* صاحب مدرسة طرب أصيل قال عن مطربات اليوم: لا تظلميهن بإطلاق لقب مطربة
* حكى عن علاقته بعبد الوهاب ورفاق الطفولة وعن الحب
* غنى وكرم من كل الرؤساء العرب وقال: المحبة ليست محبة الرؤساء بل محبة الجماهير
رحل المطرب الكبير صباح فخري ابن مدينة حلب السورية، رحل واحد من أخلص المطربين للغناء العربي الأصيل، درس الموسيقى، وأحب الشعر وتعمق في القصائد حتى أصبحت اختياراته للشعر الذي يغنيه مضربا للأمثال، بل ومدرسة احتفظت للشعراء العرب بقصائدهم على ألسنة الناس، كان صباح فخري متنوعا في غنائه بين الموال والقصيدة والموشح والطقطوقة. يغني لشعراء الجاهلية وللشعراء المعاصرين، ويحتفظ بجمهور متنوع الأعمار والثقافات في المشرق والمغرب. كنت في زيارة إلى دمشق لحضور مؤتمر أدبي عام 2007 وأثناء حديثي مع المثقف الكبير الكاتب والسيناريست رياض نعسان أغا الذي كان يشغل منصب وزير الثقافة السوري آنذاك، طلبت تسهيل مهمتي في لقاء صباح فخري فحدد لي بنفسه تليفونيا الموعد في نفس اليوم، وحين دخلت إلى بيت صباح فخري الذي أعشق غناءه منذ وعيت عذوبة الغناء، أدركت أني في منزل رجل سعيد بسيط ومتواضع لكنه يدرك تمامًا ليس قدر موهبته وحدها ولكن أين هو بالضبط في عالم الغناء.
أدركت على الفور ما حصل عليه من تربية دينية وموسيقية أيضًا وقد أكد لي هذا قائلا: كان والدي شيخ طريقة صوفية وله مريدون وخلفاء وخالي رجل دين. وقد حفظت القرآن وأنا صغير مثل أم كلثوم، اقرأ قراءة صحيحة بنطق صحيح، بعلم التجويد دون أن أستطيع التفسير، من يقرأ القرآن يصير عنده حب للغة بسبب البلاغة في القرآن، وبسبب القرآن أصبحت أولا إنسانا، ثم رجلا وأخيرا فنانا بفضل الله سبحانه. نشأت في حلقات الأذكار وتربيت في بيئة روحية ثم دخلت معهد الموسيقى. أدرت معه حوارا حول حياته الخاصة ونشاطه الأدبي وعلاقاته في الوسط الفني ومشاريعه وطفولته ثم دخلت سيدة جميلة في منتصف العمر في البداية تصورت أنها ابنته لكن لغة الجسد أخبرتني أنها زوجته قدمها لي ضاحكاً: زوجتي وابنتي، وحكى لي بفخر كيف ربت له أولاده، وهي بعد طفلة في عمر الرابعة عشرة.
فلما سألته كيف التقى بها إن كان وراءها قصة حب كبيرة رد ردًا أدهشني قال: الحب كلمة شاملة ولكل إنسان فلسفة في الحب، أنا أقرأ الحب في نظرات الإعجاب. لا يوجد حب حقيقي مثل زمان، هذا أصبح مفقودا الآن ولا يوجد إلا في الكتب القديمة، هناك فارق بين الإعجاب والحب الحقيقي. فالمرأة دائما تلفت النظر. الإنسان يرى أمه أولا هي التي ربته وأرضعته أنا لم أعشق امرأة، عشقت الفن. كان عندي ابنة خالة متزوجة من رجل متزوج وعنده أولاد وبنت، كنت أزورهم وأنتظر أن تخرج ابنة زوجها من غرفتها لكي أراها وحين غادرت حلب نسيتها. حبي الوحيد هو للفن وهناك العشرة.
وابتسمت الزوجة ابتسامة تدل على أنها تتسع لكل تصوراته وما في القلب في القلب، بصراحة أعجبتني وتركته يسترسل في تفاصيل الحكاية التي تعرفها جيدا، أخبرني أنه تعرف عليها عن طريق وسيط صديق له يعمل معه في الكورال وأستطرد قائلا: كنت متزوجا وتوفيت زوجتي تاركة لي ثلاثة أولاد احترت بهم تركتهم عند عمتهم، ووضعتهم في مدرسة داخلية، لأنني كثير الأسفار، ثم قررت أن أزوج أخي الأصغر وتصورت أن زوجته سترعى أولادي، وخطبت له فتاة بالفعل، لكنني غيرت رأيي وقلت ما ذنب هؤلاء الأطفال؟ هم في حاجة إلى حنان ورعاية إلى أن جاءت زوجة صديقي وأخبرتني بأن لها جارة طيبة وجميلة تصلح زوجة لي اكتشفت أنها ابنة شيخ تربى على يد الشيخ الذي علمني في حلب، فاستبشرت بأن المنهل واحد، وكانت الفتاة في الرابعة عشرة من عمرها جاء بها الأب، وقال لها هذا فنان وكان متزوجا من قبل وعنده ثلاثة أولاد ومعجبات كثيرات، إما أن تتحملي هذا الأمر أو يؤدي هذا إلى الطلاق قالت له: أقبل. حين رأيتها وجدت بنتا محتشمة مؤدبة تحدثت معي سألتني: أليس عندك أولاد؟ قلت: نعم. سألتني أين يعيشون؟ قلت في مدرسة داخلية قالت: لماذا؟ أنا أربي إخوتي. شعرت بإنسانيتها وتوكلت على الله، وبالفعل كانت كذلك ربتهم وكبروا وزوجتهم ولها أحفاد منهم وأنجبت لي شابا آخرا.
