16 - 04 - 2024

رواد التنوير في الفكر الحديث (6): الشيخ حسين المرصفي : عمامة أزهرية فوق رأس مفكر علماني

رواد التنوير في الفكر الحديث (6): الشيخ حسين المرصفي : عمامة أزهرية فوق رأس مفكر علماني

- كفيف علَّم كبار مثقفي عصره وانتصر لفكرة الوطنية ودافع عن الحرية والعدل
- أسس الفكر السياسي المصري الحديث ووضع أول قانون وطني وتنويري اصطلاحي دقيق له

عندما عزل الخديوي "سعيد" رائد التعليم "علي باشا مبارك" (1823 – 1893م) من نظارة المهندسخانة وأرسله إلى القسطنطينية سنة 1854م، لم يحدث ذلك بدافع الاستفادة من خبرته العسكرية والهندسية وبراعته في التفاوض، بل كان بمثابة استبعاد أو نفي للرائد المستنير، وهو ما تكرر من قبل سنة 1849م مع رائد النهضة رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873م)  إبان حكم الخديوي عباس الذي عزله من نظارة مدرسة الألسن وأرسله إلى السودان كمدير لمدرسة إبتدائية هناك!. 

وكما حدث مع الطهطاوي قاسى علي مبارك كذلك ألوانا شتى من العوز والدسائس والوشايات، وأغلقت أبواب الرزق في وجهه وكاد – بعد عودته إلى مصر - أن يُقضي عليه. وتلك السنوات العجاف الممتدة ما بين عامي 1854 – 1864م لم تصرف علي مبارك عن هدفه التنويري العظيم، فتجمع الدراسات على أن موسوعة "علم الدين" - وهي كتاب من أربعة أجزاء وأكثر من 1400 صفحة في أدب الرحلات يعتبره بعض الباحثين البداية المبكرة للرواية العربية – كانت ثمرة تلك المحنة النفسية والعملية القاسية.  

لم يطبع كتاب "علم الدين" بأجزائه قبل سنة 1882م في بيروت. ويسافر علي مبارك من جديد عبر صفحاته في رحلة تخيلية إلى باريس، ويجول فيها بصحبة بطليه الرئيسين: العالم الأزهري "علم الدين" وابنه "برهان الدين". وقد أراد مبارك من رحلته كما كتب في مقدمتها أن "يطّلع مطالعه على ما يشحذ خاطره، وينبه قريحته، ويستنهض فكرته، ويدرجه لإعمال عقله وإمعان نظره واستعمال بصيرته في نقد الأمور وسبرها، وتدبرها ومقارنتها والموازنة بينها".

لم يكن اختياره لـ"علم الدين" الشيخ الأزهري بالذات ليقوم بالرحلة الباريسية التنويرية اختيارا اعتباطيا، وليس لمجرد أن الأزهريين كانوا يمثلون في تلك الأونة من القرن التاسع عشر الطبقة المتعلمة بين المصريين، وإنما كانت إشارة منه - لا تخطؤها بصيرة الاستنارة - على ضرورة انتقال العقل المصري من حال الجمود كما تمثل في العلم والدراسة الأزهرية آنذاك، إلى حال النهضة والمعرفة الحديثة كما تمثلهما الشيخ "علم الدين" في احتكاكه بعلوم ومعارف واستنارة المجتمع الأوروبي. 

وأثبت استبصار "علي مبارك" الروائي هذا صدقه التاريخي. فعندما أصبح وزيرا للمعارف وأنشأ سنة 1872م مدرسة "دار العلوم" لتكون بديلا للموات العلمي والهمود الدراسي الأزهري، اختار مدرسا أزهريا ضريرا اشتهر بالتفوق والنبوغ ليكون مدرسا في المدرسة التنويرية الجديدة، واستمر هذا الشيخ الأزهري في وظيفته مدة 16 عاما، قدم لتلامذته خلالها كتابين تجديدين في البيان والأدب، وفي عام 1881م طبع رسالة بعنوان "الكلم الثمان". وهي رسالة يعدها الباحثون أول وثيقة فكرية مصرية تبلور مصطلحات "الأمة" و"الوطن" طبقا للمفاهيم الليبرالية المتقدمة، وتقيم مصطلحات "الدولة" و"الحكومة" على أسس وطنية وعلمانية حديثة. ولعل هذا الطرح الفكري الجريء التقدمي التنويري كان يستحيل تقديمه في تلك الآونة إلا على يد عالم أزهري، رغم أن هذا العالم كان كفيفا، كما أنه لم يرتحل لأوروبا أبدا، لكن اطلاعه على المترجمات الغزيرة التي انتجها تلامذة "الطهطاوي" في مدرسة الألسن، وإتقانه للغة الفرنسية وقراءته بها، مع صحبته للرائد "علي مبارك" ومزاملته للمدرسين الأوروبيين في مدرسة دار العلوم، كلها كانت عوامل كافية للدفع به إلى مقدمة مفكري مصر التنويريين في تاريخها الحديث. ذلك هو "العلاّمة الأوحد والعالم المفرد أستاذ الأساتذة وعماد الجهابذة" – كما دوّن كاتب مخطوط رسالته التنويرية الهامة – الشيخ "حسين المرصفي".

