01 - 11 - 2024

أطفال متلازمة داون.. لا تتركوهم وحدهم

أطفال متلازمة داون.. لا تتركوهم وحدهم

المصابون بها يحتاجون إلى عناية خاصة وليس إلى أن تعتبرهم "بَرّكة"

منذ أيام حضرت فرحا لإبنة صديق لي ، وجاء صديق لنا مصطحبا ابنه الذى بدت على ملامحه أنه مصاب بمتلازمة داون. فرأسه صغير نسبيا وملامح وجهه مسطحة وأنفه صغير وأذناه صغيرتان وعيناه تميلان الى أعلى، وأطرافه قصيرة. وقد كانت متلازمة داون تسمى لسنوات عديدة "المنغولية" ربما لأن المصاب بمتلازمة داون تقترب ملامحه الى حد ما من نفس خصائص الوجه المنغولى، وهذه تسمية غير علمية وبها قدر من التنمر على الشعب المنغولى كله ، خاصة وأنهم يطلقون على المصابين "البلهاء المنغوليين" الأمر الذى دعا الجمهورية المنغولية الشعبية تقديم شكوى إلى منظمة الصحة العالمية فى عام 1965 من أن المصطلح فيه عنصرية وازدراء لهم، وتم إستبداله بمتلازمة داون نسبة الى الطبيب البريطاني جون لانغدون داون الذى وصف هذا المرض لأول مرة.

ولا يعنى إكتشاف وتصنيف متلازمة داون فى ستينيات القرن الماضى أن هذا وقت ظهورها، لكنها موجودة عبر تاريخ البشرية. فعلى سبيل المثال تم العثور على أول حالة مؤكدة لمتلازمة داون وهى هيكل عظمى لطفل توفى فى فرنسا فى العصور الوسطى. أيضا يوجد فى اللوحة الفلمنكية الشهيرة "عشق الطفل المسيح" (حوالى1515) ملاك وراعى يظهران باللوحة لهما ملامح وجه يوحى بمتلازمة داون. الملاك فى الصورة على يسار مريم، وصورة الراعى أعلى الملاك وهى فى منتصف اللوحة تقريبا

ومتلازمة داون يكون فيها الكروموسوم زائدا لدى الشخص المصاب ، الكروموسومات عبارة عن "حزم" صغيرة من الجينات في الجسم تحدد كيفية تكوين جسم الطفل ووظائفه أثناء نموه وأثناء الحمل وبعد الولادة. عادة يولد الطفل بستة وأربعين كروموسومًا. أما الأطفال المصابون بمتلازمة داون لديهم نسخة إضافية من أحد هذه الكروموسومات. هناك ثلاثة أنواع من متلازمة داون. غالبًا لايستطيع الناس التمييز بين كل نوع دون النظر إلى الكروموسومات لأن السمات الجسدية والسلوكيات متشابهة.

ومتلازمة داون حالة تستمر مدى الحياة، وغالبا تكون الخدمات أمر مهم فى وقت مبكر لتحسين قدراتهم البدنية والذهنية التى تساعدهم على تطوير إمكانياتهم فى الكلام والعلاج الطبيعى والمهنى، والمهارات الحسية، ومهارات المساعدة الذاتية، والقدرات اللغوية والمعرفية. فإن الطفل الذى يعانى من هذه الحالة يعانى من التأخر فى النمو العقلى والإجتماعى، ويكون سلوكه مندفعا وإنتباهه محدودا، وقدرات التعلم بطيئة لديه. خلافا لما يصاحب البعض من مضاعفات طبية مثل عيوب القلب الخلقية، وفقدان السمع، وضعف النظر، ومشاكل فى الفكر والذاكرة، وإنخفاض وظيفة الغدة الدرقية، وتأخر نمو الأسنان مما يسبب مشاكل فى المضغ، وضعف وظائف المناعة، ومرض الزهايمر فى وقت لاحق من الحياة.

وقد إجتهد الباحثون فى تحقيق برامج خاصة بهؤلاء للتقليل من التحديات التى تواجههم، والتغلب على العقبات، ودعمهم بخبرات تؤهلهم للإعتماد على أنفسهم وشعورهم بالنجاح فى حياتهم.

 نعود الى صديقى وإبنه مصطفى الذى رأيته لأول مرة. طفل يبلغ من العمر 11 عاما. سألت والده عن تصرفاته بالمنزل ومهارات العناية بنفسه فى الأكل وإرتداء الملابس، واستخدام الحمام، وأكد لى أنه دقيق جدا فى كل هذه الأمور. كانت صدمتى حين قال أنه يتعامل معه بإعتباره "بركة البيت". سألته ماذا تعنى؟ قال أنه من "أهل الله". تعجبت من تلك الرؤية الغريبة!!!. تجاهلت الحضور وبدأت فى متابعة الطفل الذى جمع عددا من الأطفال وبدأ يعطيهم أوامر فى تنظيم الكراسى، والكل يستجيب لأوامره. وما أن بدأت الموسيقى حتى رأيته يرقص بمهارة ويستجيب فى حركاته للنغم باحتراف، ورأيت الأطفال يقلدونه ولا يصلون لمهارته فى الآداء. مهارة حركية وجمالية مدهشة. سألت والده وأنا على يقين من الإجابة: أين تعلم كل هذا؟. قال الإجابة المتوقعة: لا يترك فرحا فى البلدة إلا ويكون أول الحضور، وآخر المنصرفين. لقد تعلم مصطفى المهارات الحركية الدقيقة، ولم يعد يواجه صعوبات مثل التوازن أو المشى أو الجرى. أيضا أصبحت لديه مهارات حسية وتركيزا وإنتباها من خلال نشاطات تلقائية مارسها بدون برامج أو جلسات علاج، أو غير ذلك. 

البيئة الشعبية قامت بتطوير المهارات الحركية الدقيقة والإدراك والتنظيم الحسى، وكلها أمور لازمة للاندماج الناجح فى المجتمع. لقد وصل مصطفى الى مستوى متقدم من الإستقلالية وجودة الحياة. إضافة لتقوية العضلات، وإستقرار المفاصل، والقوة الحركية فى اليدين والأصابع. كل هذا من خلال تمارين تلقائية تفاعل معها بحب وبدون أوامر قد تجعله يهرب من التدريب. وهذا الكلام لا يعنى أننى ضد برامج العلاج الوظيفى والمهنى، ولكنها دعوة للإستفادة من هذا التدريب التلقائى.

سألت والد مصطفى عن رؤيته المستقبلية له؟. أجاب بحالة  يغمرها الإحباط بأنه ألحق مصطفى بالمدرسة الفكرية والتى لا تقدم له أى شىء غير شهادة نجاح تعطى لكل الملتحقين بها دون أية معايير أو تقييم لمستوى أداء المتعلمين. أكمل بأسى: "أتمنى أن يقبل بعد ذلك عاملا فى مدرسة أو مصلحة حكومية" !!. سألته ألا يعلموهم أية مهارات مثل الطباعة والكتابة اليدوية وغيرها من المهارات التى تفتح لهم مجالات مختلفة غير التى أوصلتك ليكون سقف أحلامك عامل نظافة فى مدرسة!!. هل لا يكتشفون مواهبهم ويقومون بالتوجيه والدعم والتشجيع لضمان أقصى قدر من النجاح ليكونوا فاعلين يساهمون فى المجتمع وتأمين أعلى جودة للحياة قدر الإمكان. لقد نجحت مؤسسات عالمية كثير من التى تقوم بدور العلاج الوظيفى لمتلازمة داون ليصبحوا فنانين مشهورين، وعازفين، وعارضات أزياء، هذا بخلاف الوظائف المرتبطة بالبيع والشراء وغيرها من المهن الإنتاجية. لقد ركزوا على المهارات الحركية، والعناية الذاتية، والإهتمام بمدى الإنتباه والتركيز، والمهارات الإجتماعية، وإحترام الذات. والتعامل مع مستوى تحصيلهم الدراسى.

إن الأطفال والشباب المصابون بمتلازمة داون يعانون من صعوبات التعلم. لذلك يجب تهيئة المناخ المناسب لمساعدتهم فى حياتهم اليومية. كل شخص من هؤلاء له طبيعته الخاصة التى تختلف عن الآخرين. لكنهم جميعا سيسعدون إذا مدحتهم عندما يتعلمون شيئا جديدا، وإذا تحدثت معهم بوضوح وهدوء حتى يصلهم ما تريد أن تعلمهم. حاول أن تضع لهم روتينا ثابتا حتى يشعروا بالإستقرار –على سبيل المثال- مواعيد الإستيقاظ، وأوقات الوجبات، ومواعيد التعلم واللعب، وإهتم بالبحث عن التغيرات فى حالتهم المزاجية وسلوكهم فقد لا يستطعون التعبير عما بداخلهم. ومهم جدا التواصل مع معالج النطق واللغة، وأخصائى العلاج الطبيعى إذا لديه توتر عضلى، كذلك يجب أن يخضع الأطفال المصابون بمتلازمة داون لفحوصات منتظمة خاصة بالقلب ووظاف الكلى وغيرها من الفحوصات.

الأطفال المصابون بمتلازمة داون، وجميع الأطفال ذوى الهمم لديهم دعم تعليمى يجب أن يطالب به أولياء الأمور. هذا الدعم يمكنك التقدم للحصول عليه فى التعليم بالمدارس والجامعات أيضا.

هذا الكلام تداولته مع أبو مصطفى قررت أن يكون حديثى معكم عن متلازمة داون، والتى أعرف وقع الخبر عندما يتم إبلاغ الأم أو الأب منذ الولادة من الطبيب بأن طفله مصاب بمتلازمة داون. لا تتركوا أطفالكم منذ الشهور الأولى لولادتهم فإن التدخل المبكر يساعد على النمو والتطور بشكل صحيح، تواصلوا مع المتخصصين فى المهارات الحركية، واللغة، والتواصل، وإكتساب التعلم، والتنمية الإجتماعية والعاطفية للوصول الى النتائج بشكل أسرع وبشكل صحيح، دون إهدار للوقت. يجب أيضا تتعامل بشكل طبيعى مع إنفعالات طفلك وتتفاعل مع جميع أنواع الحالة المزاجية (سعيد- حزين- غاضب- متذمر- مبتهج) هو مثل أى شخص آخر. يجب أن تتفهم أن طفلك يعانى من صعوبة التواصل، وهناك وسائل مختلفة وبديلة تخرجك من الإحباط. فحتى لو فقد التواصل اللفظى فتعلم معه لغة الإشارة الخاصة به حتى يستطيع التعبير الذى يعفيك من البحث عما يريده. لا تغفل ممارسة الرياضة مثل كرة القدم والتنس، وألعاب القوى، والمشى، والسباحة والتى تجعله أكثر لياقة، وصحة، وتفاعلا مع الأخرين وتكوين صداقات. كل هذه الأمور تعطيك الأمل، وتجعلك تستمتع بالحياة مع طفلك برؤية جديدة
------------------------------
بقلم: د. سامى البلشي
من المشهد الأسبوعية