24 - 04 - 2024

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟

بهذا الشهر مارس 2022 يكون قد مر 222 عاما بالضبط على ثورة القاهرة التي قام بها المصريون ضد الحملة الفرنسية في 20 مارس سنة 1800. وهي ثورة وصفها المؤرخ "عبدالرحمن الرافعي" بأنه: "قلما توجد في تاريخ الثورات فجائع تشبهها أو تدانيها في ويلاتها وخطوبها وأهوالها".

بدأت وقائع ثورة القاهرة الثانية بنقض الانجليز لمعاهدة جلاء الفرنسيين التي وقعها الجنرال "كليبر" بوصفه قائد الحملة في مصر بعد رحيل نابليون إلى فرنسا. اشتهرت المعاهدة باسم "معاهدة العريش" حيث جرى التفاوض على بنودها والاتفاق عليها بين ممثلي الفرنسيين والعثمانيين والإنجليز، ونصت على جلاء الجيش الفرنسي في سفن الأسطول الإنجليزي وتسليم مصر للجيش العثماني بوصفها ولاية عثمانية، غير أن الحكومة الإنجليزية رفضت قبول بنود المعاهدة، واشترطت أن يلقى الفرنسيون سلاحهم ويستسلم جنودهم كأسرى حرب، وهو ما أدى إلى إشعال القتال شرق القاهرة، وإلى اشتباك الجيشين الفرنسي والتركي في معركة "عين شمس". 

سحق الجيش الفرنسي جيش العثمانيين في "عين شمس" وأجبره على التقهقر حتى حدود فلسطين. خلال ذلك كما يقول المؤرخ "عبدالرحمن الجبرتي": "إن العثمانيين تدرجوا في دخول مصر، وصاروا في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة، وأخذوا يشاركون الناس في صناعاتهم وحرفهم مثل القهوجية والحمامية والخياطين والمزينين وغيرهم"!، ويصف المؤرخ تلك الوقائع بأنها: "من سنن عساكرهم وطرائقهم العقيمة". أضف لذلك أن كتيبة كاملة من المقاتلة العثمانيين والمماليك انفصلت عن ميدان معركة "عين شمس" قبل بدء القتال وتسللت إلى القاهرة. 

كان من شأن وجود تلك الكتيبة في القاهرة إزكاء روح الثورة في نفس الشعب المستعد في كل لحظة للمقاومة، فالمسألة بالنسبة للمصريين كانت طبقا لتقدير الفرنسيين الذي ذكره المسيو "بوسليج" أحد جنرالات الحملة: "إن الشعب المصري بالرغم من ثوراته العديدة ضدنا يمكن اعتباره شعبا وديعا، على أنه يكرهنا، وهيهات أن يحبنا، مع أننا نعامله بأحسن ما يمكن أن تعامل بلاد محتلة (!)، إن اختلاف العادات، وأهم منه اختلاف اللغة، وخاصة اختلاف الدين، كل ذلك من العقبات التي لا يمكن تذليلها والتي تحول دون إيجاد صلات الود بيننا وبين المصريين. إنهم يمقتون حكم المماليك، ويرهبون نير الأستانة ولا يحبون حكم الأتراك، ولكنهم لا يطيقون حكمنا، ولا يصبرون عليه إلا بأمل التخلص منه". 

وبغض النظر عن زيف حسن معاملة الحملة للمصريين في حين أنها أرهقتهم بكل صنوف السلب والضرائب، فإن الجنرال "بوسليج" بحديثه عن اختلاف العادات واللغة والدين مارس التهرب بذلك من وجه الاحتلال القبيح، وراوغ في الاعتراف بصدق بطولة المصريين في مقاومته، ولو أن الاحتلال كله واحد من جهة الإذلال والمهانة، لكن الجنرال الفرنسي صدق - فيما يبدو - في ترتيب أولويات المصريين في المقاومة، وتمييزهم ما بين محتل قديم مفروض ومحتل جديد لايزال يحاول فرض احتلاله، وإن أثبتت مجريات ثورة القاهرة الثانية أن التمييز بين المحتلين خاطيء مهما كانت الأولويات تكتيكيا صحيحة.

والمهم أن حركة الثورة والمقاومة والتمرد ضد الفرنسيين لم تكد تهدأ  لشهور قليلة منذ ثورة القاهرة الأولى حتى اشتعلت في نفوس المصريين مجددا في ظل هذه الظروف. فلم يكد سكان العاصمة يسمعون أصوات قذف المدافع في "عين شمس" حتى بدأت الثورة في حي بولاق الذي يقول "الجبرتي" أنه "قام على ساق واحدة". من بولاق سرت نيران الثورة لكل أحياء القاهرة، ومنها إلى سائر أقاليم مصر. بنى الثوار المتاريس في مختلف الشوارع وهجموا مسلحين بالآلاف على معسكرات الحامية الفرنسية، واستمروا في القتال لأسابيع بعد نهاية معركة "عين شمس، ورفضوا أن ينصتوا لنبأ انتصار الفرنسيين فيها خوفا من تأثيره في كسر شوكة ثورتهم، واستمر القتال سجالا بين الثوار وجنود جيش الحملة وسط ضرب عشوائي من المدافع الفرنسية للأحياء والبيوت. 

في أتون تلك المذابح رفض الثوار مساعي الصلح ومحاولة كبار مشايخ الأزهر للتوسط فيه، "أسمعوهم قبيح الكلام" كما يقول "الجبرتي"، ليستمر قتالهم البطولي المستميت حتى اللحظة التي أشعل فيها الفرنسيون النار في كل أنحاء القاهرة، لتتحول المدينة الزاهرة على أيديهم إلى كومة من الركام والخرائب المحترقة. وانتهت المأساة بالتسليم بعد سلسلة من فجائع القتل وسفك الدماء وأهوال الإحراق والتدمير. غير أن ما انكشف مع دخان الحريق للمصريين - وبعد كل تلك الخطوب التي لم يُر ولم يُسمع بمثلها - كان الأكثر هولا وإيلاما، وهو أن هؤلاء الذين أججوا نار ثورتهم الكامنة، وجعلوا صدورهم العارية تستقبل هول رصاص بنادق الفرنسيين ونيران مدفعيتهم أملا في تحرير وطنهم، هؤلاء المماليك والعثمانيين كانوا هم أول من طعن الثوار في ظهورهم، عندما أبرموا الصلح وقرروا الاستسلام والرحيل عن القاهرة، وترك أهلها عزلا مستهدفين للانتقام الفرنسي. ليس هذا فقط بل إن قادتهم الذين تحالفوا مع الفرنسيين كانوا هم من نصحوهم بإحراق القاهرة!. 

حسبما ذكر "الرافعي": "سعى مراد بك (زعيم المماليك) حثيثا في أن يضم المماليك الذين في القاهرة إلى صفوف الفرنسيين، ولما أعيته الحيل أشار على "كليبر" بإضرام النار في القاهرة إخمادا للثورة". وتؤكد المصادر الفرنسية أن "مراد بك" قام بالفعل بإرسال عدة مراكب محملة بالأحطاب والمواد الملتهبة. والمفارقة أن علماء الأزهر عندما استأنفوا سعيهم للصلح - بين الجثث والأنقاض والحرائق - لم يذعن قادة الثوار في تسليم المدينة إلا بعد أن عُرض عليهم دخول "مراد بك" في الصلح!. ففيما كان الشعب يعاني الأهوال خلال الثورة عقد المماليك مع الفرنسيين صلحا وبعد إخمادها كانوا أعوانا لهم في إذلال الشعب.

بسبب الوقائع السابقة، وبالإضافة للجرائم الطائفية التي ارتكبها العثمانيون والمماليك ضد المسيحيين خلال حالة الفوضى أثناء القتال، وبسبب خلو ثورة القاهرة الأولى التي لم يشارك فيها غير المصريين من تلك الوقائع المؤسفة، اعتبر بعض كبار الباحثين المصريين ثورة القاهرة الأولى وحدها الأجدر استحقاقا بمسمى الثورة، بينما أطلقوا على ثورة القاهرة الثانية وصف الحدث أو التمرد أو الاضطراب. وإن كانوا لم ينكروا بالطبع صدق دافع ثوارها الوطني ومجد شهدائها من المصريين.
-------------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان