20 - 04 - 2024

دفعة 86 .. هنا المجد والحزن معا

دفعة 86 .. هنا المجد والحزن معا

من رحم سنوات عاصفة تشكلت طفولتنا وصبانا، فتحنا عيوننا على نعوش تسري كالماء في قرى ونجوع مصر، فتغرقها بطوفان من حزن ودموع، فقيد واحد اسمه جمال عبدالناصر، لكن اتضح أنه كان قطعة من قلب نحو 25 مليونًا يمثلون تعداد مصر في ذلك الحين، الدمع في العيون تحول بسمات على الشفاه وفرحا في القلوب بعدها بثلاثة أعوام وثمانية أيام حين انتزع الجنود الأبطال نصرًا على إسرائيل، ثم أسئلة عصيّة مع زيارة كيسنجر ومفاوضات الكيلو 101 والانفتاح الاقتصادي والمنابر والأحزاب ودراما زيارة السادات لإسرائيل ومشهد نهاية عهد من العواصف والتقلبات والآمال والإحباط باغتيال صانعها في مشهد احتفالي غير مسبوق في تاريخ مصر.

لم يكن نحو ثلاثمائة فتى وفتاة ولجت أقدامهم للمرة الأولى المدرج 1 بالدور الرابع في مينى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- حيث مقر كلية الإعلام القديم- في أكتوبر 1982 كغيرهم، لم يعيشوا طفولة معتادة ينشغلون فيها باللهو، بل تفتٌح وعيهُم مبكرا، وانفتحت جراحهم على جراح الوطن، لذلك حمل كل منهم حلمه.

كانوا زبدة طلاب الثانوية العامة في الدفعة التي شهد مطلعها اغتيال السادات، أوائل الجمهورية والمحافظات، معظمهم من الأقاليم، أغلبنا أبناء فقراء لم يكونوا يملكون إلا أحلامهم، وقليل منهم من أبناء الطبقة المترفة في القاهرة، كان المدرج بوتقة انصهر فيها الجميع، وزكّى هذا الانصهار أساتذة جامعيون من طراز خاص وملهم، الدكتورة إجلال خليفة نموذجٌ قهر كل الصعوبات، قدِمت من المحلة ريفيةّ بسيطةً أميةً تلتحق بمدرسة ليلية لتمحو أميتها في الثلاثين من عمرها، ثم تكمل طريقها وسط مشاق وصعوبات لتتبوأ منصب رئيس قسم الصحافة ووكيل الكلية للدراسات العليا، والدكتور إبراهيم إمام الذي كان في العقد الثامن من عمره ومع ذلك يعيش بقلب وتصرفات شاب صغير، كان إمام رئيسًا لمجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية قبل أن نلتحق بالجامعة بنحو 20 عامًا، ثم في 1965 رئيسًا لاتحاد وكالات الأنباء العربية، وعميدًا للإعلام عام 1970 ومع ذلك كان ينزل من على مسرح المدرج قفزًا وليس نزولاً على 4 سلالم، وحين حاولت تقليده يومًا وأنا فتى في الثامنة عشرة أصبت بجزع في قدمي! والدكتورة عواطف عبدالرحمن اليسارية المناضلة التي كانت خارجة قبل شهور معدودات من اعتقال 5 سبتمبر 1981، والنجوم الزاهرة في ذلك الوقت د. محمود خيري عيسى عميد كلية الاقتصاد والدكتور بطرس بطرس غالي، الوزير الذي لم يترك التدريس في الجامعة والدكتور علي الدين هلال والشاب، وقتها، د. إكرام بدر الدين، هذا عدا نجوم الإعلام جلال الدين الحمامصي وفاروق شوشة وعاطف الغمري وأساتذة الكلية د. جيهان رشتي، ود. ماجي الحلواني ود. منى الحديدي ود. انشراح الشال ود. سمير حسين، وغيرهم.

كنا نتقافز كالقردة، ننتهي من المحاضرات لنسرع إلى الهتاف في المظاهرات الجامعية التي تطالب بتغيير لائحة 79 الطلابية، ثم تنقلب ضد أمن الدولة التي تحجم نشاطنا، ولا بأس من تجاوز بوابات الجامعة مع حصار بيروت للتوجه إلى مقر السفارة الصهيونية بشارع أنس بن مالك قرب كوبري الجامعة، ننتهي من جلسات الصفوة لنادي الفكر الناصري التي يغرد فيها عمرو الشوبكي وياسر رزق لنشارك في اجتماعات أنور الهواري الحاشدة، وبعد الخامسة مساء ننتثر في فضاء القاهرة المتلألئة من أمسيات اتحاد الكتاب التي يزينها كبار الأدباء وبينهم طاهر أبو فاشا بخفة ظله إلى مقار الأحزاب، حزب التجمع في ش كريم الدولة وحزب العمل الاشتراكي في ش بورسعيد وحزب الوفد في المنيرة، ولأن المدينة الجامعية كانت تغلق بابها في العاشرة مساء، تعودنا أن نسلك طريقا إلى سور المدينة الخلفي قرب ميدان الدقي بعيدًا عن عيون حراسها لنتسلقه ونقفز إلى داخلها.

