لم أكن أظن أن حجم المداخلات والتفاعل والانتصاب والقيام والدفع والمدافعة، سيبلغ مابلغ بشأن الترحم على الشاهدة الشهيدة شيرين أبو عاقلة ووصفها بالشهيدة، حتى كدنا نترك القضية الرئيسية التي استشهدت لأجلها وهي فلسطين والقدس والأقصي، وإظهار عنصرية وهمجية ووحشية الصهاينة، وننخرط في استقطاب واسع حول المصير الأخروي للموتي. وهنا أقول:
- أولا: الاستدلال بآية (ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) هو استدلال في غير محله، فآية سورة التوبة تكمل ما بدأته السورة، من قطع العهود مع مشركي مكة عباد الأصنام الوثنيين ، بأن من مات منهم على الكفر والشرك فلا يجوز الاستغفار له ولو كان قريبا أبا أو أما أو أخا أو عما كأبي طالب.
- ثانيا: أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ليسوا مشركين، بمعنى ما ذهبت إليه الآية، فلهم معنى مختلف هو أنهم أهل كتاب، لهم أحكام مختلفة عن أحكام المشركين الوثنيين في حل ذبائحهم والتزوج من نسائهم وقبول بقائهم ووجودهم ضمن أمة الإسلام، كما بينت وثيقة المدينة التي عقدها النبي مع اليهود حين مقدمه المدينة.
- ثالثا: أنه لا يوجد إجماع على عدم الترحم على غير المسلمين، ممن علم عنهم أنهم يقفون حيث يقف المسلمون ولاء وبراء وانتصارا لمقدسات المسلمين، ففي الطبري عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني ، فوكله ابنه إلى أهل دينه، فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال ماكان عليه لو مشي معه وأجنه واستغفر له، يعني ابن عباس وابن جبير يجيزان ليس فقط الترحم وإنما الاستغفار للأب من أهل الكتاب.
- رابعا: أن الترحم والاستغفار ليس من جهة كفر الكتابي في عدم إيمانه بالنبي ، يعني أنا لا أترحم ولا أستغفر لشيرين رحمها الله لأنها كانت كافرة وكانت علما في الكاثوليكية والدفاع عنها، وإنما أترحم عليها من جهة أخرى وبسبب آخر، وهو أنها نصرت قضية عادلة هي قضية فلسطين وكانت صوتا لها ونصيرا ، وسقطت مضرجة في دمها على خط المواجهة في حرب هذا العدو على أهلنا في جنين المقاومة، وكما أباح الفقهاء رد السلام وبذل التحية لمن بذلها للمسلمين ولم يقصد بهم سوءا، فنحن نرد التحية لها بأحسن منها بالترحم عليها والاستغفار لها، وكذا أوجب الفقهاء النفقة على الأب والأم والمحتاجين، بما في ذلك الجار والجار ذي القربى والصاحب بالجنب وابن السبيل، واعتبر ذلك إحسانا وصلة للرحم، فإن اعتبار الجيرة والمصير المشترك والمصاحبة والقرابة الرحمية والوطنية والإنسانية والإيمانية تجاه فلسطين والقدس والأقصي، توجب علينا حقا تجاه هذه الشهيدة الشاهدة التي أعلت قضيتنا ورفعت هامتنا وأذلت جبروت الصهاينة وفضحتهم، ومن هذه الحقوق علينا تعزية أهلها وأهل دينها والسير في جنازتها ورفع تابوتها على أكتافنا والوقوف على قبرها والدعاء بالرحمة والمغفرة لها.
- خامسا: اجتهادي هنا هو اجتهاد سياسي وتدبيري وترتيبي، لأن قضية الشهادة والترحم والاستغفار تدخل في معنى التدبير الحضاري والاجتماعي والإنساني المعاصر، وهذا الاجتهاد لعصرنا وزماننا وفتوانا واختيارات أهل فلسطين، خاصه الفقهية والتدبيرية والترتيب الخاص بطبيعة قضية يتشارك في حملها المسلمون والنصارى بشكل أساسي، ولا بد من ترتيب يقوم على إدخال معنى الترحم والاستغفار والشهاده لمن مات لأجل فلسطين.
وإذا كان الفقهاء القدامى أجازوا التعزية للنصاري بقولهم: عليك بتقوي الله والصبر، وأكثر الله مالك وولدك وأطال الله حياتك وعمرك، فإنني أجيز لحالة شيرين أن نقول ورحم الله ميتكم وغفر الله وهو دعاء وعلى الله القبول.
- سادسا: أهل الكتاب ليسوا مشركين هو رأي جمهور الفقهاء في ردهم على الشيعة الذين منعوا الزواج من محصناتهم، فقالوا المراد بالمشركات الوثنيات، وقالوا وأهل الكتاب لا يدخلون في لفظ المشركين كما في قوله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين)، وقوله تعالي (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا)، وراجع أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية ص 797.
أخيرا هذا الانتفاض النظري الذي خاض فيه كل من هب ودب دفاعا عن العقيدة في مواجهة امرأة استشهدت في الميدان وعلى خط النار وفي وضح النهار، مظلومة مكلومة في أمتها ووطنها، وكل من خاض مع الخائضين، أسألهم: لم لم تتحركوا لأجل هذه العقيدة التي تتعرض للانتهاك كل لحظة، ولم تحرككم هذه العقيده للانتصار للحق في الأقصى وفلسطين وفي كل مكان، أم هو نوع من التفذلك الكاذب النظري، الذي يفرق ولا يجمع، ويشتت ولا يلم، ويصب في خانة مايريده عدونا وليس في مصلحة قضيتنا العادلة.
-----------------------------
بقلم: د. كمال حبيب