20 - 05 - 2025

محمد أبو الغار: عقل ليبرالي متجدد

محمد أبو الغار: عقل ليبرالي متجدد

أين العقل الليبرالي النقدي في ثقافتنا، وحياتنا السياسية في العالم العربي؟

هذا السؤال مرجعه غياب ملكة النقد والتفكيك والتحليل والهدم والتركيب التي ميزت الفكر الليبرالي، في النهضة العربية - وفق الوصف الشائع وغير الدقيق -، وخاصة في المرحلة الكولونيالية، التي اشتغل فيها العقل العربي وكبار المفكرين، بالحركة الوطنية الدستورية الساعية للاستقلال عن المستعمر الأجنبي، وفي ذات الوقت بالمسألة الدستورية، والحريات العامة، والشخصية للأمة المصرية إزاء الحكم الملكي المطلق، وضرورة تقييد سلطات الملك، على نحو أدى إلى صياغة دستور 1923 الذي جاء محملاً بالنصوص الداعمة لحريات الرأي والفكر والتعبير، والحق المطلق في الاعتقاد.

جاء الفكر الحرياتي – الليبرالي - من معطف النخبة القانونية المصرية -، وأبناء البعثات الأجنبية لأوروبا - التي لعبت دوراً محورياً، في قيادة الانتفاضة الجماهيرية العظمي عام 1919، وساهمت في تشكيل غالب الطبقة السياسية الحاكمة، وبعض من فئة الأفندية وخريجي كلية الحقوق. كان هاجس الحرية، وإقرارها وشرعنتها دستورياً، وقانونياً، وحمايتها من خلال الفضاء المستقل، من أبرز هواجس الجماعة القانونية بمكوناتها – من المحامين، والقضاة، والمشرعين وفقهاء القانون -، ومن هنا كانت الحركة القومية الدستورية سمت أساس لشبه الليبرالية المصرية.  من ناحية أخرى ارتبط المشروع شبه الليبرالي بالانفتاح في البيئة السياسية والقانونية والثقافية، على أوروبا، ومراكز الإنتاج الفكري، في العلوم الاجتماعية، والآداب، والفنون، والموسيقي، وأيضاً من خلال البعثات الأجنبية في هذا المجال، وأيضاً في العلوم الطبيعية، والتقنية. هذا الانفتاح أدي إلى الجدل الخلاق، والتفاعلات الثقافية، وتشكل العقل النقدي لدى القلة من المفكرين والكتاب. لا شك أن نظام يوليو 1952، وإغلاق المجال العام، والنزعة الأداتية في النظر إلى الدستور والقانون وأدواره الوظيفية التسلطية أعاق بنيويا تطور التشريع والحريات والنخبة القانونية ، مع ظهور النخبة التكنقراطية وتكريس البيروقراطية الكسولة والفاسدة،انكسر العقل الليبرالي المصري مع ظاهرة موت السياسة، وتراجع البعثات الأجنبية إلى أوروبا، والولايات المتحدة، أدى إلى تراجع حيوية الليبرالية المصرية، على الرغم من أن المرحلة الناصرية استمدت بعضاً من حيويتها، وكوادر الدولة البيروقراطية من فوائض الثقافة والنخبة شبه الليبرالية. رغم مرور أكثر من خمسين عاما على وفاة ناصر، ورغما عن بعضُ من حرية الرأي المقيدة في نهايات عصر مبارك، ثم 25 يناير 2011، إلا أن ذلك لم يؤد إلى إنتاج عقل ليبرالي جديد وخلاق، يتابع ما يحدث من تحولاتها المجتمع، والثقافة الليبرالية الغربية، وغيرها. 

ثمة قلة قليلة، يمكن القول إنها، تمثل العقل الليبرالي العام – في ظل خفوت أصوات العقل اليساري كنتاج للقمع السلطوي، وانهيار الإمبراطورية الفلسفية الماركسية، وتجددها المحدود -، من أبرز هذه الأسماء الأستاذ الدكتور محمد أبو الغار القادم من عائلة تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، ودخل كلية الطب وتخرج منها 1965، والدكتوراه عام 1969، وتابع تكوينه العلمي في الدانمارك، والسويد، والولايات المتحدة، في تخصص هام، وهو أمراض النساء، وأول من أدخل التخصيب في الأنابيب في مصر، من ثم نحن إزاء طبيب نابه، وذائع الصيت في تخصصه مصريا، وعربيا، ودوليا.

ليبرالية محمد أبو الغار، ناتجة عن الوسط الاجتماعي الأسري، وأيضا تشكل وعيه النقدي، ومقارناته بين التجربة الليبرالية المصرية، وبين تجربة نظام يوليو التسلطية، وخاصة ظاهرة موت السياسة، وقمع العقل الحر، وساهم في تشكيل انحيازاته الليبرالية مع الحقوق الاجتماعية للمواطنين، لنظرته النقدية للأوضاع الاجتماعية للأغلبية المعسورة في بلادنا.

يبدو أيضا أن انفتاح عقل أبو الغار على التعدد السياسي، والديني، والثقافي، في تجربة المدينة الكوزموبولتيانية حول القاهرة والإسكندرية أساسية في تكوين وعيه الليبرالي، بالإضافة إلى بعض من خبراته في الشمال الأوروبي، والولايات المتحدة، وأنماط الحياة المفتوحة داخلها في إطار نظم ديمقراطية ليبرالية. 

محمد أبو الغار عقل ليبرالي مولع بالتاريخ المصري، خاصة في المرحلة الليبرالية حول 1919، وما بعد من هنا اهتمامه بدرس الوجود اليهودي ضمن التركيبة التعددية المصرية الدينية، والاجتماعية والثقافية، ودورهم الاقتصادي، والاجتماعي، كجزء من الدينامية السوسيو- ثقافية في المجتمع المصري خاصة في كتابه "يهود مصر في القرن العشرين" كيف عاشوا ولماذا أخرجوا؟. تناول أيضا في كتاب أمريكا وثورة 1919 سراب وعد ويلسون. 

لا شك أن أبو الغار، حاول أن يعيد النظر فيما حدث في "ثورة" 1919 الوطنية التى تعمد عبرها النظام شبه الليبرالي، والفكر "الليبرالي المصري"، بالنظر إلى سطوة المقاربة التاريخية لمؤرخي المرحلة الناصرية، التي ابتسرت هذه التجربة السياسية والثقافية المركزية في التاريخ المصري الحديث، وبعض من تشويه صورة بعض زعاماتها التاريخية، لاسيما مصطفى النحاس باشا وحزب الوفد. من ثم يمتلك بعض من النقد لنظام يوليو 1952 .التكوين العلمي لأبو الغار أعطاه القدرة على تشريح المجتمع المصري، والسياسة، من خلال مشرط الجراح القدير في كتاباته المختلفة بالصحف السيارة والكتب، من خلال التقاط بعض الجروح، والأمراض الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تشكل الباثولوجيا المصرية المركبة بالاختلالات التعليمية، وفي البحث العلمي والجامعي، والقيود المفروضة عليه، ومن ثم كان من مؤسسي جماعة 9 مارس حول الحريات الجامعية مع د. عبد الجليل مصطفي الطبيب البارز والمثقف الكبير.

يبدو مدخل أبو الغار وشغله الشاغل العقل الحر، ودوره النقدي، ومن ثم هو قرين الحريات العامة والشخصية. من هنا مشاركته الهامة في الحراك السياسي والثقافي في عصر مبارك، وما بعد 25 يناير 2011، وتأسيسه للحزب الديمقراطي الاجتماعي، ثم ابتعد عن العمل السياسي المباشر، إلى النشاط الفعال في المجال الثقافي، والكتابة للمقالات والكتب، التي تشهد له بالقدرة على التقاط الاختلالات التي تسم الحالة المصرية، في ظواهرها الكبرى، أو الجزئية التي تشير إلى خطورتها، وتمددها في النسيج الاجتماعي، وفي العمل السياسي. تتسم كتابات محمد أبو الغار بالتنوع، نظرا لتعدد اهتماماته كمثقف مصري بارز، وقدير كما يبرز في عديد مؤلفاته، من مثيل كتابه سنوات حرجة في تاريخ مصر (الوباء الذي قتل 180 ألف مصري) .محمد أبو الغار يمتلك ايضا ذائقة فنية رفيعة، في الفن التشكيلي، من ثم دائم الحضور، والمشاهدة للمعارض الفنية في مصر، وغيرها، ومتاحف الدول التي يزورها في دأب وشغف، لأنه من كبار مقتني اللوحات في مصر، ولديه مجموعات هامة لكبار الفنانين التشكيليين، وأصدر كتابا مصوراً مهماً هو "رحلتنا مع الفن". لا شك أن الذائقة التشكيلية، هي تعبير عن ثقافة الصورة، واللوحة، والنحت، التي تعكس ثقافة العين المدربة، والذكية في تحليل اللوحة، والتماثيل والمنحوتات، وربما يعود ذلك إلى هذا المزج الخلاق، بين ثقافته الطبية، وملكة التشريح للجسد الإنساني، وبين عالم الفن التشكيلي، ومدارسه، ورواده، مع الرؤيا البصيرة بعوالمه الجميلة، وإبداعاته غير المألوفة.

هذا التداخل بين الطب، والمعرفة، والفنون في تكوين هذا الليبرالي المتطور الذي يتابع بدأب تحولات دنيانا في السياسة، والعلوم، والطب، هي ما جعلته يرتاد عالم التخصيب في الأنبوب في مصر، وأول من أدخله في حياتنا الطبية. كتاباته تتميز بالرشاقة والأسلوب السلسل المشوق، دونما لغو، ويصيب هدفه مباشرة، من خلال نظرة الطبيب، ومشرط الجراح لأمراض حياتنا الاجتماعية بهدف، تجديد الدولة والمجتمع والثقافة المصرية. هذا الليبرالي الحصيف الصناع، يرمي إلى إصلاح أحوال بلده، ومن ثم نقده موضوعي، لا يغالي في اصطياد الأخطاء، أو تجسيم الأمراض الاجتماعية، ومن ثم يعتصم بالرصانة في كتاباته. 

على الصعيد الإنساني، أنت أمام إنسان جميل الروح، وصفاء العقل الوثاب، لطيف المعشر، في إنسانية ودودة، وأناقة في لغة الحديث والحوار دون لغو. مثقف ليبرالي مفتوح على الاختلاف، وعلى التعدد في الآراء، والأفكار، وذو نزعة اجتماعية عدالية في إطار ليبراليته الصارمة. مثقف مصري ليبرالي متجدد، حضوره هام وفاعل وخلاق في حياتنا الثقافية والاجتماعية، بلا نزاع.
____________________

بقلم: نبيل عبد الفتاح


مقالات اخرى للكاتب

محمد أبو الغار: عقل ليبرالي متجدد