور الثورة " والقائم على صيغة " العقد الاجتماعي" على مدى ثلاث سنوات من نقاشات ساخنة وتحركات جماهيرية في مختلف أنحاء تونس. ولعل من عاش في تونس فترات طويلة يدرك بالأصل أن الصيف، وبخاصة شهرا يوليو وأغسطس، يصدق عليه بالأصل وصف "الموات أو البيات السياسي". فالأنشطة السياسية والعامة نادرة جدا، فيما ينطلق الناس إلى العطلات والشواطئ، ويرتفع منسوب السهرات في المهرجانات الفنية والغنائية بطول البلاد وعرضها . وفي هذا وغيره مظاهر وعادات صيفية مازالت تجتذب اهتمام وتستوعب طاقة أبناء الطبقة الوسطى على نحو خاص.

 ولكن من النتائج شبه المؤكدة لاستفتاء 25 يوليه هو تدمير ميراث الثقة و السمعة الحسنة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وهذا بعدما قام الرئيس قيس سعيد بالإطاحة بمجلسها المنتخب ( قيادتها ) من البرلمان بعد طول عناء وتوافقات صعبة وقام بإحلال معينين بإرادة الرئيس واختياره كرأس للسلطة التنفيذية بدلا من أعضاء المجلس المنتخب. وهي سمعة اكتسبتها هذه الهيئة الفريدة في محيطها العربي تحت أعين وبشهادة آلاف من الملاحظين والصحفيين المحليين والأجانب، ومعها الهيئات الدولية المعنية استحقاقا تلو آخر منذ انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011. صحيح أن تاريخ الهيئة لم يخل من الأزمات، كما أن للبعض مآخذ على القانون الانتخابي. إلا أن الهيئة كانت محل تقدير واحترام وتكريم على النطاق الدولي، وعلى نحو وضعها في مراتب متقدمة بين مثيلاتها في أفريقيا، بل والعالم بأسره. والأهم أنها منحت الانتخابات العامة عند المواطنين التونسيين ثقة لم تعرفها من قبل. ثقة في أن صوت الناخب سيسجل ويذهب وفق ما أراد هو، لا أي سلطة في البلاد. وهذا بصرف النظر عن تآكل الثقة في الحياة السياسية ومكوناتها، والانخفاض المتتالي في نسب المشاركة في الانتخابات. 

 واللافت أن دستور قيس سعيد زاد من معارضيه ومعارضي مسار الانقلاب على البرلمان ودستور 2014 . فعلا هم تزايدوا على نحو كبير واضح . وحتى من منح الرئيس قيس سعيد تأييده وإلى محطة القبول بالمشاركة في اللجنة "الاستشارية" لوضع الدستور الجديد تراجع العديد منهم عن المضي معه مع بلوغ محطة الاستفتاء . ويكفينا أن نشير إلى التحولات التي طرأت على مواقف مكونات كبرى في المجتمع المدني كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بما لها من ثقل تاريخي وحداثي. وكذا إلى رئيس اللجنة نفسه أستاذ القانون الدستوري "الصادق بلعيد" المعين من سعيد ، والذي أحرج الرئيس التونسي بنشر المسودة الأصلية التي تقدم بها إليه ، مؤكدا أنه لا صلة لها بما يطرحه الرئيس للاستفتاء"،وحذر من الانزلاق إلى الاستبداد وحكم الفرد، ولو متأخرا. 

لكن زيادة أعداد المعارضين واتساع المعارضة لا يعني القدرة على التوحد والفعالية. فقد ظل معارضو الرئيس مشتتون بين خياري المقاطعة و التصويت بـ (لا). كما ظل يشطر المعارضة الانقسام الحاد حول إمكانية التحالف مع حزب حركة النهضة والاقتراب من جمهوره. ناهيك عن عدم حسم اتحاد الشغل أكبر تنظيم نقابي وجماهيري في خياراته السياسية إزاء الدستور ومصير العلاقة مع الرئيس قيس سعيد.

 للرئيس قيس سعيد نفسه تصريحات سابقة لا تثق في آلية وشرعية الاستفتاء في عالمنا العربي. وقد كرر هذه التصريحات على الأقل في مناسبتين موثقتين عامي 2013 و 2017، وبوصفه متخصصا في القانون الدستوري شدد على عدة مفاهيم في هذا السياق منها  أن "الاستفتاء من أدوات الديكتاتورية المتنكرة"، أن " الشعوب العربية لا تصوت بلا بل تصوت بنعم بكثافة"،  والثالث أن "الاستفتاء يجرى على صاحب المشروع " أي السلطة ورأسها. 

وعلى الطريقه العربية سيئة السمعة في الاستفتاءات منذ عقد الخمسينيات، فإناستفتاء 25 يوليه / جويلية يجرى بنعم أو لا واحدة يتيمة على الرئيس قيس سعيد. ولا يجرى بالطبع على كل فصل من فصول الدستور المقترح (142 فصلا ). ولذا فالأرجح أن الرئيس قيس سعيد سيخرج من هذا الاستفتاء وقد أصيب بدوره بأضرار تضرب في شرعيته. فقد وضع نفسه وبنفسه في اختبار صعب.