مسيرة استنارة 

أبوه هو الشيخ "احمد ابن حسين أبو حلاوة الكبير"، رب أسرة ذات يسر اشتغل بالتجارة وحقق فيها نجاحا كبيرا، بالإضافة إلى تعلمه في الأزهر. وكان ميلاد طفله الضرير "حسين المرصفي" في قرية المرصفا بمركز بنها مديرية الدقهلية، بين عامي 1810 و1815م دون تحديد دقيق. ومن الكتّاب وحفظ القرآن أرسله أبوه إلى الجامع الأزهر، ليحفظ المتون التقليدية ويقاسى معها كل ما قاساه أصحاب الذكاء والنبوغ في تحصيل العلوم الدينية آنذاك، ويدرك الفتى رداءة المؤلفات والكتب وسوء حال الدراسة والعلم الأزهريين، لكن لسوء الحظ لا نعرف الكثير عن أحداث وتفاصيل حياة الشيخ عموما وعن خبراته الدراسية بالذات. سوى أنه بلغ من الاجتهاد والنبوغ درجة تولى التدريس بالأزهر. 

في عهد نظارة "علي باشا مبارك" لوزارة المعارف اختير ليلقي بالمدرج الكبير محاضرات على طلبة المدارس العالية، كان يحضرها الوزير بنفسه ومعه طائفة من كبار موظفي الحكومة، ويلقي الشيخ محاضرتين أسبوعيا في علوم الأدب يومي الأحد والأربعاء، كان من زملائه فيها "المسيو فيدال باشا" لفن السكك الحديدية، و"المسيو جيجيون بك" لفن الآلات، و"المسيو هنري بروكسن باشا" للتاريخ، و"المسيو فرانس باشا" لفن الأبنية" و"إسماعيل باشا الفلكي ناظر المهندسخانة لعلم الفلك، وغيرهم. كانت تلك المحاضرات هي النواة لمدرسة "دار العلوم" التي أسسها "علي باشا مبارك" في يوليو سنة 1872.

من هذا التاريخ يترك الشيخ "حسين المرصفي" التدريس في الأزهر ليكون أول أستاذ للأدب العربي بمدرسة دار العلوم. ويتوفر منذ البداية على الإنتاج الأدبي ومنه كتابه الضخم "الوسيلة الأدبية للعلوم العربية" الذي تضمن المحاضرات التي ألقاها على طلبة دار العلوم في السنوات الأولى من إنشائها. 

يصفه "على مبارك" فى الخطط التوفيقية بقوله: "كان من أجلاء العلماء وأفضلهم وله اليد الطولى فى كل فن". وعن تعلمه للغة الفرنسية بطريقة "برايل" – في أقرب زمن مع انكفاف بصره - في مدرسة العميان التي أنشأها الخديو "اسماعيل"، يرد "أحمد تيمور باشا" في ترجمته للشيخ "حسين المرصفي" ذلك إلى عامل نفسي هو الغيرة والتنافس، إذ رأى الشيخ "حسين" زميله في الأزهر وعضوية مجلس التعليم يلم ببعض اللغات ويجيد الفرنسية، فآثر أن يتعلم ذلك اللسان الذي كان يتيه به الشيخ "حسين" على شيوخ الأزهر.

