28 - 03 - 2024

التمدد عبر المكان .. رحلة ممتعة مع أسفار وحوارات د. عواطف عبدالرحمن في العالم

التمدد عبر المكان .. رحلة ممتعة مع أسفار وحوارات د. عواطف عبدالرحمن في العالم

كتابة استثنائية في أدب الرحلات تطوف بنا 52 بلدا في القارات الخمس
ويني مانديلا بطلة ضحت بسمعتها لعدم استدراج زوجها، وميتران على مقهى دون حرس ولا استعراض

في تقديمها لكتابها أسفار وحوارات في أفريقيا والعالم ذكرت د. عواطف عبدالرحمن مقولة جراهام جرين الذي كان يقاوم الحياة بالتمدد عبر المكان من خلال الأسفار والتمدد عبر المكان من خلال الكتابة وقد أحسنت حين شاركتنا خبراتها الحياتية والمهنية أثناء انتقالها إلى عدد من البلاد ، ضمن رحلاتها إلى 52 بلدا في القارات الخمس زارت بعضها أكثر من ست مرات في أزمنة مختلفة ، وتابعت نمو حركة الحياة بها من خلال مشاركتها في المؤتمرات أو الدراسة لعام كامل في باريس أو الانتماء لحركة التحرر الأفريقي ، وكانت النتيجة هذا الكتاب الممتع في أدب الرحلات. ولأنها أستاذة في مناهج البحث استفادت من علمها في وضع منهج بسيط سمح للقارئ بالتجول معها في كل قارة على حدة ، بالإضافة إلى الدول العربية واختتمت كتابها بفصلين شديدي الطرافة الأول عن الجنازات وطقوس فراق الأحبة والثاني عن السرقات التي تعرضت لها.

 بدأ أدب الرحلات بالمرويات التي تنقل سيرة الناس غير المستقرين في أماكن ثابتة ثم أطلق المصطلح على ما يكتب عن الرحلات التي تنقل صورة الأماكن وحركة المجتمعات والأحداث في فترة معينة من خلال عين الكاتب ومشاهداته الحية وقلمه الذي ينقل مشاعره وأراءه فيما يجري على أرض الواقع ، ولهذا الأدب وظيفتان واحدة معلوماتية والثانية أخلاقية ترصد أنماط السلوك ، وقد برع في هذا النوع من الأدب ابن بطوطة وماركو بولو والمسعودي والمقدسي والبيروني ورفاعة الطهطاوي وحسين فوزي وابراهيم عبد المجيد والغيطاني ويوسف القعيد والعديد من الكتاب في كل أنحاء العالم ، وقد لا يعرف معظم القراء أن المرأة كان لها نصيبًا أيضًا وبدأت رحلاتهن بإخفاء الهوية والتنكر في زي الرجال ، ومنهن سيدونيا تسونم التي ولدت 1711م وتنكرت في زي فارس والسويسرية ايزابيلا إيبرهارت ولدت 1877 تنكرت في زي تاجر عربي وسافرت إلى المغرب والجزائر وتجولت في الصحراء باسم محمد والأميرة سلمى بنت سعيد التي هربت من قصر السلطان العماني في زنزبار وتنازلت عن الرفاهية لتعيش مع تاجر ألماني أحبته وكتبت عن رحلتها في مذكراتها بصفتها ولم تتنكر وهي من مواليد عام 1844م وطبعا مي زيادة وجاذبية صدقي ونوال السعداوي ولطيفة الزيات وأمينة السعيد وكريمة كمال وفاء عوض، جيهان الغرباوي وسلوى الحمامصي ، ويتسع هذا النوع من أدب الرحلات للروايات التي تدور أحداثها من خلال رحلة ومنها بعض روايات نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وأرنست هيمنجواي وجول فيرن ودانيال يفو صاحب رحلات روبنسون كروز وعيسى بن هشام وتوفيق الحكيم ومارك توين والعبد لله في روايتي "مطر على بغداد".

شهادة على العصر 

من هنا أستطيع أن أقول إن كتاب د. عواطف عبد الرحمن سيرة ذاتية تعكس الجانب الإنساني للبلاد التي زارتها وعلاقة مصر بها من خلال تغطية المؤتمرات العلمية التي شاركت في فعالياتها ، وهو أيضًا شهادة على العصر رسمت صورة للقضايا المعاصرة والظروف والمناخ واهتمامات الناس في هذا الوقت قدمتها صحفية وباحثة وأستاذة جامعية متخصصة في الإعلام ومناضلة مصرية دفعت أثمانًا باهظة للدفاع عن رأيها. 

كتابة جديدة على أسلوب د. عواطف عبد الرحمن العلمي الدقيق تألقت حين ابتعدت في بعض الفصول عن طرح الأفكار السياسية والدخول في مناظرات فكرية والرد على الاختلافات التي تُطرح داخل أروقة المؤتمرات ، كتبت وهي تتأمل المدن والبشر حتى تكاد تكون المشاهد المطروحة قصصا قصيرة ، ومنها الفصل المعنون دردشة على مقهى في باريس وفيه تصف أحوال المارين في الشارع ، ملابسهم وحالاتهم النفسية وحرصهم على الموضة من عدمه بل وبؤسهم أيضًا وتعقد مقارنة بينهم وبين بعض مثل الفتاة الباريسية التي تحمل كلبًا صغيرا مترفًا تبلغ تكلفة الاعتناء به أربعة الاف فرنك في حين أن طالب بعثة من العالم الثالث يمر في نفس المكان منحته الدراسية لا تزيد عن ثلاثة الاف ونصف فرنك فقط. وتقارن بين مشية الانسان الأوربي الواثق من خطوته ومشية طالب جزائري منكسر أو امرأة عربية يحمل وجهها التعاسة على عكس الوجوه الأخرى المستبشرة. مشهد مكتوب ببراعة وبلغة غير تقريرية تتضافر مع المشاهد التي كتبت فيها عن جمال المدن وسحرها ومنها ثلوج جبال كلمنجارو التي رأتها من أعلى نقطة والزخم الأفريقي للحياة والحركة مع الناس والأطفال.

ملمح ثان في هذا الكتاب الذي قدم لنا عالمين لعواطف عبد الرحمن الأول في القاهرة قبل السفر وهي تعيش مع أم مريضة كبيرة السن تحاول على مدار هذه الرحلات أن تدفع بابنتها إلى النجاح وحيرتها في تركها أثناء السفر مع أصدقائها من الجيران والأحباب ومعاناتها في الجامعة وصراعها مع البيروقراطية والعمل. الكاتبة الساخطة على انتحار الطالب المتميز عبد الحميد شتا الذي فجعته تأشيرة غير لائق اجتماعيا ومنعته من التعيين في وزارة الخارجية رغم تفوقه في دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية. والحالة الثانية لعواطف عبد الرحمن المشاركة في المؤتمرات الراحلة إلى المجهول ، المشاكسة الواقعة باستمرار في مآزق مع السلطات والبوليس والظروف السياسية والمقالب الأمنية وغيرها. أي أنها قدمت لنا ما تحمله من هموم خاصة وعامة تعرفنا فيها على أفكارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضًا على مدى فصول الكتاب وكلها تم عرضها ببراعة عدا نقطة واحدة احتفظ لنفسي بالحق في معارضتها وسيأتي هذا في حينه.

 رأيناها في أحد الفصول وهي تمنع من النزول من الطائرة في مطار نيجيريا فتستعين بأحد طلابها الذي قابلته مصادفة هناك لييسر إنزال حقائبها وبمجرد دخولها المطار تفاجئ بالبوليس يستدعيها للتحقيق لأكثر من ثمانية عشر ساعة حتى ينقذها البروفيسور الذي كان يقضي أجازته في منتجع بعيد بمناسبة عيد الفصح، يقطعها لينقذ هذه السيدة التي جاءت إلى بلده لتطور الإعلام او تساعد في ترسيخ فكرة الحرية أو النضال أو أي فكرة من الأفكار التي تحملها عواطف عبد الرحمن في حقيبتها على الدوام.

  الكتاب أيضًا يرصد محطات للعلاقات الإنسانية بينها وبين أهل كل بلد حطت به والتفاصيل كثيرة للغاية منها زيارتها لمساندة المتضررين من القحط في بوركينا فاسو ، والبحث عن أطفال الشوارع الفقراء في البرازيل ، والعلاقة بينها وبين المناضلين المنفيين من بلدانهم، علاقة لعبت فيها الصدفة دورًا غريبًا بعد أن تحول عدد كبير منهم بقدرة قادر من مناضل فقير منفي إلى رئيس جمهورية ، ولو عرف المناضلون هذا من وقت مبكر لسعى المزيد منهم للتعرف على د. عواطف. 

