29 - 03 - 2024

"طه حسين" عميد التنوير الذي واجه تطرف الوفد وتكفير الأزهر وعنف الإخوان

فى سنة ١٩٠٢ التحق عميد الأدب العربي "طه حسين" بالأزهر لينال شهادته، لكنه ضاق ذرعا بتحجر مناهجه وجمود علومه، وفي سنة ١٩٠٨ كان أول المنتسبين للجامعة المصرية عندما فتحت أبوابها، ونال فيها شهادة الدكتوراه سنة 1914 وكان موضوعها "ذكرى أبى العلاء" وأثارت ضجة فى الأوساط الدينية، اتهمه خلالها أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة (!!). فى نفس العام أوفدته الجامعة المصرية في بعثة دراسية إلى مونبيلية بفرنسا، لكنه عاد سنة 1915 بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، آنئذ كتب في المقارنة بين التدريس في الجامعات الغربية وأسلوب التدريس في الأزهر، فأثار ضجة جديدة قرر بسببها المسؤولون حرمانه من البعثة، ولولا تدخل السلطان "حسين كامل" لما عاد إلى فرنسا لمتابعة الدراسة فى باريس، وبعد أن عاد إلى مصر سنة ١٩١٩ حاصلا على الدكتوراه عُين أستاذا للتاريخ اليونانى فى الجامعة الأهلية المصرية.

عاد "طه حسين" من باريس يحمل فكرا عقلانيا ومنهجا علميا حديثا يواجه الجهل بالعلم، والنقل بالعقل، والتقليد بالتجديد، ويحطم القداسة الزائفة لتراث من جمود العقل وتخلف العلم امتد لقرون طويلة، ويستهل أول معاركه في مقالاته في السياسة، حيث كان من أبرز كتّاب جريدة "السياسة" التي يصدرها حزب "الأحرار الدستوريين"، ولم يتردد "طه حسين" في نقد استبداد زعيم ثورة 1919 "سعد زغلول" وانفراده بالسلطة، ووصل هجومه لقمته سنة 1924 إذ يكتب في مقال له بعنوان: "ويل للحرية من سعد": "كان سعد محاربا لأمته، فأصبح الآن محاربا للحرية من حيث هي حرية، وأصبح الآن محاربا لكل هذا العصر الحديث"، ويقول: "أيتها الأمة المصرية. طيبي نفسا، وقري عينا، اهدئي واطمئني، فقد قيض الله لك رجلا يريحك في كل شيء، لا تطالبي بالاستقلال فسعد يطالب به، لا تعشقي الحرية فسعد يعشقها، لا تؤمني بالله فسعد يؤمن به، ولا تقرئي الصحف فسعد يقرأها". ويطلب "سعد زغلول" بشكل رسمي من النائب العام التحقيق مع "طه حسين" بتهمة إهانة رئيس الوزراء، ويجري التحقيق معه يوم 17 يونيو سنة 1924، ويسأله المحقق: "علمت النيابة أنك ممن يكتبون في جريدة السياسة، ولك فيها مقالات بإنشائك وإملائك، فهل هذا صحيح؟"، ثم وعلى مدى ساعات يلقى المحقق على "طه حسين" أسئلة متوالية، لكن عميد الأدب العربي يرفض الإجابة، وعندما تفشل النيابة في حصاره تخلي سبيله، وتطلب من الجامعة المصرية أن تأخذ عليه إقرارا بعدم الكتابة في الموضوعات السياسية!.

في سنة 1926 تقوم العاصفة في أعقاب إصدار "طه حسين" كتاب "في الشعر الجاهلي"، ويسيّر الأزهر مظاهرات غاضية إلى مقر البرلمان وإلى "بيت الأمة" مقر إقامة "سعد زغلول"، ويخرج "سعد" ليخطب في المتظاهرين مسجلا على نفسه – مع حسن الظن به - أسوأ طريقة ممكنة للدفاع عن حرية الفكر: "إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها، هبوا أن رجلا مجنوناً يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟! إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر"!!. وتفرد جريدة "كوكب الشرق" الوفدية عددا من صفحاتها للهجوم بأقلام السلفيين على "طه حسين"، وكذلك على المثقفين الذين دافعوا عن كتابه ومنهم "لطفي السيد" و"محمد حسين هيكل" و"منصور فهمي" و"عباس العقاد" وغيرهم. ثم يقدم أحد نواب حزب الوفد في البرلمان اقتراحا من ثلاثة أقسام:

1- إعدام الكتاب!!

2- إحالة طه حسين إلى النيابة!!

3- إلغاء وظيفته!!

وينتهي الأمر بموافقة البرلمان على إعدام الكتاب وإحالة طه حسين إلى النيابة، ويفتح النائب المستنير "محمد نور بك" تحقيقا في القضية يوم 19 أكتوبر سنة 1926، بناء على بلاغ النائب الوفدي "عبدالحميد البنّان" ضد مؤلف الكتاب يتهمه بالتعدي على الدين الإسلامي، وبلاغين أحدهما من طالب أزهري يتهم العميد بالطعن في القرآن ونسبة الخرافة إليه، وبلاغ آخر من شيخ الأزهر يتضمن تقريرا عن الكتاب يتهمه بالطعن في القرآن وفي النبي وفي نسبه الشريف، ودعوة الناس للفوضى (!!). ويؤجل التحقيق لوجود "طه حسين" خارج مصر، وهو يصوّر موقفه في كتابه "رحلة الربيع والصيف" بقوله: "سافرت على كره من قوم لو استطاعوا لأمسكونى فى مصر، وأنا الآن أسافر رغم هذا الشيخ الذى نهض فى مجلس الشيوخ يستصرخ المسلمين، ويستغيث برئيس الوزراء على لأنى فيما زعم مسخّروه عرضت الدين للخطر!". لكن النيابة تبرّأ العميد في قرار تاريخي يضاف لرصيد حرية الفكر في مصر جاء فيه: "غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه  يقتضيها، حيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، تحفظ القضية إداريا".