نتنافس فيما بيننا، من حضر محاضرات أشهر أساتذة الجامعة، من حضر ندوات سياسية وأدبية، من تعرف إلى كبار السياسيين، وقتها، فتحي رضوان، محمد حلمي مراد، فؤاد سراج الدين، إبراهيم شكري، فريد عبدالكريم، أحمد نبيل الهلالي، من جالس نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي ومصطفى محمود وتوفيق الحكيم ومحمود درويش، من حاور أمين هويدي ومحمد عبدالغني الجمسي وأحمد كامل وسامي شرف ومحمد إبراهيم كامل ومحمود رياض، من استطاع حيازة تصريح دائم بالدخول إلى أرشيف الأهرام، حين كان أرشيف الصحف رئة لا يمكن التنفس من دونها، من حصل على تصاريح لحضور قضية اغتيال السادات ثم تنظيم ثورة مصر، من نشر في الوفد الأسبوعي أو الأهالي أو الشعب، من استطاع إيجاد مكان للتدريب في الأهرام والأخبار وروز اليوسف، من نُشر له موضوع في صحيفة صوت الجامعة أو الطليعة أو الدعوة أو الشعب، من قرأ أولاً خريف الغضب المهرب من الخارج والثابت والمتحول لأدونيس، من استمع لعدلي فخري والشيخ إمام، أو متابعة تجربة محمود عوض الذي انتشل تجربة الأحرار من النسيان لتصبح صحيفة واسعة الانتشار خلال أسابيع؟

ظل السباق الدائم فيما بيننا حول من يتميز أكثر، من تحدى حظر التجول في أحداث الأمن المركزي عام 1986 والتقط صورًا لفنادق محترقة في شارع الهرم؟ لذلك لم يكن غريبًا أن تنتثر هذه الدفعة في سماء الإعلام وأن تترك علامات مضيئة بل يتسرب بعضها للسلك الدبلوماسي ولأجهزة سيادية ومحافل أكاديمية، بعضنا تولى أرفع المناصب مجدي لاشين رئيسًا للتليفزيون، أسامة البهنسي ومدحت عاصم ومحيي الدين سعد ومعتز عبدالعزيز رؤساء قنوات وقطاعات ووكلاء وزارة، عمرو أديب يكاد يكون أغلى وأشهر مذيع عربي، يسري فودة نجمًا في سماء الإعلام العالمي، أحمد عبدالرازق نجمًا في البي بي سي، أنور الهواري رئيسًا لتحرير الوفد ورئيس تحرير مؤسسًا للمصري اليوم ثم رئيسًا لتحرير الأهرام الاقتصادي، جمال غيطاس ونبيل الطاروطي رئيسي تحرير للغة العصر، مجدي الجلاد رئيسًا لتحرير المصري اليوم ثم مصراوي، عبدالحكيم الأسواني ومحمد رضوان وعادل السنهوري وأحمد أبو زيد وأحمد سالم وعماد صبحي وسامي صبري وسحر مدين مديري تحرير أهم من رؤساء التحرير، عماد الدين حسين عضوًا لمجلس الشوري ورئيسًا لتحرير الشروق، محمد علي خير مقدم برامج تليفزيونية هادفة ورائعة تتحلى باحترام عقل المشاهد، وقليل مَن يفعل في زمن نيل الرضا، حمدي رزق رئيسًا لتحرير المصور ومقدمًا تليفزيونيًا لامعًا، حسين البطران رئيسًا لتحرير الأهالي، د. نبيل السجيني ود. عادل صبري نائبين لرئيس تحرير الأهرام، السيد حسن مديرًا للبرامج الأدبية في الإذاعة وأمينًا لصندوق اتحاد الكتاب وشاعرًا لامعا، خالد حمزة نائبًا لرئيس تحرير آخر ساعة وكاتبًا ساخرًا متمكنًا من أدواته، محمود عبدالعظيم مديرًا لتحرير الأهرام وكاتبًا اقتصاديًا متميزًا، جميلة إسماعيل سياسية وإعلامية كان يمكن أن يكون لها شأن لولا انكسار ثورة يناير، منى ياسين مسؤولة للإعلام في منظمة الصحة العالمية وشاعرة بديعة، علي عطا روائيًا وشاعرًا ومديرًا لتحرير أنباء الشرق الأوسط، حاتم محمود مديرًا لتحرير الأخبار، محمد عز الدين فنانًا رائعًا ونائبًا لرئيس تحرير روزا اليوسف، طارق عبدالفتاح إعلاميًا لامعًا ومستشارًا ثقافيًا سابقًا في الخارج، نجوى طنطاوي أستاذة إعلام وقيادية صحفية لها شأن كبير، أيمن الشيوي فنانًا سينمائيًا ومسرحيًا لامعًا وعميد كلية العلوم السينمائية والمسرحية في Buc، أماني قاسم كاتبة من أجمل الكاتبات الساخرات في العالم العربي، حورية عبيدة كاتبة فذة وقاصّة من طراز بديع، جمال الأمير مديرًا لأحد المطارات، حجاج فراج شاعر عامية متميزًا وقياديًا في السياحة، هاني فرحات مخرجًا وقياديًا في القناة الخامسة، محمد عبدالجواد قياديًا لامعًا بالقناة الرابعة، مصطفى حسين ومجدي سعد الغريب قياديين ومديري مراكز في هيئة الاستعلامات، محمود حبسة رئيس تحرير جريدة الرأي، حنفي مهران ومصطفى الحفناوي وغادة زين وفاطمة كريشة قياديين صحفيين متميزين، خالد سالم مخرجًا متميزًا وقياديًا بالتليفزيون، نجوى العشيري قيادية بوزارة الإدارة المحلية، منال سالم قيادية بإدارة الإعلام في وزارة الصحة. 

