حين نبحث عن صفة للبيوت، تضمن الاستقرار والوفاق، وتجد لها مددا في شهر رمضان المعظم ، نجد في الصدارة صفة "البيوت الآمنة المطمئنة"، المعبرة عن مضمون عميق الدلالة ، جذوره في كل قلب أبيض طيب ، وفروعه تمتد إلى نجوم السماء الزاهرة ، يطرح ثماره الطيبة كل حين بإذن ربه في كل بيت التزم به ، وهو ما يطرح بدوره التساؤل : كيف نصل لمثل هذه الجودة الأسرية القائمة على الأمان والاطمئنان في زمن القلق والحيرة؟
في البداية، لقد ضرب الله عزوجل مثلا بليغا في القرآن الكريم له صلة بجوهر سؤالنا، حيث يقول اللطيف الودود :" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".
ويوضح الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسيره المعني قائلا : "إن الأمن من أعظم نِعَم الله تعالى على البلاد والعباد، وإن الاطمئنان من أهم مُقوِّمات الحياة، وهما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها" .
ويحذر الشعراوي من جحد النعم وعدم شكر المولى عليها، موضحا أن الصورة المثلي للحياة الدنيا جاءت واضحة في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم وصفه حيث قال: (مَنْ أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). ا.هـ
ومن هنا نبدأ، فمن وعى سعي ومن سلك وصل ومن بدأ لم يتأخر، لأن كفران نعمة الأسرة مرده صعب ، وإنكار أهمية قوة البيوت عاقبته سوء ، واعلاء النظرة الفردية على المنظومة الأسرية تحت مزاعم مادية جوفاء ثبت فشله، وقد آن للأرواح أن تنطلق بوعي ووضوح داخل بيوتها لتتحدى كل الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية القادمة من كل حدب وصوب لا تفرق بين مصر ومصر.
ويأتي الأمان الأسري ، برأينا ، عبر اختيار سليم في البدء لشريكي الرحلة ورفيقي الدرب، ثم تضافر الجهود طوال رحلة العمر في الحماية لا العنف، والدعم لا الذم ، والثقة لا الخنق ، والحب لا النكد ، والبناء لا الهدم، والتعاون لا المناكفة، ، والتفاهم لا التشاكس، والتوازن لا الشطط، والتقدير الودود لا الإكراه والجحود ، والتغافل الحكيم لا حب التملك والتدقيق المميت، والتنازلات المنضبطة لا الاستباحة، والاهتمام لا الإهمال والقسوة .
والأمان الأسري أساسه التوجه إلى القلوب سواء مع شريك الحياة أو الأبناء ، وفي هذا المسار يقول فليسوف الصوفية جلال الدين الرومي:" إذا أردت أن تشعر أحدهم باﻷمان احتوي قلبه، فاحتواء القلب هو أول درجات اﻷمان".
ويأتي الإطمئنان في الأسرة كنتيجة لدوام المودة والرحمة ، والأمان والمساندة، والتعاضد والتكامل، والطبطبة والحنان، واللطف واللين والسهولة، وتقدير الظروف والمتغيرات ، وأداء الحقوق والواجبات ، وتوافق القول والفعل ، والاعتذار عند الخطأ وتحمل المسئولية ، كما أنه وليد القبض على جمر السلام في زمن الشقاق وجمر الإحسان رغم العقبات وجمر الاستقرار رغم كل التحديات.
وهنا ينصحنا الشاعر الصوفي شمس التبريزي قائلا :" الأمان أعلى منزلةً من الحُب ، فلا تقترب أبدًا حين تنبهر ، اقترب فقط حين تطمئن"، وقد صدق القول وصدق البيان، فلا قول للقلوب بعد قوله.
إن شهر رمضان فيه مدد البيوت وزادها ، وكل خلق من هذه الأخلاق النبيلة يحتاج إلى إقبال على الله في مثل هذه الأيام الطيبة بقلب منيب ، وتدبر وتعلم ، ومدارسة وتفقه ، و مستشارين أسريين إذا لزم الأمر واستحكم.
وإن الأمر ليسير على من بدأ، وصدق صاحب القلم الرحيم الكاتب الصحفي الراحل عبد الوهاب مطاوع حين قال :" إن أكبر أخطائنا في حق أنفسنا هو القلق و الاستسلام للاكتئاب والشعور بالإحباط إذا بدا لنا فجأة كأن الطريق قد أصبح مسدوداً أمامنا وأن المشكلة التي نواجهها جبل شاهق لن نستطيع أن نتسلقه كي نهبط إلى طريق الأمان من الناحية الأخرى".
-------------------
بقلم: حسن القباني