من بين هذه الشخصيات الفذة نلسون مانديلا وزوجته ويني والرئيس الزيمبابوي موجابي وزوجته سالي التي حدثتها عن الحصار الذي تتعرض له النساء الأفارقة، والرئيس جواشو نكومو الذي قضى في القاهرة أربع سنوات ساندته فيها القيادة السياسية المصرية لنيل استقلال بلاده، والرئيس الجزائري هواري بومدين الذي عرفته في ظروف أخرى في القاهرة أولا مع الزعيم جمال عبد الناصر ثم في الجزائر. والرئيس سام نجوما رئيس ناميبيا الذي التقته بعد أن ركبت ثمان طائرات لتصل إلى بلاده آخر البلاد المحررة في أفريقيا قبل جنوب أفريقية بالطبع، وقد حدثها عن النهوض ببلاده والحرص على وحدتها وضرورة استعادة فلسطين وأيضًا لقاء الصدفة مع الرئيس الفرنسي ميتران الذي بادرها في الشارع قائلا: نعم أنا هو! ودعاها إلى فنجان قهوة وهو يتحدث عما قدمته الحضارة المصرية القديمة للتاريخ الإنساني.

صورة أخرى لويني مانديلا

ما أدهشني فيما كتبته عن ويني مانديلا التي داومت على مراسلتها لسنوات طويلة هو تضحية هذه السيدة العظيمة بزواجها من أجل مصلحة البلاد وحتى لا تؤخر أو تعرقل المباحثات التي بدأها زوجها لإنهاء النظام العنصري في جنوب أفريقيا، بعد أن جروها إلى المحاكم بتهم ملفقة لجر الزعيم للدفاع عنها، وكلنا كنا نظن أن هذه السيدة قد طلقت بسبب خيانتها لزوجها وكنت أتساءل بيني وبين نفسي كثيرًا لماذا انتظرته طوال هذه الأعوام دون أن تطلب الطلاق ودفعت أثمانًا باهظة لتربية أولادها منه وانغرست في صفوف الفقراء لتدافع عن حقوقهم وكرامتهم وحيدة وعانت من تقلبات في معدتها كل أسبوع طريحة الفراش بعد زيارته له في السجن مستخدمة مركبًا يقطع البحر إلى الجزيرة وسط تيارات متقلبة، ثم فور خروجه تقرر أن تخونه؟ تعجبت لكني لم أفكر أبدًا أنها ليست الحقيقة ، وأني وغيري تعرضنا لخديعة إعلامية كبرى حين وجدت هذه السيدة المحبة الوفية نفسها ستدخل في تحقيقات مقصود بها اصطياد زوجها قررت الابتعاد يا إلهي في أي عالم نعيش؟ الأعجب هو الصدفة التي قادت المؤلفة إلى جوهانسبرج لتشهد لحظة قرار الطلاق التي صدرت من مجلس الحزب بناء على طلبها.

كتبت عواطف عبد الرحمن لقاءها الأول مع مانديلا ببراعة والحقيقة أن الجزء الأفريقي من الكتاب فيه هذه المحبة التي تميزه عن معظم الزيارات ربما لأنها ولدت على نفس الأرض وأن مشاكل البشر تتشابه تحت الانتماء لنفس المبادئ والقضايا.

وجهت في أحد المقالات الانتباه لكتاب بعنوان أمهات الثورة صدر في زيمبابوي بعد الاستقلال عام 1980 رصد ما يقرب من 500 امرأة حافظن على قيم المجتمع أثناء انشغال الرجال بالكفاح المسلح ، منهن شينا ماو التي سجنت مع زوجها 15 عاما تاركة أطفالها مع الجيران والكينية د. ونجاري ماتاي التي نجحت في زراعة 30 مليون شجرة وكسب زوجها معركة طلاق لأن القاضي اعتبر أن كفاحها جعلها في نظره مسترجلة ولا تصلح للزواج. 

تحدثت عن سفراء مصر في أفريقيا وأشادت ببعضهم ، خاصة السفراء: أحمد صدقي وأحمد حجاج وحسن الصدر والسفير عبد الله الأشعل لدوره في نشر السلام في منطقة البحيرات العظمى التي تضم أوغندا وبوروندي وروندا والكونغو والتفاوض لوقف الحرب الأهلية بين راوندا وبوروندي التي أودت بحياة مليون ونصف مليون مواطن. وقد توقفت طويلا عند تساؤلها عن الحصار الذي فرضه وزير الخارجية المصري على السفير عبد الله الأشعل لإجباره على الاستقالة المسببة وإهدار كفاءة نادرة، ولم أجد إجابة.

كتبت أيضًا مشاهدات من زياراتها لغانا ونيجيريا وزيمبابوي وكينيا والصومال وإريتريا ومنابع النيل في أوغندا ، وقد لاحظت العديد من أوجه التشابه بين الأحداث في هذه البلاد التي نالت استقلالها وقت زيارات الكاتبة منها: أحلام الثورات في النهوض بالبلاد ومواجهة البطالة والاقتصاديات المنهارة والفقر والجهل رغم الثروات المتاحة وعنجهية المستعمرين أصحاب البشرة البيضاء والعائدين من المنافي الذين رأتهم يقبلون الأرض التي تركوا فيها عائلاتهم وأعمالهم هربا من السجون والاضطهاد ، والسرقة التي تطورت في بعض الدول لتتخصص في سرقات الانترنت للبنوك والافراد ومنها نيجيريا، والعنف الذي تحور إلى عنف ديني وأنتج أمثال بوكو حرام. كلها ملاحظات مهمة ترسم صورة حقيقية مباشرة لما يحدث على أرض القارة. 

تناقضات في زيارات العالم العربي

طبيعي أن تكون أول زيارة تقوم بها عواطف عبد الرحمن في العالم العربي للجزائر من أجل استكمال دراستها للدكتوراه عن صحافة الكفاح المسلح وتحديدا عن صحيفة المجاهد ، وقد وصفت فيها بمحبة كبيرة دور الرئيس هواري بومدين الذي التقته أثناء تكريمه في القاهرة في دعوتها إلى بلاده وتسهيل مهمتها وتخصيص المجاهدة الجزائرية صفية المهدي الأمين العام لاتحاد المرأة مرافقة لها ، بالإضافة إلى سيارة تأخذها إلى منازل المجاهدين الذين حرصوا على تزويدها بكل المعلومات التي تيسر بحثها كأول صحفية توثق ثورتهم تاركة طفلها هشام الذي لم يبلغ العامين. من هذه الصورة تنتقل إلى صورة أخرى متناقضة واجهتها في الجزائر عام2014 أثناء الاحتفاء بذكرى الثورة حين منعت من إكمال إلقاء كلمتها بسبب تعرضها للتحولات التي جرت في الجزائر بعد أن نضبت على حد قولها ينابيع العطاء الثوري والتهم الفساد وسوء الإدارة الثمار الطيبة التي ارتوت بدماء الشهداء. ونقلت لنا كيف اشتعلت القاعة بالتصفيق لهذا الرأي في حين أسرع المسئول الرسمي بمقاطعتها ، ودار جدل حول لماذا تنتقد الأوضاع في الجزائر ولديها مثلها في مصر فلما ردت بأن المصريين قاموا بثورة لتصحيح الأوضاع اشتعل الموقف ، فأعلنت أنها بمجرد عودتها ستعقد مؤتمرا صحفيا في نقابة الصحفيين في مصر تندد فيه بالواقعة ، سارع المثقفون الجزائريون باحتواء الموقف، وتقبلت هذا وفزنا نحن القراء بمزيد من المعرفة عما يجري في بلادنا من صراعات حول الحرية. 

من الجزائر إلى لبنان للقاء مع السيد حسن نصر الله والقضية اللبنانية والكفاح ضد إسرائيل وتناقضات الواقع اللبناني ومنها إلى الجولان وقضايا تحرير الوطن ، إلى لقطة زفاف بين فتاة تعبر الحدود وحيدة بعد الحفل ويقف أهلها على الضفة الأخرى يودعونها بعيون باكية هكذا قدر من لم يستطع حتى الآن تحرير أرضه. ومنها إلى الخليج في أول زيارة إلى السعودية وهي زيارة تمتلئ بالتساؤلات حول الأنماط التي يصدرها الاعلام للمرأة هناك النساء التي ارتبكت أمامهن وهن بالعباءة السوداء ثم عرفتهن بشكل آخر بعد أن خلعنها داخل صالات المؤتمر أثناء القائهن أبحاثهن في الاقتصاد والتاريخ والاجتماع واللغة والجغرافيا والتربية والعلوم وبوابات المعرفة الحقيقية التي فتحتها لها بعض المثقفات ومنهن حصة المبارك والشاعرة فوزية أبو خالد. 

تونس محطة مهمة في رحلاتها العربية وبعيدًا عن الكلمة التي ألقتها في لقاء المبدعات العربيات في سوسه عن المعوقات التي صادفت حياتها في طريقها إلى النجاح جاءت اللقاءات والحوارات خارج الرسميات لتقدم صورة لحقيقة ما يدور من صراع داخل المجتمع التونسي بين الليبراليين واليساريين والمستقلين وشباب الإسلاميين والهجوم سواء بالازدراء أو الأسلحة البيضاء على الأنشطة الفنية والإبداعية والندوات الفكرية على عكس ما يتصوره المصريون عن الحالة في تونس.

الهند وتنوعاتها

نصيب وافر من الرحلات الأسيوية من خلال بوابة الهند بسبب طبيعة العلاقات المصرية الهندية من ناحية والزيارات العديدة التي بلغت خمس زيارات تجولت فيها الكاتبة بين ربوع شبه القارة الهندية لترصد مجتمعها وعقائدها وأساطيرها ، ومنها إلى الصين إلى حيث الغناء على مائدة الطعام وشعار لا تحزن وأنت على قيد الحياة إلى الطقوس المقدسة للطعام كأنه صلاة باعتباره أحد مباهج الحياة. حكت ببراعة كيف تخصص الأحياء المختلفة ساعتين يوميا في الميادين للغناء والرقص الشعبي من أجل نوم مريح هانيء وأنهم أوصوها بنقل الفكرة إلى مصر. تذكرت دعوات تحريم الغناء والرقص والإسلام منها براء وقلت لنفسي الوعي الوعي الوعي. تحدثت عن العمل والمرأة الصينية وعن ثقافة الكوكاكولا أي ثقافة الاستهلاك الغربي وزارت الجامعة وهناك قدموا لها أعمال توفيق الحكيم ويوسف ادريس واحسان عبد القدوس مترجمة إلى الصينية وأخبروها أن هذا القسم قد انشيء عام 1936.

 ومن الصين إلى معجزة سنغافورة التي رأتها نتيجة منطقية للإيمان بالعمل والنظام ومنع الفساد وأنها صناعة الإنسان وليست وليدة المعجزات بعد أن شرحوا لها أن سر نجاحهم هو التعليم وأن لديهم أكبر عدد من العاملين في تكنولوجيا المعلومات. وأنهم يقدمون جوائز مستمرة للعاملين المجتهدين. ولديهم نظام مصرفي متطور يسبق العصر ، العجيب أنها سمعتهم ينتقدون برامج تعليمهم التي لا تعطي فرصة للطالب للابتكار والخيال!

زيارة كوالالمبور عام 1998في ماليزيا أعطت صورة مشرفة لاندماج الأعراق والأفكار والثقافات المختلفة لقبائل المالي والمجموعة الصينية والقبائل الهندية فهم يعيشون معا وليس في أحياء خاصة بكل مجموعة وهم شعب يقدس الوقت والتنظيم والانضباط ولديهم دعاة مستنيرين ، ومنها إلى البنجا لور الحديقة الهندية الخضراء مع منظمة نساء العالم الثالث في هذا الفصل تحدثت عن وحدة المعرفة والنساء يبحن في شرح تجاربهن بمتاعب الأعباء الملقاة على المرأة، ثم إلى كوريا الجنوبية حيث أحفاد الشعب الذي تخلص من مهانة الاحتلال الياباني واكتشافها للعدد الكبير من الباحثين الذين يعرفون العربية وتعلموا في الأزهر.

الأسبان والتراث الأندلسي 

اكتشافات أخرى في القارة الأوروبية بدأت بفرنسا حيث قضت عامًا دراسيا بمنحة من اليونسكو إلى مناقشة رسالة الدكتوراه المقدمة من الشاعرة صفاء فتحي ومقابلة بالغة الطرافة مع الطعام الصعيدي الذي طهته والدة صفاء احتفالا بإنهاء دراسة ابنتها ، في واحدة من زياراتها قابلت الرئيس فرانسوا ميتران وتقول : "حين أخبرته عن حياتي وأني تركت في مصر طفلا وحيدا بعد الطلاق قال: لا يزال أمام المرأة في بلادكم مشوار طويل كي تتحقق انسانيتها وعليها أن تتحرر اجتماعيا من الموروثات قلت: نعم لقد بدأنا وسوف نواصل ، اعتذرت وانصرفت وانا تملؤني الحسرة ، رئيس فرنسا يجلس في مقهى دون حرس ما اتعس حكامنا المنعزلين خلف الأسوار والأبراج"

من باريس إلى أشبيلية حيث الماضي الإسباني المزدهر والمؤلم للعرب على حد سواء ونقلت مشاعرها حول لصق لوحة كئيبة لإحدى الكنائس في صحن مسجد عبد الرحمن الكواكبي أعظم وأكبر المساجد الإسلامية وكيف تحدثت مع المرشد السياحي مستنكره غياب اللوحة التي تجسد لقاءات ابن رشد مع تلاميذه ومريديه.

 توقفت قليلا عند وصف د. عواطف عبد الرحمن لما فعله الإسبان الذين استفادوا بالتراث الأندلسي واستثمروه سياحيا وثقافيًا بالحقد غير الحضاري. لا شك أن الحضارة العربية في الأندلس تركت آثارا مثمرة في العلوم والفنون والعمارة لا يمكن انكارها ، لكن في النهاية هي بلاد الإسبان وما فعلوه كان تحريرا لأرضهم والمشكلة شديدة التعقيد لأن مرور ثمانمائة عام على دخول العرب إلى إسبانيا أوجد أجيالا من البشر لا يعرفون غير إسبانيا موطنا لهم وما جرى من محاكم التفتيش والترحيل والسجون أوجد ظاهرة المورسكيين التي نعرف مأساتها وقد تخطت إسبانيا هذا حين دعت للاحتفال عام 1992بمرور خمسمائة عام على التعايش. بالصدفة كنت أحضر هناك مهرجانا لمسرح البحر المتوسط شاركت فيه مصر بمسرحية كاليجولا بطولة نور الشريف ، وكانت إسبانيا تراجع نفسها في موقفها من حضارة الاندلس ومن مذابح اليهود وأعلنت أنها تعتبر الاندلس جزءً من تاريخها وتعيد النظر فيما حدث ومن هذه اللحظة بدأت رعاية الآثار الإسلامية تأخذ منحى آخر. ما أريد أن أقول إننا لا يجب أن نكيل بمكيالين لأننا أكثر شعوب الأرض معاناة من اختلاف المكاييل في تعامل الغرب معنا خاصة في قضية فلسطين.

 في زيارتها إلى أمريكا اللاتينية بدأت بساو باولو عاصمة البرازيل ووقائع المؤتمر الثامن عشر للرابطة الدولية للإعلام وقالت أنها ذهبت محملة بكل ما تعرفه عن هذه القارة الساحرة صاحبة الثورات المفعمة بالأمل ونماذج الثوار جيفارا وسلفادور الليندي وأعمال الأدباء الكبار؛ الشاعر بابلو نيرودا وباولو فيريري وجورجي امادو وميخائيل نعيمة وجارسيا ماركيز وايزابيل الليندي ، زيارة خلقت تداع لا نهائي للأفكار لأنها الوطن الثاني الذي اختاره المهاجرين العرب وغرزت الحرف العربي في وديانها منذ القرن التاسع عشر فتميزت بالصحف العربية التي بلغت 46 صحيفة. لا تنسى د. عواطف عبد الرحمن أنها صحفية فتطلعنا باستمرار على أحوال الصحف وتأثيرها ومشاكلها على مدار الكتاب كله ، وذكرت أن البرازيل بلد متخم بثرواته وفقرائه : 140 مليونا يعيش منهم 105 ملايين تحت خط الفقر وأنها حضرت مظاهرات للمعارضة تطالب بتنحية رئيس الجمهورية فرناندو دو ميلو بسبب الفساد المالي والإداري وأنها سافرت إلى مدينة ريو دي جانيرو ، وقالت أنها شعرت في المدن بأجواء لبنان البيوت البيضاء الصغيرة تتوسطها النافورات والنوافذ ذات أصص الزرع والورود الملونة وزارت المكتبة الوطنية وكان احساسها بالألفة ممزوجًا بالبهجة ، وتحاورت لمدة سبعين دقيقة مع المفكر الكبير باولو فريري في بيته عن التعليم التربوي في دول الجنوب وقال لها ان هؤلاء الناس البسطاء عندهم ذخيرة إنسانية تفوق كثيرا مما يعرفه علماء الاجتماع والتربية.

لقطة جميلة كتبتها أثناء زيارتها لمدينة بورتو لا جيري عن جلستها في مقهى وحولها بائعين للتحف والأصداف ، أثارت انتباهها لوحات جدارية كبيرة يرسمها الشباب فلما سألت عنها عرفت أن هناك مسابقة سنوية كبيرة تقيمها البلدية لاختيار الفائزين ومن هنا جاء التميز الفني للمنطقة.

ومن البرازيل إلى المكسيك حيث ثورة اميليانوا زاباتا مازالت مستمرة عند أحفاده الهنود الحمر الذين يرفعون شعار الحرية ضد جلاديهم ، ثم كولومبيا حيث أسطورة تاجر المخدرات اسكوبار الذي أطلق عليه الفقراء اسم روبين هود بسبب رعايته لهم وتختم الرحلات بأشواق المصريين في استراليا ومقال عن راقصة روسية رأتها في مصر.  

في نهاية الكتاب يرد فصلان مهمان جدا الأول بعنوان: طقوس الاحزان في الأمصار والأوطان ، تحدثت فيه عن الطقس الفرعوني والإفريقي خاصة في نيجيريا التي حضرت بها وداعين ولاحظت اختلاف الطقس نفسه تبعا لعمر الراحلين إذا كان الشخص كبيرا في السن وقضى مهامه في الحياة لبسوا شريطًا من اللون التركواز المبهج على الرأس وتضمن الحفل رقصا وغناء وطعاما فاخرا احتفالا بعودة المتوفي إلى أهله الذين رحلوا قبله ، ويختلف الأمر مع وفاة شاب أو طفل صغير ولأن الأم تكون مكلومة لفقد ابنها يبدأ المشاركون أيضًا بالرقص من أجل الهائها والتخفيف عنها، وقارنت ذلك مع الطقس الياباني الذي يتم بالصلاة أمام تماثيل مقدسة في المعبد ثم طعام خفيف. وأخبرتنا عن أن طقس حرق الجثمان في الهند يحضره المقربون وحدهم ثم يشارك الآخرون في الوداع بنثر رماد الجثة في النهر ، والفروق بين هذه الطقوس والمشاعر في آسيا وأفريقيا وبينها في فرنسا ، وحكت قصة جارة تركت مفتاح البيت للحارسة لتقوم نيابة عنها بمهام دفن أمها التي توفيت في نفس العقار ، وتحدثت عن الموت في الصعيد ووضع الطين على الرأس حزنًا وعدم السماح بإيقاد موقد والاكتفاء بقراءة القران وقارنت مع العزاء في القاهرة حيث الطقوس أبسط، وأكثر خصوصية.

الفصل الثاني وهو فصل طريف جدًا حدثتنا فيه عن السرقات التي تعرضت لها ومنها سرقة حقيبة يدها داخل فندق فرنسي بما فيها من جواز سفر وأوراق ونقود ولجوئها إلى القنصلية المصرية لإصدار وثيقة سفر رسمية بديلة تتيح لها دخول بلدها واضطرارها لقبول مساعدة المفكر الكبير د. مصطفى صفوان للحصول على ثمن التاكسي إلى المطار. 

قصة أخرى مخيفة بدأت بوضع شاب نيجيري مطواة في خصرها اثناء تجولها في السوق ثم خطف حقيبتها ، وسرقة ثالثة في سوق الحميدية في دمشق تمت عن طريق سيدة اقتربت منها وسلت كيس نقودها من حقيبتها اثناء انشغالها بشراء هدايا لأحفادها. المهم أن هذه السرقات لم تمنعها من السفر ولا المغامرة ولا التوقف عن الوقوع في نفس الموقف عدة مرات في قارات العالم المختلفة واهدتنا تجربة حياتية وكتابة استثنائية في أدب الرحلات. 
-----------------------------
بقلم : هالة البدري
من المشهد الأسبوعية








اعلان