- الفنان حسن فداوي يطالب بحملة لإنشاء متحف لأعمال جاهين
- أعماله مازالت تعبر عن الراهن وفن الكاريكاتير المظلوم ظلم عبقرية جاهين
قبل شهور، حين كنت أتابع ما يجري على أرض فلسطين من انتفاضة تواجه ترحيل عائلات بكاملها من حي الشيخ جراح في القدس واندلاع شرارة المواجهة بين المواطنين وأدوات الهدم والاستيلاء على الأراضي والبيوت لم أجد أبلغ من كاريكاتير صلاح جاهين تعبيرا عن الموقف المتراخي للعالم من القضية الفلسطينية المزمنة والتي تكيل فيها الدول الكبرى الكيل بمكيالين.
صلاح جاهين الفنان العبقري الشامل الذي احتفلنا بذكرى رحيله الخامسة والثلاثين منذ شهور مازال قادرًا على ادهاشنا بخفته البالغة التي تنافس خفة فراشة تهبط فوق زهرة، وثقافته الرفيعة التي نقلها بلا تكلف لكل الطبقات فغنينا معه واستمتعنا معه برباعياته واستوعبنا الفكرة اللاذعة السريعة في رسومات كاريكاتيره، وصاحبنا انفعالاته الصادقة في أدواره القليلة في الأفلام التي شارك في تمثليها فمن ينسى دوره في لا وقت للحب مع فاتن حمامة ورشدي أباظة، ومن ينسى ما سربه إلينا عبر سيناريوهات أفلامه ومسلسلاته من خلي باللك من زوزو إلى أميرة حبي أنا إلى هو وهي.
من من جيلي وربما الأجيال التالية لم يشاركه حب الليلة الكبيرة التي حفظنا كلماتها أو لم يتغن بأغنيته الشهيرة الله يا بلادنا الله على جيشك والشعب معاه أو كلنا كده عاوزين صورة. أغانيه بين عبد الحليم حافظ وكمال الطويل التي رسخت معنى الوطنية في الوجدان المصري ، وتابعت مرارة الهزيمة في عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر وعلشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر. من منا لم يغني مع سعاد حسني يا واد يا تقيل أو الحياة بقى لونها بمبي وانا جنبك وانت جنبي وبكى مع شادية انتهى الدرس لموا الكراريس؟
شاركنا صلاح جاهين تفاصيل حياتنا وعكسها في أشعاره وأفلامه وكاريكاتيره اليومي في الأهرام، حتى أن أحدًا لم يستطع أن يملأ فراغ مكانه للآن ومعذرة لمن جاءوا بعده من الفنانين.
لم تغب أعماله أبدًا عن عيني، تابعت انتاجه الفذ ورأيته يبتعد في مرحلة الرئيس السادات وسمعت عن محاولاته للصمود والهرب من الاكتئاب ،حتى رحل ورحلت معه الضحكة الصافية من القلب على الرغم من أننا مازلنا نتغنى بكلماته ونسعد برسومه التي اتحدت بنسيجنا الإنساني وأصبحت تمثل جزءا من ثقافتنا وحياتنا وتاريخنا حتى أنني ما زلت أكلم كل عسكري مرور في الشارع باعتباره "درش" صلاح جاهين، فقد كان يلخص في كاريكاتيره اليومي ما لا يمكن استيعابه في مقال أو حتى في كتاب (بصيغه المبالغة).. اليس الكاريكاتير مبالغة؟
الغريب أني سمعت من صديقي الفنان التشكيلي حسن فداوي أستاذ الديكور بكلية الفنون الجميلة جامعة الاسكندرية أن هذا الفنان الكبير الذي ولدت على يديه مدرسة الكاريكاتير السياسي والاجتماعي المصري والعربي الحديث لم يأخذ حقه من الدراسات التشكيلية، وهو ما أثار شكوكي حول إذا ما كان صلاح جاهين قد أخذ حقة من الدراسات والبحوث الأدبية أيضًا.
وقد أخبرني د. فداوي أن الاهتمام والتوثيق الاكاديمي نادر جدًا على الرغم من أن جاهين كان يعتبر أن الكاريكاتير هو أقرب الفنون إلى نفسه وأرسل لي بحثا كتبه مؤخرًا بعنوان صلاح جاهين بين الكاريكاتير والسينما يتساءل فيه عن حقيقة عبقرية جاهين الفنية والدور الذي لعبته السينما كرابط مشترك بين الفنون المتعددة التي مارسها جاهين، ولفت انتباهي أثناء محاولة الباحث اثبات هذا الدور اكتشافه العلاقة بين كاريكاتير جاهين وبين اللقطة السنيمائية التي من الممكن اخضاعها إلى تحليل عناصر الميزانسين معتمدا في بحثه على عدة تساؤلات : هل صلاح جاهين فنان عبقري؟ هل كان جاهين مخرجًا بالفعل؟ ما هو دور السينما في حياته وماهي علاقة بين الكاريكاتير واللقطة السنيمائية؟
عرض لنا البحث كيف تجاهل الباحثون الأكاديميون وغير الأكاديميين التوثيق العلمي الدقيق لإنتاج الغالبية العظمى من الفنانين، حتى أن ظاهرة فنية مثل صلاح جاهين حققت نجاحًا وتأثيرًا مستمرًا حتر الآن على المستوى الشعبي لم تأخذ حقها من جمع مفردات أعماله وتاريخه إلى عمل متحف شامل لمفردات حياته وملابسه وأدواته كما يوثق الباحثون في معظم انحاء العالم لتاريخ فنونهم ويحفظوها من الفناء.
لفت نظري أيضًا في البحث تنبيه د فداوي إلى أن أعمال جاهين وحياته التي تحولت إلى أسطورة رسمت صورة من الانبهار بلغة شعرية وشحنة عاطفية كبيرة قام بها عدد من كبار الشعراء منهم محمود درويش، وكثير من كبار الصحفيين والأدباء والفنانين منهم أحمد بهجت وصلاح طاهر وثروت أباظة ومحي الدين اللباد ونضال الأشقر وفنان العرائس رحمي، حتى أنه يصعب استخلاص صلاح جاهين الفنان التشكيلي من الصورة المرسومة عنه بتحليل موضوعي، وأن بحثه لا يستطيع وحده أن يحيط بها لأن الأمر يحتاج إلى دراسة أكبر وأشمل لكنه - أي الباحث - يستطيع أن يشير إلى أهميتها ، ويختار دراسة ظاهرة جاهين باعتبارها أقرب أدوات الغوص إلى عالمه واكتشاف مكوناته عن طريق إيجاد العلاقة بين الموضوعية الذاتية التي توجد في كل لحظة من تجربة الانسان، وذلك بفهم هذه القصص من منظور القيم والأعراف والممارسات بشكل عام.
وقد حدد الباحث السمات التي تميز فن جاهين بتحقيق النجاح الساحق على الرغم من تنوع الممارسات الفنية شعرًا ونثرًا وكتابة أغاني وترجمة وسيناريو ورسم الكاريكاتير والصور المرافقة للموضوعات الصحفية والإخراج الفني للمجلات، وهو ما دفع الباحث إلى وضعه ضمن الفنانين العباقرة أمثال دافنشي وجوته وفلورانس نايتنجيل بسبب اشتراكه معهم في براعته في أكثر من ثلاث مجالات، وأنه يفكر بشكل منتج وليس بإعادة الإنتاج وأن له عقل فضولي يميل إلى التفكير المجرد وأنه فنان موسوعي.
وكشف البحث أن السينما الرابط الفعلي والوعاء الكبير لفنون صلاح جاهين كلها، فكل كاريكاتير عنده هو مشهد سينمائي تم اختيار أبطاله بعناية، فيها الحركة وعنصر الزمن والصوت والتفاصيل والميزانسين (عناصر تنسيق المشهد السنيمائي) أي عناصر تكوين اللقطات داخل الاطار، وجاءت رسوماته كلقطات سنيمائية متكاملة حتى أنه يمكننا اعتبار الكاريكاتير هو المعادل لفيلم صغير.
واثبت الباحث أثناء تحليله لكاريكاتير جاهين سينمائيًا وفلسفته المعروفة التي تعتمد على أكبر قدر من المصرية من البراءة والبساطة وجود الزمن في تيمة مرتبطة بالدراما في الكاريكاتير، يبدأ بالاستهلال ما قبل النكتة وذروة الحدث والزمن التالي ولقطة الإيقاع وعناصر الميزانسين وخلق شخصيات متفردة وعدم تكرارها، بالإضافة إلى حركة الممثلين داخل الفضاء المادي واستخدام الإضاءة وعلاقة الاحجام ببعضها واستخدام اللون والملمس .
ساعدتني كثيرا لقطات الكاريكاتير التي أوردها د. حسن فداوي لإثبات وجهة نظره على ترسيخ الفكرة التي عرضها. ووجدت نفسي أشاركه في توصياته، خاصة التوصية التي تنادي بعمل متحف لصلاح جاهين، وسألت نفسي ألم يئن الأوان لتوثيق تاريخنا الثقافي خلاصة حضارتنا ووجودنا، ألم يثبت لنا الانسان المصري القديم أن وجوده الممتد فينا يستمر من خلال الفن وأن مستقبلنا مرهون بمدى ادراكنا لهذا؟
-----------------
بقلم: هالة البدري