25 - 04 - 2024

صباح تحت القصف!

صباح تحت القصف!

كان البرد قارسا في ذلك اليوم من ايام  شتاء البوسنة شديد القسوة. كان العام 1994 . صباح ذلك اليوم كنت في طريقي الي مستشفي كوسوفو العام وهو اكبر مستشفي حكومي في العاصمة سارييفو. 

لم تتوفر لي كالعادة وسيلة انتقال فقررت ان اقطع المسافة بين سكني في منطقة الباشارشيا القديمة الي المستشفي العام راجلا . وبالرغم من اني علمت من احد اصدقائي في مقر قيادة القوات الدولية ان جميع المؤشرات تدل علي قصف مدفعي عنيف من جانب الصرب للمدينة، الا انني قررت الحفاظ علي موعدي مع كبير جراحي المستشفي، حيث كنت ارغب في كتابة تقرير حول ممارسة الطب تحت القصف المدفعي. 

ما لم تتوقعه القوات الدولية هو انه في ذلك اليوم كان الصرب يخططون الي ان يعقب القصف هجوم بري واسع النطاق علي أجزاء من العاصمة بهدف احتلالها. كلما اقتربت من المستشفي كان القصف تزيد كثافته حتي انني اضطررت في بعض الاحيان ان اصرخ كي يسمعني صديق بوسنوي كان يصاحبني . 

قربت المسافة حتي باتت المستشفي امام ناظرينا وفجأة سقطت قذيفة علي بعد أمتار، فسقطنا علي الارض. دقيقة وبدأنا نتحسس جسدينا لنتاكد انهما لم ينقصا شيئا. علي بعد أمتار قليلة كانت طفلة عمرها يناهز السادسة ملقاة علي الأرض وقد اصابتها شظية في جانبها في حين كان ابوها مصابا هو الآخر في ساقه ويصرخ الما علي ابنته باكثر من المه لإصابته .

 سريعا حملت الطفلة في حين تساند ابوها علي صديقي وعدونا الي المستشفي التي باتت هدفا مباشرا للقصف. دخلنا فتلقف المسعفون الأب في حين أدخلت الطفلة الي الطوارئ. الطفلة فقدت كمية كبيرة من الدماء والطبيبة وقفت والدموع  في عينيها وهي تقول: لم يعد في بنك الدم نقطة دم ناهيك عن بلازما. خرجت من الطوارئ وناديت اكثر من شخص وناشدت الطبيبة المسارعة بفحص فصيلة دم الطفلة وفصائلنا جميعا. وبالطبع لم يكن من الممكن فحص الاب بعد ان نزف هو الآخر كثيرا. الصدفة العجيبة كانت تطابق عينة دمي مع عينة دم الطفلة ...وبدات عملية نقل الدم التي فاضت روح الطفلة اثنائها.

الشاهد ، انني خرجت من الطواري محملا بشحنة متفجرة من الغضب، كي تنفجر في كبير الجراحين - وكان صديقا- عندما رأيته وهو يقفز من طاولة الي اخري يجري اسعافاته للمصابين ومن بينهم مقاتلين صرب اصيبوا للتو خلال هجومهم البري. 

انفجرت في صديقي الجراح قائلا: لماذا لا تتركهم يموتون؟ لماذا تعالجهم؟ أتفعل ذلك كي يعاودوا قتلنا بعد ان يتم تبادلهم مع أسري مدنيين؟ لن انسي نظرة الغضب التي رايتها علي وجه الطبيب وذلك قبل أن يأمرني بأن أذهب لانتظاره في مكتبه. 

عندما دخل علي بعد ساعة ساد الصمت بيننا دقائق استهلكها في إعداد فنجاني قهوة لي وله. بدأ قائلا: هذه أول وآخر مرة تعقب علي عملي، والا فانت غير مرحب بك في المستشفي إلا مصابا. واستطرد قائلا: عندما اديت قسم ابوقراط لم أقسم علي إعطاء اولوية للمسلمين عن الصرب ...الاولوية تتحدد بناء علي مدي خطورة الاصابة.. ايضا فان قسمي ليس به استثناءات حتي وان كانت لعدوي. لاحظ الطبيب- وكان يتحدث العربية حيث تخرج في طب جامعة الازهر- انني لم اظهر اقتناعا فقال لي: الم تسمع قول رسولنا عليه الصلاة والسلام: افعل الخير في أهله وفي غير اهله، فان صادف اهله فهم اهله وان لم يصادف أهله فانت اهله؟ نحن اهله... هكذا ختم الطبيب البوسنوي عتابه اللطيف لي والذي كان بمثابة درس اخلاقي ومهني في آن واحد. ففقداني اعصابي وتدخلي في عمله لم يكن اخلاقيا... وانفعالي لهذا الحد لم يكن مهنيا ...فالصحفي لا ينبغي له ان يصبح جزءا من الحدث الذي يغطيه حتي وإن اضطرته الظروف ان يشارك فيه.. ففي اللحظة التي يتحول فيها الي جزء من الحدث يفقد توازنه بما يؤثر علي قدرته علي نقل الحدث كما هو. لقنني الطبيب البوسنوي درسا وقد استوعبته والتزمت به طوال حياتي المهنية.
------------------------
بقلم: يحيى غانم

مقالات اخرى للكاتب

صباح تحت القصف!





اعلان