في سبيل حرية المرأة

في سنة 1932 تظهر صورة للعميد "طه حسين" في نادي الجامعة وعلى يمينه ويساره الطلبة والطالبات جلوسا يتناولون الشاي. وتقوم قيامة المتطرفين بسبب تلك الصورة البريئة، ويطالب هؤلاء بمنع الاختلاط في الجامعة المصرية وإقالة "طه حسين" و"لطفي السيد"، ومرة أخرى يقف النواب الرجعيون في البرلمان يحملون على الجامعة المصرية ويهاجمون فكرة تعليم البنات، وقدّم النائب "عبدالحميد سعيد" (مؤسس جمعية الشبان المسلمين) استجوابا في فبراير 1932 عد فيه نشر الصورة عدم احترام للشعور الديني والآداب القومية (!!)، ورد وزير المعارف (التعليم) بأن الصورة التقطت في اجتماع بنادي طلبة الجامعة، وأن الجامعة نبهت على الطالبات بعدم دخول النادي، وعلى ذلك لن يتكرر ما حدث!.

ويكتب مرشد جماعة الإخوان المسلمين "حسن البنا" مقالا تكفيريا بعنوان "إذا كان هذا صحيحا يا دكتور فقد اتفقنا"، رد فيه على تصريحات "طه حسين" المدافعة عن حق المرأة في الإسلام في التعلم والاختلاط ومحاولا تهييج الشارع والطلبة إذ قال: "هل من الدعوة الإسلامية يا دكتور أن تخلط بين الفتيان والفتيات هذا الخلط في كلية الآداب فتحذو حذوها غيرها من الكليات وتبوء أنت بإثم ذلك كله؟ وتريد للفتيات في صراحة هذا الاختلاط وتحثهن عليه وتدعوهن إليه، ولا تقل إن هذا من عمل غيرك فيداك أوكتا وفوك نفخ وما تحمس لهذا ودعا إليه وحمل لواءه واستخدم نفوذه في تحقيقه أحد كما فعلت ذلك أنت، ولعلك تعتبر هذا من مآثرك ومفاخرك ولكني أخالفك يا دكتور وأصارحك بأن هذا الاختلاط ليس من الإسلام.."!. وتحاول الجماعة استخدام نفوذها بين صفوف الطلاب الجامعيين والأزهريين، فيتقدم عدد من الطلبة بمذكرة إلى مدير الجامعة يطالبون فيها بتخصيص جانب من المناهج للثقافة الدينية (على طريقتهم) في جميع الكليات، وبتوحيد زي الطلبة بشارة خاصة، وتوحيد زي الطالبات وعزلهن عن الطلبة وتخصيص دراسة خاصة بهن. وكالعادة يدخل الأزهر على الخط فتنشر الأهرام حديثا لشيخ الأزهر يعبر فيه عن سروره بالمذكرة!.

وفي يوم 14 مارس 1937 يزحف موكب من طلبة الإخوان والأزهر ومعهم بعض ولاة أمور الطلاب إلى قصر الأمير محمد علي مطالبين بتعميم التعليم الديني وفصل الطالبات في جميع أدوار التعليم. وفي يوم 21 مارس وعندما كان الطلاب يتابعون محاضرة في المدرج الكبير بكلية الآداب جامعة القاهرة، يقتحم المدرج فجأة شباب الإخوان وهم يهتفون بسقوط الكلية وبحياة الإسلام (!!). وعندما تتصل الجامعة ببوليس الجيزة يعتذر بحجة أنه ليس لديه قوة يمكنها حماية الكلية!، ويقتحم المهاجمون قاعات البحث صاعدين السلم إلى غرفة العميد "طه حسين" هاتفين بـ"سقوط الأعمى" ويحاولون اقتحامها، لكن الطلاب والموظفين والسعاة يسارعون لحماية غرفة العميد، ويرتفع ضجيج المعتدين بأقبح الألفاظ المهينة والجارحة، لكن طلاب الآداب وموظفيها يتمكنون أخيرا من إجلائهم. هؤلاء الذين نظموا هذا الاعتداء ضد عميد الأدب العربي نعرف هويتهم من اعترافات قادة الإخوان الذين كتب أحدهم: "لم يكن معنا في الواقع إلا شباب الإخوان فقط من جميع الأقسام"، ويضيف :"نشرت الصحف المصرية وعلي رأسها المصري والأهرام أنباء هذه الثورة، وامتدت إلي المعاهد والجامعات، وقامت كلية أصول الدين بالأزهر بمظاهرة كبيرة تحتج علي تدريس الروايتين، وكذلك بقية المعاهد الأزهرية، وبعض المدارس الثانوية، ومن بينها المدرسة الفاروقية بالزقازيق، تهتف بسقوط الاستعمار الفكري وتردد شعار:"نحن للإسلام قمنا / نبتغي رفع اللواء / فليعد للدين مجده / أو ترق فيه الدماء".

فالمجد – كل المجد – للاستنارة ونضالها وعميدها العظيم.
--------------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان