26 - 04 - 2024

حتى لو ضرب بينهم وبين العالم بسور: كيف استغنى المصريون بمحبة مصر منذ أقدم العصور؟

حتى لو ضرب بينهم وبين العالم بسور: كيف استغنى المصريون بمحبة مصر منذ أقدم العصور؟

محبة المصريين لبلدهم وتعلقهم بها ونزعة الفخر بها كوطن أزلي وأبدي لهم، واعتبار مكانة مصر المركزية في وعيهم منطلقا للتفكير في مختلف شئونهم وشئون العالم، ليست أمورا مستجدة زمنيا، ولا تعود في التاريخ إلى ما بعد نشأة الدولة الحديثة كشأنها لدى كثير من الشعوب الأخرى. وهي نزعة سبقت بولادتها تبلور النزعة الوطنية الحديثة بآلاف السنين، تلك النزعة التي تبلورت إبان انهيار الدولة التوسعية القديمة: الامبراطورية والملكية في الغرب والخلافة والسلطنة في الشرق. 

يعود الفضل في ذلك مباشرة إلى جغرافيا وديموغرافيا مصر منذ أقدم العصور. على المستوى الجغرافي عرفت مصر الحدود السياسية بمعناها الحديث بفضل حدودها الطبيعية التي تحدها من كل اتجاه: الشلالات في الجنوب، الصحراء الغربية الكبرى في الغرب، البحر المتوسط في الشمال، البحر الأحمر والصحراء الشرقية الواسعة في الشرق. هذه الجغرافيا أتاحت من جهتها فرصة تاريخية نادرة لتشكيل سبيكة سكانية متمازجة. سبيكة استوعبت الهجرات السكانية المختلفة عبر العصور ومن كل اتجاه، من الجنوب والشرق والغرب، وأتاحت الفرصة كي تمتزج عناصرها ثقافيا ومجتمعيا، ويغتني بها التركيب السكاني والجيني المصري التاريخي باستمرار.

هذه الحقيقة جسمها المؤرخ المصري المعروف "تقي الدين المقريزي" في تصوره الرمزي عن ميل المصريين للاستغناء بمصر عن العالم واكتفائهم بها، فقال: "وأهلها يستغنون بها عن كل بلد حتى أنه لو ضُرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور لاستغنى أهلها بما فيها عن جميع البلاد". الأمر الذي يفسر كذلك عدم وجود موجة واحدة – كبيرة أو صغيرة – من موجات الهجرة خرجت من مصر، مثل سائر موجات الهجرة التي عرفتها الشعوب الأخرى في فترات من تاريخها. رغم أن المصريين تعرضوا عبر تاريخهم الطويل لدورات من الجفاف والأوبئة والمجاعات لا توصف فظاعتها، لكنهم بأغلبيتهم صمدوا لها مهما طالت واشتدت ضرواتها وانعقدت مرارتها، دون أن يفكروا تفكيرا جماعيا في الهجرة والرحيل. تاريخ الشعب المصري الطويل تصدق عليه تماما عبارة المؤرخ "المقدسي": "هذا إقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه ورخصه وإذا أجدب فنعوذ بالله من قحطه، يمد سبع سنين حتى يأكلون الكلاب ويقع فيهم الوباء"!. 

عبارة "المقدسي" – وهو الغريب الذي ينتمي لفلسطين كما يدل اسمه – تفيد على غرابتها بإحاطته بتاريخ مصر، فالفقيه والمؤرخ المصري "السيوطي" وصف "الشدة المستنصرية" التي وقعت في سنة 460 هـ (1067م) بطريقة لا تجعل العقل يكاد يتصور ضراوتها، قال: "في سنة 460 كان ابتداء الغلاء العظيم بمصر الذي لم يسمع بمثله في الدهور من عهد يوسف الصدّيق، واشتد القحط والوباء سبع سنين متوالية بحيث أكلوا الجيف والميتات، وأفنيت الدواب وبيع الكلب بخمسة دنانير، والهر بثلاثة دنانير، ونزل الوزير يوما عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فصلبوا، فأصبحوا وقد أكلهم الناس"!. لكن سائر تلك الأهوال لم تجبر المصريين على التخلي عن بلدهم، ولم تشجعهم على هجرتها، ولم يُسمع بذلك في تاريخهم أبدا.

