19 - 04 - 2024

تاريخ الملاية اللف في مصر .. من زي للرجال إلى مجرد "ذكرى نسائية مبهجة"!

تاريخ الملاية اللف في مصر .. من زي للرجال إلى مجرد

يا أم ملاية لف اسم الله .. تقتل مية وألف حد الله
- الأغاني: حين ارتدتها المغنية المشهورة (عزة) اكتسبت لقبها (الميلاء) لأنها كانت تلبس الملاية وتتشبه بالرجال!
- بوكول: شاهدت قرب الفيوم شباناً يافعين من سواد الشعب، لم يكونوا يرتدون إلا هذا الإزار أو الملاية
- الملاية بدأت في الظهور مع عصر سلاطين المماليك، حيث تمتعت النساء بحرية واسعة في الخروج، والتردد على الأسواق والحمامات
- "ابن الحاج" احتج على ملابس النساء المتناهية القصر والضيقة المحبوكة على الجسد، والتي تظهر تفاصيل الجسم بداية القرن 14
- زوجة السلطان (برسباي) صرفت مبلغ ثلاثين ألف دينار على ثوب واحد. صنع خصيصاً من أجل حفل ختان ابنها.
- القاهريات تحدين السلطة التي كانت تصدر القوانين تباعاً لتحدد شكل الملابس، فلبسن الملاءة وأخفين تحتها الغريب والطريف من الأزياء
- الفنان محمود سعيد رسم عام 1937  فتيات حي بحري بالإسكندرية وهن سائرات بدلال يتبخترن في ملاءاتهن المشدودة على أجسامهن

وأنا اتابع الصور المتلاحقة القادمة من المملكة العربية السعودية لارتداء الفتيات والسيدات لعباءة مفتوحة تظهر ما تحتها من خطوط الموضة الملونة تنبهت للطريق الطويل الذي قطعته المرأة المصرية وهي تتخلى عن الملاية اللف؛  الزي الشعبي المصري الجميل البسيط  الذي كان يحقق لها احتياجاتها ويبرز جمالها ودلالها وتقبل تغييره لصالح العباءة السوداء والإسدال بدافع الموضة أحيانا والتهديد أحيانا أخرى وبسبب إغراق الأسواق بهما والترويج لهما من السلفيين وجماعة الإخوان وكل من انتمى للتيار الوهابي ودفع ملايين الجنيهات لإحداث هذا التغيير في الشارع المصري، حتى أن زوجة البواب ومساعدتي في البيت أخبرتاني أن أي امرأة تستطيع الحصول على اسدال مجاني وعشرين جنيها كل شهر من الجامع الجديد الواقع على ناصية شارعنا إذا ما واصلت ارتداءه. كان هذا في نهاية الثمانينات. 

قبل أن تختفي "الملاية اللف" من شوارع القاهرة والإسكندرية بقليل، وقبل أن تصبح ذكرى لا نراها إلا في لوحات محمود سعيد وحلمي التوني وكبار الرسامين المصريين الذين اهتموا بتسجيلها كتبت أيامها بحثًا صغيرا عن قصة هذا الرداء البديع الذي اختارته المرأة المصرية لتظهر به أمام الناس ترتديه في الأحياء الشعبية فوق ملابس البيت لتهرع لإنقاذ ابنها الذي يتعارك مع ابن الجيران أو لشراء حاجة عاجلة من السوق وترتديه فوق فستان قصير بكرانيش لزيارة الأصدقاء كما رأينا بنات بحري في لوحات محمود سعيد وتزين ساقها بالخلخال الفضة لتضيف سحرًا برنته كلما خطت خطوة في الشارع. ثم سادت العباءة والاسدال الأحياء الشعبية والقرى فما الذي أعاد ذكراها إلى ذهني الآن؟ أعادها سؤال:

مع القوانين التي تغير شكل المجتمع السعودي وانكشاف الدور الأمريكي لنشر التعصب الديني والوهابية في مصر، هل تعود لنا صورة المرأة المصرية بالملاية اللف والمنديل بـ"أوية" الذي تتمخطر فيه ووروده الملونة فوق وجهها ويلعلع الترتر الذي يزينه فوق جبينها وترتدي معه الخلخال والقبقاب؟ بالطبع لا لأن حركة الزمن سريعة والماضي لا يعود، لهذا أدعوكم لقراءة ما كتبت يوما ما عن قصة الملاية اللف والتي كانت تصنع من القماش الأسود الكريشة اللامع للشابات أو المنطفيء الناعم للعجائز ويتم تفصيلها بطول مترين وعرض أربعة أمتار وتلف بإحكام حول الجسد ويرفع نصفها الأعلى ليصل إلى الرأس ويتدلى الباقي من بعد الخصر الضيق نوعا ما ليغطي باقي ملابسها. بعض المؤرخين ومنهم د إبراهيم عناني قالوا إن أصلها روماني وكان اسمها "الهيماتيون" وأنها انتقلت إلينا من الرومان. لكن المسألة في رأيي المتواضع أبعد من هذا بكثير وتعالوا نعرف الحكاية كما كتبتها في نهاية الثمانينات. ربما تعود الملاية اللف والمنديل أبو "أوية" ويعود الدلال أيضًا، وربما تجد المرأة المصرية صيغة أخرى مناسبة للعصر. كتبت أقول:

الملاية اللفّ 

نادراً ما تشاهد الملاية اللف الآن على بنات القاهرة والإسكندرية، اختفت بالتدريج من الشوارع الرئيسية لتنزوي في الأحياء الشعبية. وفي السنوات العشر الأخيرة، كادت أن تندثر من أعرق الأحياء في بولاق والسبتية ومصر العتيقة، وأيضا في بحري ورأس التين. صدفة، وفي منطقة الحسين والغورية، رأيتها ليلاً على عدد كبير من الفتيات والسيدات، كن يرتدينها على أحدث طراز، ووفقا لموضة 89، بعد أن كتبن على ظهرها بالإنجليزية I Love you، ورسمن قلبا تخترقه سهام اشتغلنها بالترتر وخْرْجْ النجف. بعضهن طالبات جامعيات، وأخريات في دراستهن المتوسطة، أما الأكبر سناً، فقد اكتفين بالقليل من التحوير، إذ اشتغلنها بالكروشيه فوق الكتف، لتصبح أكثر استقراراً على الجسم، وتتخذ شكلاً أقرب إلى العباءة العربية (المقنعة الحبرانية، أو الجبة الشامية، أو الدفة الإماراتية، أو الثوب السوداني..) إلخ.

حين سألت بعضهن: لماذا يلبسنها على هذا الشكل؟ أجبن: موضة؟

الملاية بين الرجل والمرأة

وقديما كانت الملاية لا يلبسها إلا الرجال. فقد ورد في "الأغاني" أن المغنية المشهورة (عزة) قد اكتسبت لقبها (الميلاء) لأنها كانت تلبس الملاية وتتشبه بالرجال(1).

كذلك يورد إدوارد لين E.Lane أن هذا الثوب نوع من المعطف الأزرق والأبيض، يلبسه الرجال والنساء على سواء، وأن الرجال يلقونها على الكتفين أو يلفون بها الجسم(2).

ويذكر شابرول De V.Chaparol أحد علماء الحملة الفرنسية، أن الملاية شقة من القماش القطني المخطط بخطوط زرقاء وبيضاء طولها ثمانية أقدام، وتستعملها النساء والرجال، وهي أشبه بجبة كبار رجال الدين(3). أما بوكول JM Beeuocool فيشير أن الأعراب والمسلمين المولودين في مصر قد اعتادوا ارتداء إزار أبيض أو أسمر في الصيف، يتخذونه من القطن، وأن نصارى الريف يتبعون هذه العادة، إذ يغطون الذراع اليسرى بإحدى الزوايا، ويطرحون الثوب إلى الوراء، ويمررونه تحت الذراع اليمنى، ثم فوق الصدر وعلى الجسم، ويلفون سائره على الذراع اليسرى، بحيث يتدلى على الظهر، فيما الذراع اليمنى تظل مكشوفة قصد استعمالها بحرية. وحين يشتد الحر وهم على ظهور الخيل، يسلبون الإزار على السرح، فلا يغطي إلا البطن السفلي.

وقد لاحظ بوكول قرب الفيوم شباناً يافعين من سواد الشعب، لم يكونوا يرتدون إلا هذا الإزار أو الملاية(4).

وفي واحة سيوة، لاحظ هورنمان L. Hormannأن الرجال يلبسونها، وأنها عبارة عن شقة كبيرة مخططة بخطوط زرق وبيض، تطوى وتطرح على الكتف، أما النساء هناك، فإنهن يلففن بها الرأس ويلبسنها على هيئة الإزار (5).

ويبدو أن استعمال الملاية كزيّ لا يقتصر فقط على مصر، إذ يخبرنا بوركهارت Borkhardtأنها شائعة في البلدان العربية المختلفة، فهي في مكة من الحرير المخطط بخطوط بيض، وتصدر إليها خصيصاً من الهند، وترتديها نساء ديار بكر(6).

ملايات لها تاريخ

وقد يكون من العبث استنطاق التاريخ عن الملاية، ذلك لأن الأحداث العنيفة التي توالت على مصر، قد أثرت في دراسة الكثير من العادات والتقاليد ومركبات الثقافة المحايدة، وتركت الملاية في حكم المهملة، لا يجوز الجهر بتفصيلاتها لأسباب تتعلق بالدين والحشمة معروفة.

على أن التفتيش في أوراق الرحالة الغربيين، ممن زاروا مصر، أو لدى مؤرخين وباحثين جذبهم سحرها وجمالها، قد يمدنا ببعض المعلومات عنها.

وغالب الظن أن الملاية قد عرفت في مصر الفرعونية، وإن لم تذكر طبعاً بهذه التسمية، إذ يتحدث سعد الخادم عن: "نسوة راقصات، صورن على بعض التماثيل، وقد أطحن بأطراف ثيابهن الفضفاضة المتناهية الرقة.. مما تفصّل تقاسيم أبدانهن تارة، وتواريها تارة أخرى"(7). منذ هذا التاريخ، ظلت الملاية علامة من علامات الزي المصري، وإن داخلته تعديلات وتحويرات، بحكم تأثير الثقافات الوافدة، "فهناك مجموعة من النقوش بين الآثار القبطية، التي يرجع تاريخها إلى القرنين الثامن أو التاسع الميلادي، والتي حفرت على بعض عظام الحيوان، تبين راقصات عاريات، وقد تلفعن بأثواب رقيقة يسدلنها تارة على أجسامهن، ويرفعنها بعد ذلك، كاشفات بهذه الطريقة، وفي كل حركة يؤدينها، فتنة من مفاتن أبدانهن".

ونحن أميل إلى القول بأن الملاية بشكلها ووظيفتها التقليديين، بدأت في الظهور مع عصر سلاطين المماليك. ففي هذا العصر، تمتعت النساء بحرية واسعة في الخروج من بيوتهن، فكن يترددن على الأسواق لشراء ما يلزمهن، أو على الحمامات لاستكمال الزينة، وهناك يأنسن ببعضهن، ويقضين الساعات الطوال يتناقلن أخبار البيوت وأسرار العائلات(9)

يؤكد هذا، حديث ماير Mayer L.A. عن المرأة المصرية في بداية القرن الرابع عشر، حيث كانت تلف جسمها بملاية فضفاضة متسعة، يطلق عليها (الإزار)، ويغطي الملابس كلية(10).

وكان هذا الإزار بالنسبة للمسلمات عامة أبيض اللون، وبألوان أخرى لدى نساء أهل الذمة، فالمسيحيات منهن يرتدينه أزرق، واليهوديات أصفر، فيما تفضله السامريات أحمر، وكن يشدّون حوله حزاما (زنّار)، يقل إنه من ابتكار "قنميم" وهو أحد الندماء في بلاط الخليفة، ويستخدمن، كلباس للرأس، قطعة من القماش يطلق عليها (العصابة)، تلف كالعمامة حول جزء من الإزار الذي يغطي الشعر. ذلك أن أهل الذمة كانوا يلزمون من وقت لآخر بلبس نوع من الثياب حتى يميزوا عن غيرهم(11).

ومن المحتمل أن الملاية، وقتذاك، كانت أشبه في هيئتها بتلك التي تستعملها البدويات إلى الآن، إلا أنه كانت تزينها أحياناً زخارف غنية جميلة مطرزة ومحلاة بالأحجار الكريمة.

ويقول "ماير" إن نساء المدينة اعتدن أن يطفن محجبات، باستعمال أشكال متنوعة من الحجب (المقنعة، والقناع، والنقاب) وكلها إما قناع شبكي أسود يغطي الوجه كله، أو آخر مثل الأول به فتحتان للعينين، أو قناع للوجه أبيض أو أسود، يطلق عليه اسم (برقع) يغطي الوجه إلى ما تحت العينين.. وكان ظهور المرأة دون قناع بين الجمهور دليل على فقرها الشديد، أما الراقصات والمغنيات المحتمل أن يظهرن كاشفات الوجوه.

وما خفي كان أعظم

ونترك أوراق التاريخ تحكي لنا عما كانت تستره الملاية تحتها.

يذكر المقريزي الذي كان يشغل وظيفة (محتسب)، ويتحمل مسئولية مراعاة آداب السلوك الخاصة بالنساء القاهريات أنه لم يكن (الإزار) وهو الغطاء الشامل للجسد يعتبر عائقاً بالنسبة لتقدم الموضة، إذ رغم ذلك، أخذت التصميمات في التطور ولكن لم نجد مؤخراً من معاصريها من يخصها بالحديث، ولا شاعراً عربياً مثل محمود قاري الفارسي يتغنى بها، بل إنها أغضبت رجال القضاء ورجال الشرطة، ومنهم (محمد بن محمد العبدري) المشهور بابن الحاج، الذي عاش في مصر أوائل القرن الرابع عشر. وقد احتج على ملابس النساء المتناهية القصر والضيقة المحبوكة على الجسد، والتي تظهر تفاصيل الجسم، واشتكى أن السراويل الطويلة كانت تلبس ويسترخى رباطها إلى ما تحت الخصر بكثير بدلا من أن تبدأ من فوقه حسب ما نص عليه القانون وأن تلك السراويل كانت تلبس أساسا خارج المنازل وتخلع بداخل الدور(12)

وفي هذا يرى المقريزي أنه من الخطأ الظن بأن تلك الملابس كانت بسيطة أو زهيدة التكاليف، فقد كان المألوف في عصر المماليك الشراكسة أن يرتدي الجنود والكتاب وعامة الشعب وكل امرأة من الطبقات الدنيا الفراء المستورد. وقد حدث عندما حل قحط عام في المعادن الثمينة، أن صدرت قوانين التقشف ومنها قانون (قنجك) الذي حرم على صانعي الأحذية صنع (الأخفاف) الثمينة، وأذيع في الأسواق أن كل من يبيع ملاية من الحرير سيصادر السلطان ممتلكاته الخاصة، لكن نتائج هذا الإجراء كانت وقتية وحسب، إذ بيع قميص من النوع المسمى (بهطلة) بمبلغ ألف درهم، وبلغ ثمن الملاية أكثر من الف درهم، وثمن زوج الأحذية من مائة إلى خمسمائة درهم وزوج (السراويل) الجميلة التي صنعت خصيصا لامرأة الأمير (أقبغا عبدالواحد) مائتي ألف درهم، أي ما يساوي نحو عشرة آلاف دينار، وتوضح قصة زوجة السلطان (برسباي) التي صرفت مبلغ ثلاثين ألف دينار على ثوب واحد. صنع خصيصاً من أجل حفل ختان ابنها وولي عهد "برسباي" الملك "العزيز يوسف" صورة البذخ الذي كان ينفق على الملابس التي تخفيها الملاية(13).

وفي سبيل الموضة، تحدت القاهريات السلطة التي كانت تصدر القوانين تباعاً لتحدد شكل الملابس، فلبسن الملاءة وأخفين تحتها الغريب والطريف من الأزياء، لكنها لم تكن لتستر الرأس، لذلك كانت المراسيم أكثر حدّة في التعامل مع ما ترتديه المرأة على رأسها.

وفي هذا الصدد، يورد ابن إياس أنه في سنة 662هـ، صدر مرسوم يحرم على النساء ارتداء العمائم. وفي سنة 876هـ، أذاع السلطان قايتباي أمراً في القاهرة يوجب على كل امرأة أن تمتنع عن ارتداء عصابة مقتزعة أو (سراقوش) من الحرير. وأكثر من ذلك فإن الورقة الخاصة بالعصابة يجب أن يكون طولها ثلثي ذراع، وتحمل خاتم السلطان على كلا الجانبين، وصدرت أوامر مماثلة، وزعت على المتجرين في عصائب النساء، وعلى أعوان المحتسب، وهو آنذاك (يشبك الجمالي)، بأن يطوفوا بالأسواق، فإذا وجدت امرأة ترتدي أي من هذين النوعين من أقنعة الرأس وجب عليهم ضربها وتعليقها بالعصابة من رقبتها. وقد تملك النساء الفزع والخوف، فصرن يخرجن حاسرات الرؤوس أو بدون عصابة أو باستخدامها على كثير من المضض لعصابة طويلة حسب أوامر السلطان، ومع ذلك كن يرتدين لباس الرأس المحرم داخل منازلهن. وبمرور بعض الوقت وهدوء الأحوال، عادت القاهريات إلى ارتداء ما يعشقنه من قبل(14)، وفي سنة 830هـ، عين ناصر الدين بين شبل محتسباً للقاهرة، فأصدر أمراً بمنع النساء من ارتداء الطواقي.

ولك أن نتخيل أنه في بداية القرن التاسع الهجري كان ارتفاع هذه الطواقي نحو ثلثي ذراع، ولها قمم على شكل القباب المحشوة بالورق ومزينة بفراء القندس باتساع ثمن ذراع تقريبا كما يقول المقريزي.

الملاية والاحتلال

في مطلع القرن التاسع عشر، كانت النساء في مصر أشبه في ملابسهن براهبات أوروبا، أو ممن يلبسن ثياب الدومينو في مراقص فرنسا إذ يستعملن قميصاً من الحبر (التفتاة) يسمى (الحبرة) يغطي الجسم كله وكان يصنع في الأصل في اليمن، ومعه إزار آخر من الموسلين يستر الوجه دون العينين. وقد لبست المتزوجات اللون الأسود، وارتدت الفتيات الأبيض، في حين ارتدته فقيرات النساء من قماش قطني أرضيته زرقاء. ومع تزايد النفوذ الأجنبي في مصر، خاصة بعد الاحتلال عام 1882م، تأثرت عادات الناس في الملابس والأزياء وتسابق الميسور منهم لمحاكاة الذوق الأجنبي، وقد حدثت في عام 1823 ثورة على هذا التسابق إثر تغيير الزي الحربي المصري ليحاكي الطراز الأوروبي، الأمر الذي حمل بعض الشعراء الشعبيين على نظم أزجال في هذا الموضوع.

كانت نتيجة هذا التأثير أن قل ارتداء الجبة والقفطان والعمامة، واقتصر لبسهما على رجال الدين والتجار، وكذلك بطل في أزياء السيدات ارتداء الجبة، فلم يداوم عام 1840 على ارتدائها سوى المسنات من سيدات المجتمع، أما الأزياء الشعبية وخاصة الملاءة فلم يطرأ عليها تغيير.

وقد كيّف الذوق الشعبي لبس الحبرة حسب احتياجاته، وأبقى تقليد ارتدائها شائعاً حتى اليوم رغم تخلي سيدات المجتمع المتحضر عنها بعد الربع الأول من القرن العشرين(15).

وحدث تغيير في لبس الإزار في الفترة ما بين عامي 1892-1912م، وهو ما سجله قاسم أمين بقوله: "إن البرقع أصبح رقيقا يظهر كل شيء"، لدرجة جعلته يحتج على هذا (السفور). فبعد أن كانت المرأة المرتدية للحبرة كتلة ضخمة لا كسم لها، مستترة داخل أثواب من القماش الأسود، أصبحت الحبرة، رغم سعتها، تزيد من تكسيم الجسم، بانقسامها إلى جزئين علوي وسفلي، ومن جهة أخرى، كانت المرأة تضع على رأسها داخل الجزء العلوي للحبرة عمامة صغيرة أو حشوات تزيد من ضخامة الرأس، خفت بعد ذلك واستغنى عن الحشو، وتضاءل الجزء العلوي ونقص في طوله منذ منتصف عشرينات القرن الحالي، ثم استعاضت عنه بطرحة شفافة ذات لون أسود أو كحلي تلف بها رأسها وتنزل بها إلى أسفل الصدر ومنتصف الظهر، وتدلى على وجهها رقعة من القماش نفسه الشبيه بالشاش فتحجب نصفه، وهذا النوع من النقاب أطلق عليه (البيشة).