تلامذة أصحاب قامات

اشتهر "المرصفي" بأنه كان شيخ الأدباء وأستاذ الطبقة الأولى من مثقفي عصره، تخرج على يديه أجيال من الأعلام النابهين نهلوا من علمه وأدبه، ولازمه أعلام البيان في عصره وأفادوا منه، كانوا قامات من مثل "حفني بك ناصف"، ورب السيف والقلم "محمود سامي البارودي"، والأديبين الشهيرين "عبدالله فكري" و"إبراهيم المويلحي"، والشيوخ "محمد عبده" و"حسين الجسر" و"حمزه فتح الله"، و..غيرهم. عن أثره في أدباء عصره المجددين يقول الشيخ "عبدالعزيز البشري": "لفت جمهرة الأدباء عن ذلك الأدب الضامر، ووجه أذهانهم وأذواقهم جميعا إلى الخالص المنتخل من أدب العرب في جاهليتهم، وفي إسلامهم، وبعث لهم شعر أبي نواس، وأبي تمام والبحتري وغيرهم من فحول الشعراء، كما دل على بيان ابن المقفع والجاحظ، والصولي، وأحمد بن يوسف وأضرابهم من متقدمي الكتاب، فسرعان ما يصفو البيان ويجلو، وسرعان ما يجزل القول ويعلو، وسرعان ما تنفرج آفاق الكلام، وتنبسط أسلات الأقلام في كل مقام". 

ومن المؤسف ألا تتوفر مصادر شافية حول تفاصيل علاقة "المرصفي" بمشاهير شخصيات عصره، حتى أن الناقد "محمد مندور" يؤكد أنه بعد جهده في استقصاء الصلة الوطيدة بينه وبين "البارودي" لم يصل لشيء في تحديد كنهها، وفي الأغلب كان "البارودي" ليساره يستقدم أستاذه "المرصفي" لمنزله، وينفرد به في مكان هاديء حيث يمكنه الانتفاع بعلومه، وقد وصفه "المرصفي" بقوله: " إن "البارودي" لم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية غير أنه لما بلغ سنة التعقل، وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع لبعض من له دراية، وهو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة قصيرة هيئات التراكيب العربية، ومواقع الموفوعات منها والمنصوبات، والمخفوضات حسبما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، وسمعته مرة يسكن ياء المنقوض والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعرا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدا شريفها من خسيسها، واقفا على صوابها وخطأها، مدركا ما ينبغي وفق الكلام وما ينبغي".

ويقول "مندور": "ولم نعرف أن "البارودي" اتصل بغير "المرصفي" ممن له دراية، أو قرأ بحضرته دواوين الشعر.. فالمرصفي" يتحدث عنه حديث خبير به، ويدل على أن "البارودي" كانت له معه دراسة، وانتفاع وأن "المرصفي" كان يراجعه، ويوجهه وينقده وما أظن إلا أن "البارودي" قرأ هذه الدواوين الضخمة عليه، وسمعه ينقدها ويعلق عليها، ويبدي رأيه فيها، "والبارودي" يقدر صلته بأستاذه، وبفي حق الوفاء له".

أما كتابه "الوسيلة الأدبية للعلوم العربية" الذي أملاه "المرصفي" على تلميذه الشيخ "حسن أبي زيد سلامة" فهو – كما يقول "مندور" – شديد الشبه بكتب الأمالي (من الإملاء) العربية القديمة كأمالي المبرد وأمالي القالي وغيرهما. وإن اختلف عنها في أنه لم يقتصر على الأدب بنوعيه الشعر والنثر، بل شمل إلى جانبه جميع علوم اللغة العربية، من نحو وصرف وعروض وفصاحة وبيان وبديع ومعان. واستخدم الشيخ نفس أسلوب الاستطراد والتداعي المعروف في كتب الأمالي، بذوق سديد في الاختيار، وحديث ينم عن فقه وتعمق وحافظة جبارة، وتناول فيه مؤلفات رائدي البعث الأدبي في عصره: الشاعر "البارودي" والناثر "عبدالله فكري". على هذا الكتاب تتلمذ عدد كبير من رواد النهضة المصرية الحديثة، سواء من أقام هذه النهضة على أساس بعث التراث العربي القديم أو من جمع بين التراث العربي القديم والتراث الغربي الوافد، ويؤكد "مندور": "ولقد سمعنا أستاذنا الدكتور طه حسين يذكر الشيخ حسين المرصفي ووسيلته في الكثير من دروسه بالجامعة أو أحاديثه مع طلبته، مؤيدا لإحساسي بأن الدكتور طه حسين قد تتلمذ بلا ريب على "الوسيلة" واغترف منها الكثير في طرائق تفسيره ونقده اللغوي لنصوص الأدب العربي القديم والحديث شعرا ونثرا".

وعلى تبحره اللغوي ونبوغه الأدبي يعد الشيخ "حسين المرصفي" – بفضل كتابه "الكلم الثمان - مؤسس الفكر السياسي المصري الحديث، وواضع أول أورجانون (قانون) وطني وتنويري اصطلاحي دقيق له. وهو من نتائج إفادته من حركة الترجمة ومن تعلم الفرنسية واطلاعه على الثقافة الأوروبية التي وسمت فكره وأسلوبه بسمات الاستنارة والتجديد، فلم يكتف بالصدارة في علوم الأدب التقليدية في عصره حتى استفاد من تحصيله المعرفي القديم والحديث في علم الاجتماع وفلسفة الحضارة، وهو ما استخلصه من تدريسه لمقدمة "ابن خلدون" في مدرسة دار العلوم خلفا للإمام "محمد عبده".

الكلم الثمان

في مقدمة مخطوط الكتاب الذي أملاه الشيخ الكفيف يصفه ناشره في عبارة دقيقة بأنه: "هدية ساقتها إلينا النشأة الجديدة". ويقول أنه يستقصي: "حقيقة الألفاظ العامة الدائرة على ألسن شباب زماننا". وكما يبدو من تاريخ نشر الكتاب – سنة 1881م – أنه ولد في ظرف ثوري، إذ سبق الثورة العرابية بعام واحد، وإن كان الشيخ لم يأت على ذكر أحداثها في كتابه، بل ولم يشارك في أحداث الثورة بنفسه، لكن سطور كتابه تسطع بانتصار الفكرة الوطنية في مصر انتصارا باهرا، وهي الفكرة التي نبتت بذورها الأولى خلال مقاومة المصريين للحملة الفرنسية في مطلع القرن التاسع عشر، ثم ازدهرت مع مقاومتهم للعثمانيين والمماليك بعد خروج الحملة، واشتد عودها إبان منتصفه في ظل تآمر الامبراطوريات العالمية – على رأسها فرنسا وانجلترا وتركيا – لكسر شوكة القوة العسكرية المصرية، ثم أثمرت مع تغلغل النفوذ الأجنبي في مصر خلال ربع القرن الأخير.

على رأس تلك المصطلحات الثمانية التي تصدى "المرصفي" لتعريفها أتي مصطلحا "الأمة" و"الوطن". وهو يعرّف الأمة بأنها الناس الذين تجمعهم رابطة، قد تكون الرابطة هي اللسان (اللغة) أو المكان (الوطن) أو الدين. وعندما يفاضل بين الروابط الثلاث يرى أن الأمة التي تتكلم لغة واحدة تتمتع برابطة قوية، لكن ليس لها وجود سياسي. ويرى الأفضلية من هذه الوجهة للأمة بحسب المكان، فهي "أمة محدودة بحدود أربعة تعرفها في علم تخطيط الأرض"، مثل "الأمة المصرية" و"الأمة الحجازية". ولا يخفى ما في المقارنة من ترجيح لمقوم أساسي من مقومات الدولة الحديثة، وهو مقوم الوطنية ووحدة الأرض والتراب الوطني، وقيام الدولة على مساحة معلومة ومحدودة من الأرض، مغايرة بذلك لنموذج الدول الامبراطورية الدينية التاريخي، وهو نموذج كان الدين يمثل فيه دور الأيديولوجية الرسمية.

ما يدفع بتلك المقارنة بين الدولة الوطنية والدولة الامبراطورية للسطوع بين سطور "الكلم الثماني"، أن "المرصفي" يتغافل في تحليله لمفهوم الأمة عن رابطة الدين تغافلا تاما رغم إشارته له في البداية. وما يغلب على الظن أن هذا التغافل نجم عن دقة وحساسية وضع مصر السياسي آنذاك، فقد كانت خاضعة لسيادة إسمية للامبراطورية العثمانية، وتخوض في نفس الوقت صراعا على النفوذ مع امبراطوريتين غربيتين استعماريتين كبيرتين هما فرنسا وانجلترا. أو لعل هذا التغافل عن تحليل علاقة الدولة الوطنية في مصر بالدين كان تراجعا من الشيخ الأزهري عن خوض مسألة شائكة لايزال الخوض فيها سابقا لأوانه. وفي المقابل يؤكد "المرصفي" أن مصر بلغتها الواحدة ورقعتها الجغرافية المحددة تمثل أمة واحدة، ونضيف لكلماتها: إنها كذلك أمة متعددة الأديان. وقد رأى باحثون عديدون هذا التحليل الحصيف تقدما في استخدام المفهوم العلماني لمصطلح الأمة، لم يصل إليه من سبقوا "المرصفي" في تناوله، ومنهم الرائدين "رفاعة الطهطاوي" و"علي مبارك".

المدافع عن الحرية

"حرية الرأي" في تصور "المرصفي" من عوامل تقدم الأمم: "فلا يرد رأي صغير لصغره، ولا يقبل رأي كبير لكبره، فالغاية هي تحقيق الحق وتقرير الصواب". ويدعو لدراسة "المتجددات الزمانية" بدراسة قوانين تطور الأمم وعوامل تقدمها: "لتكون أعمالها مطابقة للأحوال الحاضرة، فرب أمر يكون خيرا في عصر وشرا في غيره". وهو يشدد هجومه - الخطر بمعايير زمنه - على فئات خطباء المنابر والمتصوفة (أصحاب الحلقات)، ضاربا الأمثلة من ممارساتهم الجامدة والخرافية للتنفير منهم، وموضحا أن التربية الصحيحة عن طريق المدارس والمجالس (المدنية) والصحف هي التي تقود الأمة وليس هؤلاء. 

يطالب "المرصفي" المصريين باستعمال عقولهم "لتمييز المنفعة، وصيانة الأبدان، والمبادرة بإصلاح الخلل، والاسترشاد بعقلاء الأمة، والتعاون في المهمات ولخير الوطن، ومعرفة الأشياء وخواصها واستعمالاتها، والغيرة لاكتساب المعرفة واتساعها، ومسابقة الأمم في الرقي، وعدم البطء والاستنامة لكواذب الأماني". مشيدا باستنقاذ حكام أسرة "محمد علي" للمصريين من حكم طوائف ثلاثة هي: "المماليك الذين كان يدعى الواحد منهم أستاذ الناحية، والعرب الذين يسكنون بسائط الرمال، وعمد النواحي"، بعد أن يعدد مفاسد كل طائفة منهم واستغلالهم وظلمهم للأهالي واستعمالهم العمال من دون البهائم.

وفي تعريفه للحكومة يقول الشيخ "المرصفي" أنها: "قوة تحصل من اجتماع طائفة من الأمة لإمضاء مقتضيات الطبيعة على وجه يقرب من رضاء الكافة". ويؤكد إن سبيل الحكومة لبلوغ ذلك هو العدل بين الناس، منتهيا إلى مفهوم للعدالة الاجتماعية، إذ يضيف أنه ليس من العدالة: "إذا قام بعض الناس وحظر بعض الطيبات من غير جملته، وأفرط في الترفه والتنعم ، حتى كأن الدنيا خلقت له وحده وأن الناس مخلوقون لخدمته، وليس لهم من ثمرات أعمالهم إلا ما يحفظون به قوى أبدانهم نوعا من الحفظ لتصريفها في أغراضه". أما وظائف الحكومة فهي عنده ثلاثة: تأمين البلاد في الخارج، وحفظ الأمن في الداخل، ومباشرة السلطة القضائية. وعلينا أن نشير هنا إلى أن الأزهريين زمن كتابة تلك العبارات، كانوا لايزالوا يحفظون عن ظهر قلب وظائف الحكومة الدينيه القديمة كما تعرّفها كتب الآداب السلطانية والسياسة الشرعية بصفتها: "سياسة الدنيا وحفظ الدين"!.

يقدم "المرصفي" مفهوم العدل في صيغة متقدمة مترابطا مع مفهوم الحرية، فالعدل يقتضي أن يوفي الإنسان عمله حقه كاملا ليتسنى له أن يتقاضى عنه أجرا كاملا: "فإذا لم يعدل وطلب قيمة، أو عمل ناقصا وطلب كاملا فقد ظلم، وإذا عمل ولم يوفه الناس قيمة عمله فقد ظلموه". بالتالي فمسئولية الحرية عنده هي أن: "الإنسان لا محالة له وعليه، فإذا عرف ما له وما عليه، كان له شرف نفس يمنعه من أن يتجاوز ما له، لأخذ ما ليس له، وانقياد لتأدية ما عليه، وإباء يقيه من اغتصابه ما ليس له، كان حرا وإنسانا كاملا، فالحرية إذن معرفة وشرف وإباء وانقياد"، و"متى عرف الإنسان ألا سبيل لحصول المنافع الخاصة وثباتها إلا من جهة حصول المنفعة العامة وثباتها، حيث قلنا إن الأعمال الإنسانية وما لها من الثمرات لا تكون إلا بالاشتراك والتعاون".
---------------------------
بقلم: عصام الزهيري
من المشهد الأسبوعي







اعلان