ولأن عين الرحالة الغريب تلحظ بدقة ما تألفه عيون المقيمين من أهل المكان،  فقد منحنا "المقدسي" أيضا واحدا من أقوى الأوصاف غير المقصودة لغرام المصريين واعتزازهم ببلدهم. حكى المؤررخ في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" واقعة حدثت له بمصر فقال: "وكنت يوما أمشي على الساحل (النيل) وأتعجب من كثرة المراكب الراسية والسائرة، فقال لي رجل منهم: من أين أنت؟ قلت: من بيت المقدس، قال: بلد كبير، أعلمك يا سيدي - أعزك الله – أن على هذا الساحل، وما قد أقلع منه إلى البلدان والقرى من المراكب، ما لو ذهب إلى بلدك لحمل أهلها وآلاتها وحجارتها وخشبها حتى يقال: كان هاهنا مدينة"!. ويكفينا لتمثل أبعاد هذا الفخار الوطني الزاهي من رجل من عامة المصريين، أن نتذكر أن هذا المصري عاش في زمن ينتمي إلى التاريخ الوسيط، وهو عصر لم تكن مصر فيه ذاقت بعد طعم الحرية ومعنى الاستقلال السياسي، وكان الحكام الأجانب والغرباء لايزالون يتداولون على حكمها حتى هذا الوقت ولمئات تسبقه من السنين، الأمر الذي يؤكد قدم وعراقة ورسوخ هذه النزعة الحارّة الجارفة في نفوس المصريين، بأزمنة طويلة تسبق مولد مباديء الوطنية الحديثة.

لا نبالغ ولا هو من قبيل الفخر الجديد لو أكدنا أن نزعة الانتماء المصرية تعود – ربما بآلاف السنين - إلى ما قبل عصر الملك المعبود "مينا" العظيم موحد القطرين. فالمصريون القدماء قدسوا ملوكهم واعتبروهم "أبناء الآلهة" لأنهم كانوا – شأن الإله "حورس" – حفظة مصر القائمين على الذود عنها والدفاع عن أرضها وسكانها في مواجهة محيط عدائي، لذلك أطلق المصري القديم على كل أرض غير أرض مصر اسم جنس واحد مشترك هو: "دشرت"، أي الأرض اليباب. ويمكن تلمس أسباب التقديس والعبادة التي خص بها المصريون القدماء ملوكهم في ميثولوجيا أديانهم القديمة، وأقصد بالميثولوجيا معني "القصص الديني" الرمزي، لا الأسطورة بمعناها المتداول غير الدقيق ويستفاد منه الخيال والخرافة.

من بين القصص الديني القديم الذي يمكننا من تلمس أسباب تقديس المصريين لملوكهم، قصة عبادة سكان الفيوم القدماء للإله التمساح "سوبك"، وقد جاء في تفسير عبادتهم له أن الملك "مينا" بعد أن بذل جهودا جبارة في معارك توحيد مصر، قرر أن يسترخي أياما على شاطيء بحيرة الفيوم العذبة التي كونتها مياه فيضان النيل، كان في معيته كلبه الأثير الذي أصيب هنالك بسعار فهاجم الملك، وكاد ينال منه لولا أن خرج التمساح فجأة من قاع البحيرة، حمل الملك على ظهره وأبحر به بعيدا. منذ ذلك الوقت أصبح هذا التمساح المنقذ، حارس حياة الملك، إلها معبودا في الفيوم اشتهرت به عبر تاريخها القديم كله. ليس من شأن أحد أن يتساءل - بسذاجة بالطبع - عن مدى صدق أو واقعية قصة دينية كهذه، فمن الواضح أن ما تحكيه يصعب تصور حدوثه، لكن مدلولها الرمزي الذي تؤديه على أكمل وجه واضح تمام الوضوح، وهو أن ما يستحق التقديس في نظر المصري كان ولايزال - فقط وحصرا - ما يحفظ الحياة والوحدة على أرض مصر.

من أجل ذلك لا أمل مطلقا من نصح هؤلاء الذين يعتبرون الموت أسمى أمانيهم، والحياة غير ذات قيمة ولا أهمية بالقول: لقد جعلتم من المصريين أعدى أعدائكم، وإلى الأبد.
----------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان