19 - 04 - 2024

حقيقة الصراع بين الدين والعلم

حقيقة الصراع بين الدين والعلم

خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر ألقى البروفسور الأمريكي "أندرو ديكسون وايت" محاضرة في القاعة الكبرى لمعهد "كوبر" الأمريكي، قال فيها: "نتج عن تدخل اللاهوت الديني في العلم، في فترات العصور الحديثة، بدعوى الدفاع عن الدين، مهما كانت دوافع هذا التدخل نابعة عن ضمير حي، أفظع الشرور التي أصابت الدين والعلم على السواء، وأدت البحوث العلمية الحرة من ناحية أخرى بغض النظر عما لاح من أخطار تهدد الدين في غضون بعض مراحلها، إلى أسمى ضروب الخير لكل من العلم والدين على السواء".

لم تكن كلمات "وايت" التي انطلقت من تفرقة حاسمة بين الدين بمعناه العام واللاهوت الديني المذهبي (الأصولي) نابعة من فراغ، لكنها انطوت على اهتمام دقيق بموضوع الصراع بين الدين والعلم، بدأ مع مشاركته في تأسيس جامعة "كورنيل" الأمريكية على يد صاحبها رجل الأعمال الأمريكي "عزرا كورنيل". كان هدف تأسيس الجامعة الاهتمام بدراسة العلم البحت والتطبيقي، وتحرير الدراسات الأدبية والتاريخية من القيود والادعاءات الكاذبة والأساليب غير العلمية المعيبة. لذلك قرر المؤسسون ألا تكون الجامعة خاضعة لسلطة أي حزب سياسي أو طائفة دينية، ووضعوا شروطا مشددة بهذا المعنى في لائحة التأسيس، غير أن معارضة دينية شرسة وقاسية قادها رجال دين مشاهير بدأت في الحال، يقول "وايت":

لم يجل في خاطر أي منا، أننا ارتكبنا بأية حال عملا لا دينيا أو عملا يتنافى مع المباديء المسيحية. كان المستر كورنيل عضوا في جمعية أصدقاء الكتاب المقدس، وكان يساعد بأمواله عن طيب خاطر ومن تلقاء نفسه في كل الجهود المسيحية حيثما عرض لها أو عرضت له، كما أنه عيّن ضمن الأعضاء المستديمين للمكتبة العامة - التي أسسها من ماله – جميع رجال الأكليروس الكاثوليك والبروتستانت في المدينة".

ماذا كانت إذن مصادر وطبيعة هذه الحملة الدينية الشعواء ضد جامعة "كورنيل" أوان تأسيسها؟

يقول "ديكسون وايت" أن أحدا لم يخطر على باله مطلقا أن يضر بالمسيحية، وعلى الضد كانت نية صاحب الجامعة والمشاركين في تأسيسها أن ينصر المسيحية ويزكيها، لكن كل ما فعلوه هو أنهم لم يخلطوا الدين بالمذهبية الطائفية، بعد أن تبينوا التأثير الخطير للسمة الطائفية الغالبة على المعاهد والجامعات الأمريكية في ضعف التعليم العالي وتخّلفه، وهو الأمر الذي عرضهم لحملة التكفير الشعواء، ولاتهام الجامعة الأمريكية بأنها تروج للكفر والإلحاد. كانت حملة هوجاء تتصف برعونة لم تزدها محاولات التهدئة والنقاش والتفنيد العقلاني من طرف مؤسسي الجامعة إلا اشتعالا. وعندئذ تبينت الصعوبة الحقيقية وهي وجود تنافر بين وجهة النظر الدينية اللاهوتية ووجهة النظر العلمية الحديثة في الكون، ومن ثم اتضحت وجوه التنافر بين التعليم المرتبط بكل منهما. من هنا أيضا بدأ اهتمام "ديكسون وايت" الفكري الطويل بتعمق الخلاف، وهو الاهتمام الذي نتج عنه خروج كتابه الموسوعي "تاريخ الصراع بين العلم واللاهوت في المسيحية" إلى النور.

وجهة النظر التي يؤكدها البروفسور الأمريكي في كتابه النفيس أن الصراع لم يكن في وجهه الحقيقي بين الدين والعلم. وهو يقصد الدين بمعناه الجوهري الذي يعني الإيمان بوجود خالق راع للكون حريص على هداية البشر عن طريق الرسل والوحي. وقد كتب "ديكسون وايت" كتابه بعد أن حسمت نتيجة المعركة في واقع البحث العلمي الأمريكي فعلا، وبعد أن انتقلت السيطرة على التعليم العام والعالي في أمريكا – وغيرها من بلدان أوروبا كذلك – من أيدي رجال الدين إلى العلماء والتربويين العلمانيين، وهو ما فتح الباب واسعا للنهضة العلمية والتعليمية في مدارس أوروبا وأمريكا. من ثم تحول هدف نشر الكتاب من إحداث تطور في معاهد وجامعات التعليم الغربي إلى تثبيت هذا التطور، بناء على نظرة علمية وتاريخية تفض الاشتباك بين الدين والعلم، وتعتبر الصراع بينهما صراعا بين اللاهوت الديني أو الأصولية الدينية وبين مقتضيات البحث العلمي. 

يقول "وايت" أنه وهو يكتب عن هذا التطور الذي حققه العلم والتعليم في أمريكا وأوروبا، لا يشعر بأي عداء تجاه رجال الدين المسيحي الأجلاء، وكثير منهم من أعز أصدقائه الذين يجّل عملهم الممتاز، لكنه من الجهة الأخرى يؤكد اعتقاده بأن رجال الدين في ميدانهم الأصلي الذي تُرك لهم وهو الإيمان، يستطيعون إذا ما كفوا عن مناوأتهم للأساليب والمناهج والنتائج البحثية العلمية، أن يؤدوا عملا من أجمل وأنبل ما قاموا به في المجتمع والتاريخ البشريين، يقول: "أؤمن إيمانا راسخا بأن العلم على الرغم من أنه انتصر بكل وضوح على اللاهوت التحكمي المبني على نصوص الكتاب المقدس وأساليب الفكر القديمة، فإنه سوف يسير في المستقبل يدا بيد مع الدين، وأنه على الرغم من أن السيطرة اللاهوتية سوف تستمر في النقصان، فإن الدين ذاته كما يتراءى لنا في قوة تسيطر على الكون – وليس نحن – يهدينا إلى الصواب، وإلى حب الله وحب جيراننا، سوف يقوى باطراد، ليس فقط في معاهد العلم الأمريكية، ولكن في العالم كله".

كتاب البروفسور الأمريكي "تاريخ الصراع بين العلم واللاهوت في المسيحية" رغم مرور أكثر من قرن وربع قرن على كتابته ونشره، هو كتاب لم يتقادم لأنه يمثل أساسا للعلاقة الحديثة بين العلم والدين، ويشرح القاعدة المتينة الثابتة التي أمكن على أساسها أن يتطور العلم والبحث والتعليم في المجتمعات الغربية المتقدمة، وهو كتاب توفرت للقاريء المصري لحسن الحظ قراءته بعد أن صدر مترجما في مصر عن "المركز القومي للترجمة". ولو كان الأمر بيدي لجعلته مقررا على طلبة المعاهد العليا والجامعات، أو نصحت المصريين كلهم بقراءته والتمعن في ما تنطوي عليه سطوره من حقائق علمية ووقائع تاريخية ثمينة. ولنصحت بقراءته على الأخص عموم المتدينين ورجال الدين الإسلامي المصريين.
-----------------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان