جمعني الحوار بالأستاذ هاني لبيب الكاتب والباحث ورئيس تحرير موقع مبتدا الخبري.. في حديث طويل عن البابا كيرلس السادس.. الذي تحل ذكراه الحادية والخمسين اليوم (9 مارس).. وعلاقته الشهيرة بالرئيس جمال عبد الناصر، وكيف كان يعتمد في تحقيق مشروعه السياسي على الوطنية المصرية على بعض الدوائر السياسية مثل دائرة دول عدم الانحياز، والدول العربية، مرورا بالدائرة الإسلامية، والدائرة المسيحية، خاصة وأن مصر التي تمتاز بوجود الأزهر على أرضها.. تستمتع بالتأثير الروحي والديني للكنيسة الأرثوذكسية على المنتمين إليها في العالم.. وخاصة بعض الدول الأفريقية.
تطور الحديث بنا من مراحل بداية علاقة البابا كيرلس بالرئيس جمال عبد الناصر، وكيف تطورت بعد الجمود الذي لازمها في البدايات، حتى تلاشى جبل الجليد بينهما على إثر اللقاء الأول الذي جمعهما بمنزل عبد الناصر عام 1959.. وكأن الله استجاب لصلاة البابا بمنحه النعمة في عيني الرئيس.. بحسب صلوات الكنيسة. فاستجاب الرئيس لطلب البابا كيرلس ببناء الكاتدرائية المرقسية لتكون مركزاً للأرثوذكسية المسيحية، ومقراً للبابا المصري..الموزاي لبابا روما في الڨاتيكان..
وأحداث كثيرة وردت في الحديث بيننا ربما يعرفها البعض أو لا يعرفها..
تديين المجتمع المصري
سألته: هل تعتقد - إذن- أن مرحلة عبد الناصر كانت أفضل مراحل العلاقات بين المسيحيين والمسلمين؟
فقال: على الرغم من العلاقة الطيبة بين البابا كيرلس السادس والرئيس جمال عبد الناصر؛ فإن هناك وجه آخر لهذه العلاقة.. وهو ما ترتب عليه ما وصلنا إليه الآن، كنتاج تراكمي وتاريخي طبيعي بدأ فعلياً مع عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. رغم تقديري واعتزازي الشديد به. وهو الأمر الذي جعلني أتراجع عن رأيي وموقفي الذي تمسكت به لسنوات طويلة حول اعتبار المرحلة الناصرية فترة "التكامل والاندماج الوطني"..
بينما واقع الأمر يؤكد على أن تلك المرحلة.. كانت فترة تأسيس لمفهوم الدولة الدينية التي ترتب عليها تراكمياً ما نعانيه الآن منذ أكثر من 50 عاماً. وما نتج عن تلك المرحلة من الوصول إلى حالة (تديين) المجتمع المصري على المستويين المسيحي والإسلامي. بدأ هذا مع عدم وجود ضابط جيش مسيحي مصري ضمن مجلس قيادة الثورة.. رغم وجود مشارك مسيحي مصري (واحد فقط) هو شكري فهمي جندي.. ضمن الصف الثاني لتنظيم الضباط الأحرار؛ ولكنه قد تجلى بعد ذلك في العديد من الإجراءات والسياسات، مثل: تحويل الأزهر الشريف من جامع إلى جامعة طبقاً للقانون رقم 103 الخاص بإعادة تنظيم الأزهر بتاريخ 5 يوليو سنة 1961، ليتحول من جامعة لتدريس العلوم الفقهية والدينية إلى جامعة تضم أيضاً الكليات المدنية.. وهو ما ترتب عليه رفض التحاق المواطنين المسيحيين المصريين بها حتى في الكليات المدنية حسب نص المادة رقم 38 لقانون تنظيم الأزهر من جانب، وتراجع التطور الحقيقي للتعليم الديني فيها من جانب آخر.
وإنشاء مدينة ناصر للبعوث الإسلامية لتستوعب الطلاب الوافدين من أكثر من 65 دولة.. للإقامة فيها من أجل التعليم، ليعودوا إلى بلادهم دعاة دينيين فيما بعد. وهو ما استغلته بعض جماعات الإسلامي السياسي المتأثرة بمدارس إسلامية أخرى تابعة لدول مجاورة في وقت من الأوقات. لنشر أفكارها المتطرفة والمتشددة.
وعدم تولى المواطنين المسيحيين المصريين للوزارات ذات السيادة، وتعيينهم في وزارات عديمة الأهمية، على العكس مما تم قبل ثورة يوليو 1952، حينما تولوا الوزارات السيادية ورئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء. وترسيخ فكرة (تعيين) المواطنين المسيحيين المصريين بمجلس الشعب بعد أن كان نجاحهم يتم بالمنافسة في الانتخاب. وعلى أن يتم التعيين بموافقة الكنيسة أو مباركتها.. وهو ما يعني أنها تحولت إلى باب الدخول إلى عالم الممارسة السياسية.
استبعاد التاريخ المسيحي من المناهج
وأيضا، ترسيخ فكرة أهل الثقة على أساس الدين الواحد في التعيينات.. كبديل عن أهل الخبرة والتخصص. وهو ما ظهر كاتجاه فردي من البعض بتكريس عدد من الإجراءات تمنع تولي المواطنين المسيحيين المصريين وترقيتهم في العديد من الوظائف الحكومية. مع استبعاد كل ما يخص المواطنين المسيحيين المصريين في التاريخ المصري من خلال إعادة صياغة المناهج التعليمية. والتجاوز ضدهم في بعض النصوص.
بالإضافة لتأسيس الاتجاه الديني في الإعلام من خلال ب
عض البرامج الدينية، واستبعاد كل ما يخص المواطنين المسيحيين المصريين منها. فضلاً عن إطلاق محطة إذاعة القرآن الكريم في 29 مارس سنة 1964. ثم إضافة خانة الديانة في البطاقة الشخصية، وتكرار ذلك في أوراق رسمية أخرى.
في تلك الفترة، شاهدنا أيضا كيف اعتبرت مادة الدين كمادة أساسية ضمن مواد النجاح والرسوب للتعليم قبل الجامعي منذ شهر سبتمبر 1957، وليس كما قامت حكومة الوفد قبل ثورة يوليو 52 باعتبارها مادة لتنمية الوعي الديني.. وكيف تم تفعيل الشروط العشرة لبناء الكنائس التي أصدرها العزبي باشا (وكيل وزارة الداخلية) سنة 1934 واستمرار عدم وجود حل حقيقي لمشكلة بناء الكنائس وترميمها.
في ذلك الوقت، رأينا كيف تم صياغة الهوية المصرية من خلال الحديث عن مصر الإسلامية وكأنه أحد أشكال الاستبعاد للمسيحيين المصريين.. من المشاركة في الحياة المصرية بكافة جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية. كما أصبح قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم 2362 لسنة 1967 بخصوص تحديد أيام الأعياد المسيحية واليهودية كعطلات مصرح بالتغيب فيها للموظفين والمستخدمين غير المسلمين.. كتصنيف يرتكز على الأساس الديني.
التفسير الطائفي للتاريخ
قلت له: ولكن كيف جاءت تلك القرارات على العكس من المتوقع حدوثه.. في ظل العلاقة الطيبة بين الرجلين؟
مؤكدا على الفرق بين التوقعات والوقائع، قال: في ذلك الوقت تم اختزال العلاقة بين المواطنين المسيحيين المصريين وثورة يوليو 52 إعلامياً ووطنياً في شكل العلاقة الطيبة بين البابا كيرلس السادس وبين الرئيس جمال عبدالناصر، على اعتبار أنها علاقة شخصية غير مؤسسية.. وهو اختزال مخل لأنه لم يترجم ببساطة إلى إجراءات ومواقف يشعر بها المواطن المسيحي المصري العادي. والتي ترتب عليها وجود بيئة صالحة لترسيخ المناخ الطائفي فيما بعد.
مستطردا: لقد تم اختزال العلاقة بين المواطنين المسيحيين المصريين وثورة يوليو 52 إعلامياً ووطنياً في شكل العلاقة الطيبة بين البابا كيرلس السادس وبين الرئيس جمال عبدالناصر. وإن كنت أؤكد أيضاً على أن كل تلك المشكلات التي ذكرتها.. لم تكن في تقديري نتيجة توجه طائفي مقصود.. بقدر ما كانت إجراءات تهدف إلى تأكيد الهوية الوطنية بالدرجة الأولى، والتي تم اتخاذها على كافة المواطنين (المسيحيين والمسلمين) المصريين في سياق التوجه السياسي لنظام الرئيس جمال عبدالناصر حينذاك، دونما يتوقع أحد –حينئذ- أنها الإجراءات التي ترتب عليها وجود بيئة صالحة لترسيخ المناخ الطائفي فيما بعد.
ولكني أؤكد أنني لا أعتقد بأي حال من الأحوال أنه يجوز ربط ما سبق.. بالتفسير الطائفي للتاريخ، لكي لا نحمله أكثر مما يحتمل، ولكي لا تتحول (الطائفية) إلى مرجعية وحيدة متاحة لتفسير كل ما يحدث في مجتمعنا الآن.. رغم وجود مرجعيات سياسية وثقافية..
---------------------------
بقلم: ابتسام كامل