وقد لبست النساء تحت الحبرة ثياباً كثيرة لزيادة ضخامة الجسم بغرض الاحتشام، وأدى الملبس الشعبي مع كثرة ثناياه وسعته المتناهية الغرض نفسه، وكان المتبع منذ مطلع القرن التاسع عشر أن تلبس المرأة السروال من تحته، مما يزيد من ضخامة الملبس، لا يظهر خصر المرأة ولا مفاتن جسمها، وهذا ما تحولت إليه الملاءة الشعبية تدريجياً فعلى الرغم من ستر الوجه بالبرقع، استغنت المرأة عن كثير من حشو الملابس الداخلية، وأصبحت تشد الإزار وتجمعه في يديها، بحيث ينطبق على بعض أجزاء من جسمها. وقد مثل الفنان محمود سعيد عام 1937 فتيات حي بحري بالإسكندرية وهن سائرات بدلال يتبخترن في ملاءتهن المشدودة على أجسامهن، وهو الشكل الذي ظلت عليه الملاءة حتى اليوم.

موضة 89

ونعود إلى الملاية موضة 89، وألتقي بماجدة رمضان الطالبة بمعهد الخدمة الاجتماعية، وهي من حي الدرب الأحمر. تقول ماجدة: "أرتديها في الظروف المستعجلة والمشاوير القريبة، لأنها وسيلة سهلة لا تحتاج إلى كي، وتستر ملابس البيت. أشتري احتياجاتي من السوق ثم أعود. ترتديها بنات الحي، أما زميلات الجامعة فلا يرتدينها. في إحدى المرات قابلت أستاذي في المعهد، وخجلت من مظهري، ولكنه أخبرني أن شكلي مقبول لما أرتديها. سأستعملها هنا في الدرب الأحمر، وحين انتقل إلى مدينة نصر بعد زواجي سأتركها، لأن لكل بيئة ما يناسبها".

وتذكر مديحة أحمد "ربة بيت" أن الملاية عادة قديمة قلّت الآن، الفستان أسهل ونادراً ما أرتديها إلا في الحركة بجوار البيت، خاصة في الغورية، حيث يسكن أهلي. أعيش حاليا في امبابة وهناك لا يستعملونها. زمان كانت النساء يلبسن البرقع وهو غير موجود الآن، وفتيات اليوم لا يلبسن الملاية.

أما نفيسة محمود التي تعيش في الكويت وهي في زيارة سريعة لمصر، فقد ارتدت ملاية جديدة أقرب إلى العباءة تقول إنها في زيارتها لمصر، وجدت أهلها يلبسون عباية، وإن كانت تختلف عن العباية الكويتي، وأنها كانت ترتدي الملاية وهي صغيرة قبل الزواج.

وتضيف نصرة أحمد 18 سنة، بأن العباية أخف من الملاية، ولكنها لا تستطيع أن تلفها جيداً، رغم أنها ترتديها منذ كانت في الرابعة عشر.

وجوار الحسين، استوقفت جمالات عبد الفتاح وهي تسير مع بناتها. كن يرتدين البنطلونات الجينز وهي ترتدي الملاية. وسألتها لماذا ترتدي الملاية، لتجيب: "الملاية أحلى من العباية، فهي شعبية، نعرفها من قديم، وإن كنت أظن أنها استهلكت فلن أشتري غيرها لأنها (بطلت) لم تعد موضة, الجميع يستسهلون شراء جلابية سمراء".

من قديم القِدم

واستطردت: "اشتريتها من عشر سنوات بثلاثة عشر جنيها، ولا أعرف ثمنها الآن، أما ما أرتديها الآن فتسمى تطريحه وهي أغلى قليلا من الملاية وأكثر قيمة".

