29 - 03 - 2024

عام شهد بلا بعد ولا فقد!

عام شهد بلا بعد ولا فقد!

مع بدايات عام جديد نحتاج إلى تجديد بوصلة الطاقة النفسية والروحية وشحذ الهمم في مسار العلاقات الإنسانية والاجتماعية والأسرية سواء في مصر والوطن العربي في ظل واقع اجتماعي أليم ، ومن المفيد في هذا الإطار أن نسلك سبيل النحل لنجني الشهد قبل البعد والفقد!.

في القرآن الكريم سورة باسم "النحل " وفيها إشارة بليغة عن النحل وفوائده، حيث يقول الله تبارك وتعالى:" وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون".

والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول :" .. والذي نفسي بيده ، إن مثل المؤمن كمثل النّحلة  ؛ أكلت طيباً ، ووضعت طيّباً ، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد".

إن الإشارة القرآنية واضحة فيما نرى بنصح الجميع بالتدبر في أمر النحل كآية لقوم يتفكرون ، والروشتة النبوية ساطعة المعنى قاطعة الأثر والتأثير منطلقة من أن شراب النحل ليس فقط دواءا للجسد ولكنه كذلك دواء للروح والنفس والقلب ، والاقتداء بالنحل في مسار تطوير العلاقات الإنسانية في المجتمعات فيه شفاء للناس من كل الأمراض التي ضربت مجتمعاتنا قاطبة والتي أدت إلى الشقاق والنزاع والصراع والافتراق، وعلماء كثيرون ينصحون بالتمسك بسبيل النحل.

وللنحل صفات حسان وله عيون جميلة ، والتمسك بصفاته والنظر بعيونه ينتجان باذن الله شهدا في حياتنا الاجتماعية وأياما عسلا تلو أيام في علاقاتنا الانسانية والأسرية خاصة.

إن من أهم صفات النحل وفق ما كتبه المختصون : التعاون والعمل بروح الفريق ، ويقولون في الأمثال الروسية :" نحلة واحدة لا تجني العسل"، وهو معنى قريب من معنى  المثل المصري :" يد واحدة لا تصفق"، وفي هذا قال الشاعر فؤاد حداد لامسا أوتار القلوب والأرواح والنفوس :" حمل الليالي خفيف لما يشيلوه اتنين".

وفهم هذا المعنى من قديم الفيلسوف والامبراطور الروماني ماركوس أوريليوس فقال :" لا مجد لك بمعزل عن مجد قومك، ما لا يفيد السّرب لا يفيد النحلة. لا مجد لنحلةٍ في خليةٍ منهارة"، وهنا الأمر جلل ، فلابد من مقاومة النزعة الفردية الأنانية والاستقلال المعيب القائم على الأنا غير المبالية بكيان الأسرة أو المجتمع أو الروابط الجميلة فيه سواء الصداقة أو الأخوة أو الزمالة، والعمل على انجاح كل الروابط الإنسانية الحميدة قبل فوات الآوان.

ومن أبرز صفات النحل أيضا : الحب والتجانس والتعاون والتفاهم ، والحرص على الجد والاجتهاد والايجابية والنظام والمرونة والمسئولية، فهم كما يقول الشاعر البريطاني الراحل وليم بليك :"النحلة العاملة ليس لديها وقت للحزن".

 وللنحل عيون لا تقع إلا على كل جميل ولا ترى الا الجمال ، وتبصر الخيرات والأزهار فتساعدها و تساعدنا وتساعد أنفسها ، على عكس عيون الذباب التي تقع على كل قبيح وتسعى إلى متسخ ولا تعطي الا الأذى .

ماذا نحتاج إذن ؟!

الأمر في البدء هو قرار ذاتي حاسم بضبط بوصلة مسار العلاقات الإنسانية في حياتنا ضبطا قائما على نهج النحل معززا بوعي وسعي وحلم وأمل وإصرار وعزم ، والأمازيغ في تراثهم الشعبي يقولون قريبا من هذا :" الذبابة لا تنتج العسل ولو كان حجمها أكبر من النحلة"، فالوقفة الواعية في مربع النحل تجلب العسل وتحافظ على الخلية ووقوف البعض في مربع الذباب يجلب لهم الكرب والصعاب .

 وبعد ذلك علينا تجويد مسار دوائر العلاقات وتحديد المسافات والمساحات لكل الدوائر القريبة منا ، والأسبان يقولون في هذا الإطار:" لم يصنع العسل لتأكله الحمير"، فليس معنى أن نكن كالنحل أن نكن مستباحين وأن نهب العسل لكل من هب ودب ، فلسنا بالخب ولا الخب يخدعنا.

علينا وقف أعاصير النقد المدمرة للعلاقات ، كي لا ندفع مزيدا من ضرائب البعد و الفقد، ولنطمئن فإن الكلمة الطيبة صدقة، ويجب أن نعلم في هذا الإطار أن كل نجاح في العلاقات الإنسانية يدفع فيه أثمان شتى.

يقول المتنبي : تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً  وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ

 فلنسارع بمنهجية النحل إلى جبر الخواطر، وبناء الجسور لا الحوائط، مطمئنين أن هناك رب عليم كريم لن ينسى ، وصوب أعيننا حقيقة ناصعة ألا وهي أن الديون ليست أموالا فقط، بل هي أيضا لحظات عطاء نبيل لا تنسى.

إن في الأوطان كيانا إذا ارتقى ارتقى الوطن وإذا تفكك ضاع أي وطن ألا وهو كيان الأسرة ، فإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع ، وإذا صلح المجتمع صلحت الدولة، ولن نجد أجمل من دليل النحل لبناء هذا الكيان وتأسيسه على أفراد متميزين اجتماعيا وأخلاقيا.

ما أروع أن تتصافح القلوب وتتغافر مع بداية العام، وتسير على نهج النحل صفاتا وعيونا ، فتنظر إلى الحسنات لا العيوب ، وتلتزم درب التعاون على المحبة والمودة والرحمة والسلام والمؤازرة والنجاح والتكاتف والعطاء النبيل وحماية القلوب البيضاء والكف عن المناكفات والبعد عن المنغصات.

وأخيرا نقول: أيها الحالمون بدفء الطمأنينة والسلام.. اجعلوه عام الشهد قبل البعد والفقد!

 القرار بقلوبكم .. ومنهج النحل أمامكم .. والله الموفق وهو المستعان.

(نستقبل استفسارات قلوبكم على البريد الالكتروني : [email protected])
--------------------------
بقلم: حسن القباني

مقالات اخرى للكاتب

لن نعيش في جلباب الماضي





اعلان