23 - 05 - 2025

إطلالة قصيرة على السيرة الذاتية للعدم.. الأدب والعبر في مجموعة بدوي الدقادوسي القصصية

إطلالة قصيرة على السيرة الذاتية للعدم.. الأدب والعبر في مجموعة بدوي الدقادوسي القصصية

ما السر في اختيار الكاتب لهذا العنوان؟ هل للعدم سيرة ذاتية؟ وهل للسيرة الذاتية أن يكون موضوعها العدم؟ أم أن بدوي الدقادوسي الذي تعودت عند قراءة نصوصه القصصية القصيرة أو حتى جدارياته القصيرة جدا على صفحته الفايسبوكية على مرماه البعيد والذي غالبا يختفي تحت غطاء اللغة ويغري بنزع حجابها للوصول إلى المعنى الخفي المقصود. وكأنما الكتابة والقراءة عند بدوي الدقادوسي هي لعبة إغراء وغواية ولعبة منع وعطاء ولعبة تفكير وتفكير مقابل. 

تتراوح القصص في هذه المجموعة بين القصيرة كنص شرف  ص 11 وغيره من النصوص والقصيرة جدا كنص مسابقة ص 22 وغيره، مع أن الكاتب اختار أن يدرجها ضمن القصة القصيرة. منها ما ورد دفقة واحدة ومنها ما وقع تقسيمه وتقديمه على شكل ثلاثية. فهل يحيل هذا الإجراء على محاولة تجذير المجموعة ضمن فن القصة القصيرة كما تقدمه النظريات النقدية أم على محاولة الكاتب اجتناب الخوض في ارتباك هوية القصة القصيرة جدا في ذهن بعض القراء أحيانا بين مقبل عليها ومدبر، مما دفع به إلى تقريب الأثر من نوع متأصل قطعا للجدل. ولعل الدقادوسي وهو المشتغل على النوعين أدرك أن هذا التصنيف ( ق ق) يبقى الأقرب إلى روح المجموعة وجسدها بما أن عددا لا بأس به من النصوص ينتمي إلى القصة القصيرة. 

 مع أن البحث في مسألة التصنيف يغري بالمحاولة من أجل الوقوف على خصائص القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا اختلافا وائتلافا إلا أن مبتغى ورقتي القصيرة جدا هذه يهدف إلى تبيان النفس التربوي والاصلاحي الذي ينتهجه بدوي الدقادوسي في كتاباته عموما وفي مجموعته السيرة الذاتية للعدم بالخصوص. 

يجمع الكاتب في كل نصوص المجموعة أو أغلبها بين عدة مستويات للغة دون أن يكون ترتيبها ترتيبا عموديا، بل هو ترتيب أفقي يفسره سعي كاتب النص إلى الاقتراب من القارئ الذي يتوجه إليه بخطابه. نلاحظ استخدام اللهجة المصرية في بعض العناوين كما في نص  الشاطر أحمد، ص 32. رغمأن النص وحتى في الحوار بين الشخوص ظل معتمدا على العربية الفصيحة.  هذا الاختيار وإن كان ظاهريا يشي باستدعاء الثقافة الشعبية وقصص الشطار فهو لا يحيد عن مسار المجموعة ككل في اعتمادها على هذا التواشج بين الفصيح والعامية المصرية التي نجد لها استخدامات عدة. فهي تارة مندسة في جسد السرد وتارة هي لغة الحوارات بين الشخوص كما في نص نصل الوهم ص134.   

هذا الاشتغال على مستويات اللغة يكشف انشغال الكاتب بقارئه. قارئ لا نخبوي ولا نموذجي في الآن نفسه. قارئ يتعرف على اللغة ومحمولاتها ويكشف خباياها المختفية تحت غطاء شفيف من السخرية أحيانا ومن المجازات أحيانا أخرى.

أما عن شخوص المجموعة فهي تتوزع بين الحيوان والإنسان. وكأن بدوي الدقادوسي يحاول إحياء نهج كليلة ودمنة وتوظيف الحيوان لتعرية ظواهر ومظاهر لا يمكن تعريتها صراحة. إذ ينتقد الكاتب مسألة اليوم العالمي للشغل مثلا حيث يحتفل العمال بعيد لم يغير من وضعهم شيئا بل صاروا به مدينين أكثر إلى أرباب العمل كما صوره نص من دفتر أحوال الغابة ص 8. كما يتعرض الكاتب إلى خطورة التفكير في المجتمعات المنغلقة من خلال استخدامه للحيوان في القصة التي لم يكتبها البطل ص 14. إضافة إلى نقد الثقافة الذكورية التي تترصد حركات الأنثى والذكر على حد السواء كما جاء في نص شرف ص11، من أجل شرعنة سلوك وتحريم آخر منشغلة بذلك عن أمهات القضايا. والقصص التي تجري أحداثها على ألسنة الحيوان أو من خلالها كثيرة في المجموعة، وفي ذلك كشف لكل ما يعانيه الكاتب العربي من ضغوطات تمنعه من ممارسة دوره المثقف الكاشف الواصف لعلل الثقافة والسياسة والمجتمع. ضغوطات لم يخفف الزمن من حدتها ولا حتى هذا الانفتاح اليوم على العالم معرفيا وتكنولوجيا.

يطغى النفس التربوي على كل قصص المجموعة ففيها تصوير دقيق لدفتر أحوال الغابة إن صح لي استدعاء واحد من عناوين المجموعة. فالبشر كما يراهم الكاتب قد تحولوا إلى حيوان وتحولت المجتمعات إلى غابة حيث الضعيف يدهسه القوي وحيث اللقمة لا تلين إلا بمزيد من الإهتنة والذل وحيث كل الأنساق المهيمنة تتلخص في منطق القوة والاستغلال. هذا الرصد يبغي به الكاتب لفت نظر المتلقي إلى هذه العاهات التي لم تعد قيد الظل ممارسة وتفكيرا بل صارت منطق التعامل الباطن والظاهر في مجتمعات نخر الظلم والدكتاتورية روحها حتى أنها ما عادت تحاول أن تثور بل صار همها كيفية النجاة من فخ الحياة البائسة إلى حياة قد تبدو أقل بؤس. 

يطرح الكاتب من خلال المجموعة صورة واقعة للمجتمع والأفراد في علاقاتها المتشابكة فيعري ما فيها من فساد دون أن يكون مطمحه التعرية وحسب. بل هناك دعوة صريحة إلى اعتبار السخرية أعلى درجات المأساة والوجود أعلى درجات العدم وهو ما يبرر اختيار العنوان. وهذه الدعوة تقر فيما تقر به من أن الأدب وإن كانت المتعة واحدة من مطالبه وضروراته إلا أنها ممكنة  التحقق أيضا من خلال ما تطرحه من قضايا وما تروم إرساءه من حوار بين القارئ وواقعه وذاته وذوات الآخرين تنفلت فيه الأشياء من عقال الصمت والتطبيع إلى براح الجدل ومحاولة التغيير.
--------------------------
بقلم: فتحية دبش *
* كاتبة وناقدة أدبيّة تونسيّة مقيمة في فرنسا