* من علّمك لفها؟

- في الحي الشعبي الجميع يلبسونها فتعلمت

صفاء بخيت 19 سنة (دبلوم تجارة) تقول: ألبسها من سن الرابعة عشر، عيب أن تخرج الفتاة بجلابية فالملاية تستر.

* تغطين بها شعرك؟

- الحقيقة لا. أصبح عجوزاً لو غطيت بها شعري، الملاية في رأيي أحلى من العباية، لأن العباية ضيقة.

* كيف تلفينها؟

هناك عدة طرق للفها، واحدة تلف باليمين وأخرى تلف باليسار وغيرها، وكلما كانت اللفة متقنة لا تنفك. لي أصدقاء يلفونها أكثر من مرة، وأنا ألفها مرة واحدة، وتثبت، وهم يستغربون ذلك، فأقول لهم هذا شيء من عند الله، إنها موهبة.

وترى زينب مصطفى (خيّاطة) أن الملاية أفضل من العباية، لأن هذا هو شكل المرأة المصرية الطبيعي. وتقول إن أمها تلبس جلابية سوداء وأنها وأخواتها ما زلن متمسكات بالملاية التقليدية.

كان عليّ أن التقي ببائع الملايات في شارع المعز لدين الله الفاطمي، بقلب القاهرة القديمة، "كامل محمد سعيد" الذي ذكر أن البنات يقبلن على شراء العباءات أكثر من شراء الملاءات، وأن أغلى عباية يصل سعرها إلى خمسة عشر جنيها، وأرخصها تسعة جنيهات. يشتريها الأجانب باعتبارها زياً شعبياً، وترسم الفتيات عليها القلوب المتلألئة في البيت، أي أنها تباع بدون تطريز، والملاية قماشها يصنع من نوع خاص من "الكوريشة"، باعتباره أفضل من قماش العباءات، وأن السوق عرض وطلب، لذلك فالمعروض عنده أكثر من العباءات، وفي الطريق التقيت بمجموعة من الفتيات في نحو العشرين من عمرهن، وفاء وليلى وعصمت (طالبات جامعيات) كن يرتدين الملاية وقد طرزن ظهورهن بالترتر ورسمن القلوب والسهام، ورسمت إحداهن زهرة بالأحمر والأزرق، قلت لهن: ما سبب التغيير؟ قلن: الموضة، إن الترتر على البلوزات والفساتين، فلماذا لا ينتقل إلى الملاية؟

حقاً لماذا لا ينتقل؟ وضحكنا، وتذكرت فرمانات الوالي في عصر المماليك، ترى هل كان سيمنع القلوب أن تتلألأ فوق صدور الفتيات في شوارع القاهرة؟

 الآن والعالم يتغير ما رأي بنات البلد في حواري القاهرة والإسكندرية أم أن الموجة التي تزيح التيار الوهابي لم تصل إليهن بعد؟
-------------------
بقلم: هالة البدري

المراجع:

1.     أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني، تحقيق علي النجدي ناصف، إشراف محمد أبو الفضل إبراهيم، الجزء العشرون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1972، صـ197.

2.     Lane.E.An account of the manners and customs of the modem Egyptians.P.241.

3.     شابرول دي فولفيك: وصف مصر، ترجمة زهير الشايب، المجلد الأول، مكتبة الخانجي بمصر، القاهرة 1979، صـ106

4.     Beaucoqol.G.M. Egypt.P.31

5.     Hommenn.L: Egypt.Sketches and history.P.104

6.     Borkhardt traveis. Londom.P.227.

7.     سعد الخادم: الرقص الشعبي في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المكتبة الثقافية، العدد 286، القاهرة 1972، ص 34.

8.     المرجع السابق، صـ41.

9.     سيرة الظاهر بيبري، الجزء الأول، صـ66.

10.   Mayer.L.A. Mameloukclothes.p.61

11.   ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، الجزء الثامن، صـ96.

12.   تقي الدين أحمد القمريزي: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الجزء الثاني، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1962، صـ247.

13.   المرجع السابق: صـ291.

14.   ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهر، مطابع الشعب، القاهرة، 1960، صـ477.

15.   سعد الخامد: الأزياء الشعبية، صـ63.






اعلان