 وعلى الأقل وفي الحد الأدنى فإن المشاركة في الاستفتاء أمامها نسبة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها في أكتوبر 2019 (55 في المائة من المسجلين حينها) ونسبة الناخبين الذين منحوه حينها تأييدهم في مواجهة منافسه "نبيل القروي" رئيس حزب قلب تونس (نحو 72,7 في المائة) . وفي  الحالتين هو أمام رقمين صعبين هما: نحو 3,9 ملايين صوت شاركوا في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة و 2,8 ملايين منحو "سعيد" تأييدهم . وهذا حتى ولو تحولت هيئة الانتخابات هذه المرة من  التسجيل الاختياري للناخبين إلى ما يسمى بـ"التسجيل الآلي" لكل من بلغ السن القانونية لممارسة الحق في الانتخاب / التصويت لتتمدد جداول الهيئة الناخبة من 7,2 مليون في انتخابات 2019 إلى 9,3 ملايين مع استفتاء 2022.  وعلما بأن عدد من شاركوا في  انتخاب المجلس التأسيسي أكتوبر 2011 الذي وضع دستور2014 وبتأييد 200 من اجمالي 217 نائبا كان 4,3 ملايين ناخب.  

وفي كل الأحوال فإن المشهد في تونس بعد 25 يوليه / جويلية مرشح لتحولات وتقلبات تطرأ على الخريطة السياسية مع ضغط المشكلات الاقتصادية الاجتماعية التي لا يملك الدستور ولا الرئيس قيس سعيد لها حلولا في الأفق. والأرجح هو تزايد واستفحال منسوب عدم الاستقرار المتعدد الأوجه، وتعميق أزمة الثقة ضد الرئيس ومعه من يدعمه ، بمن فيهم رموز وقوى الثورة المضادة المحسوبين على عهد الدكتاتور "بن على". وكذا هذه العناصر القومية الناصرية التي انقلبت على مكتسبات الثورة التونسية بزعم أنها كانت "ديمقراطية فاسدة"، مع أنها شاركت فيها واستفادت منها سياسيا وجماهيريا وتنظيميا وبالدخول إلى مؤسسات الحكم والدولة على نحو غير مسبوق . 

 ومع هذا، فإن الصراع من أجل الديمقراطية في تونس لن يتوقف في ظل دستور 2022. بل هو مرشح للتصاعد والتجذر. وهذا لأن كل خطوة في اتجاه العودة إلى الاستبداد وحكم الفرد والسلطة المشخصنة ستستدعى وتستنهض مقاومتها. وإذا ما قدر للرئيس قيس سعيد المضي في برنامجه بإجراء انتخابات تشريعية بحلول 17 ديسمبر المقبل فإنها ستجرى ـ على الأرجح ـ في مواجهة معارضة ومقاطعة أوسع وأكثر خطورة تجرح شرعية النظام بأسره. كما ستعاني ما سيعقب الدستور الجديد من آثار وتداعيات واقع مرتبك يدعو للتصادم.  وهذا إذا افترضنا إجراءها في هذا التوقيت. 

في مقال سابق بتاريخ 18 أغسطس 2020  على صحفات "المشهد " وتحت عنوان :" هل أنت قلق على تونس؟" كتبت عن صعوبة وضراوة وامتداد الصراعات حول بناء الديمقراطية بعد طول استبداد وفساد وتخلف وفي محيط إقليمي معاكس. وهو فعلا محيط يزدحم بأعداء الديموقراطية ومجهضي انتفاضات وثورات الشعوب، ناهيك عن الرغبة العارمة لتل أبيب وحلفائها في أن تزعم بأن "إسرائيل تظل الديمقراطية الوحيدة في المنطقة "، وبأن " العرب لا يصلحون للديمقراطية ولا يستحقونها، وليس لهم إلا البقاء أسرى الحاكم الفرد والتخلف والفساد وغياب المؤسسية". 

والآن .. بعد 25 يوليو يدخل التونسيون إلى مرحلة جديدة من الصراع حول الديمقراطية والحريات والحقوق ، وربما يبدو وكأنها تبدأ من نقطة أدنى وأكثر تخلفا من كل المنعرجات والأزمات التي عاشوها بعد الثورة. لكنه صراع سيجد قوى تتقدم لتخوضه واستنادا الى خبرات ومكتسبات نحو 11 سنة مضت. وخصوصا وأن لا دستور الرئيس ولا الرئيس نفسه يملكان حلولا عاجلة ناجزة للأوضاع التي وظفتها الثورة المضادة من أجل بناء قطاعات مهمة من الرأي العام مهيأة لإعادة انتاج حكم الفرد والسلطة المشخصنة وللانقضاض على مكتسبات الثورة في الحريات والحقوق السياسية خلال السنوات الفاصلة بين 2011 و 25 يوليو 2021.

تونس بعد 25 يوليو / جويلية 2022 على أعتاب حلقة أخرى في الصراع من أجل الديمقراطية والحقوق والحريات. ولعله يتضح اليوم بأن هذا الصراع أبعد وأطول وأعقد من المتوقع. طريق طويل حافل بالمنعرجات والانتكاسات .. والمطبات أيضا. والنتائج تظل غير محسومة.
----------------
تقرير: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعي






اعلان