من زملاء الدفعة ونجومها أيضًا، حمدي شفيق كاتبًا رائعًا وقاصًا ومديرًا لمركز إسلامي في كندا، طارق الشامي مدير مكتب لقناة الحرة في القاهرة، ثم قياديًا بالقناة بواشنطن، حسين جبيل رسامًا وفنانًا لامعًا ومديرًا لتحرير الأهرام، عبدالحكيم الشوبري وإيهاب الجنيدي قياديين ومديرين بإعلانات الأخبار، عبدالرحمن البقري، عبدالحميد لبيب فارسي إعلانات في الأهرام، دينا عاطف أباظة قيادية بنكية مهمة، مجدي البنداري رئيس قناة تليفزيونية، والمذيعات البارعات نجلاء ديانة وناهد فوزي وصفية صبري وعلا ناصف، كذلك عفاف خليل مديرًا عامًا للمكتبات بجامعة حلوان، د. حنان جنيد ود. سلوى العوادلي وكيلتين لكلية الإعلام، د. شيم قطب ود. سعيد الغريب النجار أستاذين بكلية الإعلام، راندا أبوهيبة بالشؤون المعنوية وعشرات من المتميزين في مجالاتهم بينهم دينا عبدالفتاح وطاهرة مختار نهال سمير ونرمين العطار وحنان سلمان وحنان حمدي وسحر سمير وبسمة الخطيب ومنى النجار وإيمان بهي الدين وسهر رشاد ودعاء يسري وأمل إبراهيم وعلياء العزازي وخالد فاروق وموزة طه ورجاء كشيك وأحمد حسين وخيرت عياد، وعشرات آخرون من الكفاءات المتميزة الذين لم تعد الذاكرة العليلة تسعف بذكر أسمائهم ومواقعهم.

اليوم أستيقظ على فاجعة رحيل ياسر رزق أحد أهم حبات عقد دفعة 86، رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم ورئيس تحريرها السابق، ومع كل رحيل تسقط قطعة من القلب، رحيل موجع يستكمل حلقات نزف بدأت بأيمن سعيد أستاذ الإعلام الواعد وأول الدفعة، الذي فجعنا مبكرًا، وتلاه في الرحيل ماجدي البسيوني رئيس تحرير العربي السابق ثم ناصر عبد السلام المخرج التليفزيوني اللامع ومحمد بدر صاحب أجمل أخلاق، الوادع المهادن، وعبدالخالق صبحي طابت حياتهم الأخرى جميعا.

رحمات الله على أحبتي الراحلين، بقدر ما أضاؤوا أيام البلاد وأكسبوها وهجًا، نجوم من طين هذه الأرض، يفرقها الهوى السياسي والتوجه، وتجمعها آمال وأحلام ليس لشخوصهم فقط وإنما لمصر.

أتفقد أحبتي وأصدقاء دفعتي، لا شيء يوجع ويزعج- بعد وفاة ياسر- إلا وجود عبدالحكيم الأسواني في الرعاية المركزة وعزل عماد الدين حسين في فندق بالشارقة بعد أن عاودته إصابة كورونا، شفاهما الله وعافاهما وردهما لنا ولأحبتهما سالمين، كما نسأله أن يتم شفاء البسامة المستبشرة أماني قاسم.
(للأسف فجعنا برحيل عبدالحكيم الأسواني أيضا بعد 48 ساعة من كتابة نسخة أولية لهذا المقال، بعد شهور معاناة مع المرض، كان حكيم هينا لينا ممن يمشون على الأرض هونا، فاللهم إن كلا من حكيم وياسر جاء ببابك وأناخ بجنابك فجد عليه بعفوك وكرمك وإحسانك وارحمه رحمة تطمئن بها نفسه وتقر بها عينه. وانظر إليه وإلينا بعين رضاك).

-----------------------
بقلم: مجدي شندي

مقالات اخرى للكاتب

تباريح | مصر ليست مجرد أغنية!





اعلان