20 - 04 - 2024

نحو قوامة ايجابية

نحو قوامة ايجابية

تعتبر فكرة القوامة ، من أخطر القضايا الأسرية في الفترات الأخيرة، وباتت قرين صراع وجدال في أوساط كثيرة مع دخول فكرة الشراكة الغربية في عراك معها ، وبعد تغيرات مجتمعية جوهرية عدة، باتت الأمور في حاجة إلى بيان واضح واستقراء جديد من رحم فقه الواقع ، يكون في مقدمته ما يمكن أن نسميه "القوامة الإيجابية"، والتي لا تخل بثوابت الأسرة ولا تنازع الأصل ولكن توضح المقصد السماوي وتقدم التقوى على الهوى.

إن القوامة ببعدها الإيجابي الرحيم سلاحنا المعنوى في مواجهة خطورة ترويج الشراكة الغربية الفاشلة المؤذية ، التي تقوم على الصراع الجندري، وتتعاون مع المساكنة والشذوذ ، من أجل سحب أبدي للمرأة من أدوارها العظمي في الكيان الأسرى لصالح أدوار أخرى في المجتمع بتزامن مع احتقار لتواجدها الأصيل في مملكتها الداخلية القائمة على الأمومة والزوجية ، ما ساهم في بث التوتر في البيوت تحت شعارات رنانة ولكنها جوفاء، سقطت بالضربة القاضية في موقعتي "جون ديب وامبرد هيرد" و"شاكيرا" على سبيل المثال.

وطبقا للمفهوم الإسلامي الحضاري، نشأت فكرة القوامة، على الرعاية والصون والإنفاق من الزوج ، مقابل رعاية شاملة من الزوجة لمنظومة الأسرة وأفرادها، فإن كان الزوج ربان السفينة وعمود الخيمة ، فهي عماد الأسرة ورمانة الميزان، ولكن مع تغير المجتمعات ، وتوسع تواجد المرأة في المجال العام عملا ونشاطا وتحملها لمسئوليات هي من صميم القوامة ، بالتزامن مع تصاعد الضربات النسوية والذكورية المتطرفة لمنظومة الأسرة والصراعات الداخلية بها، وجب انارة الطريق.

لقد حفل الفقه بتراث متنوع وفتاوي كثيرة في هذا الباب، تتأسس على تجذير مفهوم "القوامة" دون عسف ، وفي هذا الإطار ، هناك فرق بين رؤية الإمام الطبراني 224-310 هجـريا ، ورؤية الإمام المجدد محمد عبده المتوفي (1905)مـ وأمثاله في تناول المسألة، وذلك وفق ورقة بحثية ، بعنوان "القوامة  في الفكر الإسلامي بين التفسير الكلاسيكي والمعاصر" والتي صدرت عن المركز الديمقراطى العربى مؤخرا.

فالإمام الطبراني بحسب الورقة البحثية يرى أن القوامة سلطة وتأديب فيها التزام معيشي ومالي ورعائي من الرجل مقابل تحمل المرأة لمسئولياتها الداخلية فقط باخلاص وود وحسن معاشرة وعفة جسدية وصون للبيت ، فيما يرى الإمام محمد عبده أن المراد بالقوامة هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤس بإرادته واختياره دون قهر أو سلب إرادة وتحكم مطلق يسودها الرشد والارشاد. 

ومن جانبه يؤكد العالم والمفكر الإسلامي الراحل الشيخ محمد الغزالي (1917-1996) أن الزوج والزوجة إنسانان متكافئان في الحقوق والواجبات، وأن قوامة الرجل تكليف وتضحية وليس وجاهة أو "ديكتاتورية".

وفي كتابه " قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة" يشدد الغزالي أنه إذا كان البيت مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلا بد له من رئيس، والرياسة لا تلغي أبدا الشورى والتفاهم وتبادل الرأي والبحث المخلص عن المصلحة، خاصة أن هذا قانون مطرد في شؤون الحياة كلها، ولا يستثنى منه البيت، بحيث يكون له الكلمة الأخيرة بعد المشورة دون اخلال بالثوابت وللزوجة حق المراجعة والاحتكام عند الاختلاف .

هاتان المدرستان المعتبرتان في التنظير، ولهما أنصار ، أضف إليهما للتأمل والتدبر رأي د. محمد بن سالم آل الدهشلي اليافعي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في مقال في عام 2021 حيث يؤكد أن الزواج في الإسلام ليس شراكة، وإنما انتقال ولاية، تنتقل البنت من ولاية أبيها إلى ولاية زوجها، وهذا الانتقال ليس بموجب عقد شراكة كما يحدث بما يسمى ب (الزواج المدني) في الغرب ، وإنما بموجب عقد شرعي سمي بالميثاق الغليظ.

وضع كل هذا مع تحذير الكاتبة الجزائرية "سعاد زغيشي" في ورقة بحثية لها تحت عنوان "المرأة بين القوامة والشراكة" حيث أكدت خطورة مفهوم الشراكة الغربي كبديل للقوامة الزوجية، كونه يؤصل للهوية الجندرية والغاء الأدوار النمطية للرجل والمرأة داخل الأسرة لصالح المساواة المطلقة العبثية بشكل يناهض النموذج الإسلامي القائم على المودة والرحمة.

وتأسيسا على هذا التنوع، مع التحفظ على أي تشدد أوتفريط أو عسف ، وحفاظا على الأصل ، في رأينا هناك ضرورة لترويج فكرة "القوامة الايجابية "، والتي تقوم على اقرار فكرة القوامة بمفهومها الحضاري الإسلامي من صون ورعاية وانفاق، مع ضم فكرة الندية الإيجابية إليها ، وهي التي تضم تحت سقفها الشورى والمشاركة الواعية والحرية الراشدة والثقة المتبادلة والتقدير والاحترام والتفاهم والتعاون والتعايش ، بعيدا عن فكرة الشراكة الغربية القائمة على الندية السلبية والمساواة المطلقة التي تدفع فيها المرأة دم قلبها من كل شيء وفي كل شيء، دون مراعاة لشيء.

والندية الايجابية تحدثنا عنها في مقالنا "العلاقة الزوجية بين التكامل والندية" ، وهي التي تنتج تكاملا ولا تسمح بتسلط طرف على أخر أو وجود حب تملك وسيطرة واستنزاف مشاعر ، أما الندية السلبية فهي تقوم على الصراع والمنافسة والغيرة من الشريك والتشكيك في جهوده ومجهوده وإنكار دوره وتحميله كل المسئولية.

وهنا نؤكد أن الإنفاق للرجل وفق سعته ، وقيام الزوجة العاملة أو المقتدرة بالمساهمة وقت نازلة أو ضيق أو باتفاق عن طيب خاطر ، يجب أن يكون بقرار واعي منها، في اطار علاقة قوامة ايجابية ، وما يترتب عليها، أما غصبها على ذلك فهذا يسقط في رأينا القوامة برمتها والرجولة بأسرها، ولا يجوز ولا يليق.

وفي هذا الاطار تؤكد وثيقة كبار العلماء بالأزهر الشريف حول حقوق المرأة الصادرة في عام 2013 أن الأسرة تقوم على المشاركة والشورى والعدل والمودة والرحمة، وأن الإنفاق حق للمرأة والطفل واجب على الرجل، ولا يعنى ذلك حبس كيان المرأة والرجل فى تلك الأدوار لأن لكل منهما أدواراً أخرى متعددة.

وتضيف أن مفهوم القوامة يعني المسئولية الحكيمة، والالتزام المالى المشبع للاحتياجات نحو الأسرة، وليست سلطة التصرف المطلقة والهيمنة من قبل الزوج أو الأب تجاه الزوجة والأولاد، خاصة أن للمرأة حقوق سياسية واقتصادية مساوية للرجل،وللمرأة الحق فى المشاركة فيها متى توافرت لها الكفاية والمقدرة".

وبناء عليه، فمن كان محيطه وبيئته تقوم مفرادته على فكرة القوامة الأولى التي لا تعرف ظلما ولا عسفا فبها ونعمة، ومن كان محيطه يحتاج إلى توازنات لا تخل بأصول ، يمكنه أن يتقدم خطوة بكل ثقة ويقين نحو "القوامة الايجابية" لقيادة استقرار منزلي وعائلي قائم على القومة الايجابية التي تراعي الندية الايجابية بجانب الصون والرعاية والانفاق، وكل خلق لما هو ميسر له.

من هنا من الممكن أن ننطلق في سبيل تأطير فقه أسري متوازن دون تشدد ولا تفريط على هدى ونور وعلم، ندعو إليه ، وكلنا وعي بأهمية تفكيك الأزمات وخوض التحديات بثقة ووعي ، واحترام للأطر العليا، حتى نخوض معركتنا للذوذ عن كيان الأسرة العربية والمسلمة من أرضية داخلية قوية، والله المستعان.
---------------------------------
بقلم : حسن القباني

مقالات اخرى للكاتب

لن نعيش في جلباب الماضي





اعلان