25 - 05 - 2025

بقاعة ضى بالمهندسين: عز الدين نجيب بين الرومانسية والتراجيديا

بقاعة ضى بالمهندسين: عز الدين نجيب بين الرومانسية والتراجيديا

كانت الهوية المصرية حاسمة فى أهم أعمال عز الدين نجيب فهو عاشق للناس والمكان. يحتمى بالبيوت ويتغزل فيها ويحرف فى تكويناتها ليستنطقها. الأحجار مسكونة بالتعبيرات الناطقة لتقول ما بداخل الفنان من تحدى وصمود فى أيام الإنكسار. يلهمه السد العالى وتراث النوبة، وبيوت الواحات والصحراء، وأرض سيناء. 

يبحث عن الوطن وقضايا شعبه فى هذه الدراما التشكيلية وفى تلك التأملات المرمزة المرتبطة بالخيال والرومانسية ، المبنية على إيقاعات خطية ولونية محسوبة. شخوصه معظمها فى حالة من التساؤل والإنتظار والترقب.

إذا كنت لا تعرف عز الدين فهو فنان يعيش بين حالتين من الرومانسية والتراجيديا، الشوق والخيال والرغبة والحب تجدها فى تلك العلاقات الإنسانية التى شكلتها لغته البصرية لحوارات بين الرجل والمرة منذ الخليقة وحتى الآن، وجميعها مرتبطة بالأرض والسماء. واللغة البصرية التراجيدية وثقتها خطوطه وألوانه فى البنايات التى استلهمها من البيوت الصحراوية وبيوت الواحات التى وجد فيها حوارات ملهمة بين الضوء والظلال، وأيضا التى ترتبط بالأرض والسماء . فالضوء والظلال لهما علاقة بالليل والنهار، والحق والباطل، والموت والحياة، والقيود والحرية.

ولا نستطيع أن نغفل الحياة التى عاشها الفنان فى ريعان شبابه من أحلام ثورية رومانسية قابلتها هزيمة 1967 لتشكل حالة تراجيدية وتضعه فى متناقضات ، تفتح أبواب الرؤية الى عالم متسع يسمح بالهروب بتلك النزعات الى أطراف المدن ليتأمل الأفق، ينظر الى السماء، ويبحث فى البيوت الطينية عن معنى الوجود، فتكون الألوان البنية بدرجاتها والزرقاء بدرجاتها من لقائه المتواصل بينهما ويكون الأصفر مرتبطا بالصحراء. فنان عايش النهضة المصرية من بدايات وعيه وصدمته الهزيمة ليغرق فى متاهات الخطأ والصواب فيهرب بألوانه الى البيوت النائية لعله يلملم الأطراف أو يعيد الحركة من بداياتها. أو ربما يستجير الى الله من وحشة المدن. أو يحاول إنتاج صياغة جديدة لبعض أفكاره فى تشكيل العمل.

كان بإمكان عز الدين نجيب أن يتناول الثورة بشكل مباشر. لكن علاقاته وصداقته بسياسيين ومفكرين بعضهم يتحفظ على أداءات الناصريين ، جعله يفكر فى تغليف أفكاره ورؤيته بفلسفة نرتبط بالروحانيات والرؤى الصوفية للوجود. تناول الفن برؤية بصرية غير مباشرة أخذته الى هذا العالم الفسيح الذى نراه الآن فى هذه اللوحات المتداخلة بين رومانسيته وتراجيديته.

لجأ الفنان الى التراث يستلهم منه ويبحث فى قوانين بنائه، وتناول الكتابة الأدبية فى كتابة مجموعات قصصية ، فارتبطت الحالتان بلغة التشكيل. كان يبحث عن الحقيقة بين الحلم واليقظة فربط الخيال بالواقع فى عدد من اللوحات التى تناول بها الصحراء لتجده يقيم علاقة بين تشكيلات لمناظر طبيعية ويقوم بحرف بعضها ليشكل منحوتات انسانية منسجمة مع ما يتناوله من واقع

لم تغره مدرسة أو إتجاه فنى طوال حياته لنقول أن عز الدين ينتمى الى مدرسة كذا أو الإتجاه الفلانى لكنه إستفاد من الخبرات والأساليب وإستمر طوال حياته بأسلوبه هو الباحث المتصوف عن الحقيقة فى البنايات والصحراء وحركة البسطاء لا يهتم بالعالم الخارجى فقط، ولكن يربطه بعالمه الداخلى للحلم والخيال.

العالم الدخلى يبدو واضحا فى عدد من اللوحات الرومانسية التى شاهدناها فى طيران الفتيات فى الفضاء مرة بصحبة الحبيب، ومرة وهى تحلم بفستان الفرح، وفى لوحة أخرى طير خمس فتيات فى حين وقف الشاب يتأملهن فى حالة من الذهول.

تحولت بيوت الواحات والصحراء تدريجيا الى نوع من الخيال من خلال طريقة التناول واستخدام الظل والنور والفتحات الى حالة تفاعلية بينها وبين الفراغ، واستطاع بإضافة لمساته الخاصة الى عالم غامض ملىء بالأسرار، كما قام بحرف الأشكال الصماء وتحويلها الى كائنات عضوية بها روح فى عدد من اللوحات. لم نشعر ونحن نشاهد مبانيه أنها أطلال، ولكن أضفى عليها من روحه لتشعر بالحياة خلف جدرانها.

كانت معظم أعمال الفنانين فى فترة الستينيات والسبعينيات تتناول التراث والريف المصرى والحياة الشعبية، وكان لابد لعز الدين أن يضع ريشته بينهم ويكون له رؤيته الخاصة فبجانب إستفادته من سابقيه فى التشكيل والبناء والتلوين، تفرد فى إنتاج الكم الأكبر من الأعمال التى تناولت البيوت الفطرية النائية فى البلدان العربية وأهمها تونس ومصر، وأتى بها الى قاعات العرض لنستمتع بما فيها من جمال، وتراكيب بنائية مدهشة. كان له نظرته الخاصة والثابتة طوال مراحل حياته الفنية. فعندما تناول البنايات فى بداياته لتعبر عن الحياة بدون أشخاص فى معظمها، قام بتناول ساكنيها بعد ذلك دون أن ينحرف بأسلوبه الذى ظل مؤمنا به حتى هذه اللحظة.

ولا نستطيع أن نغفل تأثر عز الدين بالتراث الذى استلهم منه الكثير سواء فى موضوعاته أو تأثره بالبناء والتشكيل. أنظر الى هذه اللوحة التى صور فيها إمرأة تحمل وعاء اللبن بإحدى يديها وتحمل بالأخرى القمر وخلفها يظهر البيت النوبى بزخارفه، وكذلك التمساح المعلق على الباب، إنك حين تتأمل حركة المرأة وتتخيل وقفتها بالكامل، ستجد تأثر الفنان بالمصرى القديم فالوجه "بروفيل" والجسد فى وضع المواجهة. يبدو هذا التأثر بهذا الشكل واضحا جليا فى لوحة شجرة التفاح، والتى أظهر حركة المرأة  وهى تجمع التفاح بنفس الأسلوب المصرى القديم، وربما أراه اقترب من الزى وتسريحة الشعر الفرعونية.

حين تشاهد أعمال الفنان التى استخدم فيها الألوان الزيتية تشعر برائحة الزيت وكأنه لم يجف بعد رغم مرور سنوات على تنفيذ العمل. تلك الحالة الحسية المرتبطة بالخيال النابض بالحياة، وقدرة الفنان على تحقيق طبقات لونية لها سمك، تشعرك بالبناء القوى والملامس المتباينة والمتنوعة من النعومة الى الخشونة لتحقيق أسطح متناغمة.

وحين تناول ألوان الإكليريك تناولها بحس الألوان الزيتية. فتجده متمسكا بنفس منهج التلوين الزيتى الذى إعتمد فيه على تأكيد اللون وثقله وقوته، لدرجة أنك تحار للوهلة الأولى فى تحديد نوعيته .

   لقد استمر الفنان عز الدين نجيب طوال حياته الفنية بالبحث عن الضوء وعلاقته بالعتمة. على الرغم من التطور المستمر لأسلوبه إلا أنه كان محكوما بفكرة الفنان الملتزم المسئول. ربما واجه بعض النقد من الحداثيين الجدد إلا أن ثقته بما يقدمه، وإيمانه بالدور الذى يلعبه الفن يجعله لا يغير من موضوعاته ورؤيته التى عاش عاشقا لها.

قدم الفنان والناقد الكبير عزالدين نجيب 31 معرضا خاصا منذ عام 1964 حتى الآن أخرها هذا المعرض الإستعادى الذى أقامه بقاعة ضى بالمهندسين، وعشرات المعارض الجماعية والمعارض الخارجية في مختلف دول العالم، وله إصدارات أدبية لمجموعة قصصية، كما أصدركتابا بعنوان "فجر التصوير المصري الحديث" عام 2000 ، وكتاب أنشودة الحجر إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة 1999، وأصدر موسوعة الفنون التشكيلية من ثلاثة أجزاء عام  2008، وحصل على الجائزة الأولى في النقد الفني من المجلس الأعلى للثقافة عام 1982، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2014، وتم تدشين كتاب مهم عن اعماله وحياته بجاليري ضي منذ أسابيع قليلة.
---------------------------
بقلم: د. سامى البلشى

الكاتب