كان من الواضح لي أن الهدوء الذي يسيطر على البيت يأتي من سعة أفق الزوجة، وأردت أن أشاغبه فسألته عن علاقتها بمعجباته وهل تتحمل مطارداتهن؟ ضحك كثيرا وقال طبعا لأنها تعرفني جيدا، والمرأة تعرف كل شيء من لمسة، من نظرة، آخر مرة كنا نتعشى في مكان والتفت حولي معجبات من الصبايا بين الثامنة عشرة والعشرين من مدرسة التمريض إحداهن أمسكت بيدي وقبلتها. هي في مثل هذه الحالات تبتعد وتتركني معهن.
لاحظ الفنان صباح فخري انزعاجي من نماذج الغناء التي تظهر على الساحة الآن بثياب مبهرة وعمليات تجميل، وكانت نانسي ونوال واليسا ونجوى يشعلن الساحة بغناء خفيف ومشاحنات ومنافسات حادة، فسألني ببساطة لماذا تعتبرينهن مطربات، نحن العرب نتفنن في إلقاء الكلام على عواهنه، هن مؤديات استعراضيات وعارضات أزياء يرقصن على الأنغام وهذا جميل أيضًا ويحبه الجمهور، والجمهور يعرف كيف يفرق بين الطرب الأصيل وهذا النوع من الغناء، لكن كلهن صديقاتي والتقي معهن وهذا شيء آخر، لا تظلميهن بإطلاق لقب مطربة على إحداهنفلما تحدثنا في أسرار تنوع جمهوره عزاها إلى اتباعه القاعدة السيكولوجية التي تنادي بالحوار مع الناس. الطفل يحتاج إلى إيقاع معين يرقص عليه. الأبن الصغير له حوار خاص والأكبر حوار آخر. وأنه يخاطب الناس على قدر عقولهم. ونصحني قائلاً: إذا لجأت للغة القمع مع الطفل لن يستمع إليك. أنا جمهوري شرائح متعددة من الطفل للصبي للشاب للشيخ، أستعمل الكلمة المناسبة والحوار المناسب للأعمار والثقافات واستعمل الرقص واللحن للاستيعاب. ولأني معجبة جدًا بكلمات أغانيه.
أردت معرفة كيف اكتسب هذه القدرة على الفرز واختيار كلمات على هذا المستوى حكى لي قائلاً: أحب الموسيقى بحكم اختصاصي، والموسيقى تحتاج إلى الكلمة، شدني الاطلاع في المدرسة وبرعت في اللغة العربية وتقدمت على زملائي وتعمقت في اللغة خاصة في الأدب والشعر، أيام زمان كانوا يضعون في الشارع سجادا يفرشون عليه الكتب وكنت أقف أمامها وأشتري كتبا مثل: الأغاني، كتب المنفلوطي، المازني، الصاوي، والعقاد، وأصبحت هوايتي الشعر والأدب بالإضافة إلى الموسيقى، وأيضا هويت التصوير والسباحة والرسم وحصلت على دروس في الرسم لكنني لم أعمل به.
صباح فخري فنان شامل يعشق أصواتا عربية رفيعة منها: أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ ويعتبر الشيخ محمد رفعت صوتا عبقريا ويعشق أيضًا الشيخ صديق المنشاوي والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ الشعشاعي.
يعيش حياته الخاصة جدًا بعيدًا عن الوسط الفني يحتفظ بأصدقاء الطفولة يلقاهم بقدر ما يسمح الوقت لم يضم إليهم أصدقاء جدد من الوسط الفني، فلما سألته عن السبب ضحك قائلا: لأنهم أصحاب مزاج وأنا أحبهم واكتفي بالسهر معهم في لقاءات العمل.
وهذه إجابات بعض من أسئلتي إليه
* من هم أصدقاؤك ولنبدأ بأصدقاء الطفولة؟
- كنت أحب اللعب مع أبناء الجيران، ثم كبرنا (شوية) لعبنا في الحارة وذهبت مع أخي إلى السهرات في المدارس الابتدائية. رفقائي موجودون وما زلنا نجتمع حتى الآن مثل وليد براق الذي أصبح تاجرا الآن. وحين التحقت بالثانوية كان لي أصدقاء وكذلك حين خدمت في الجيش كان عندي رفاق.
* ومن أصدقاؤك الآن؟
- هناك الصديق والصحبة، الصحبة مؤقتة والصديق دائم وهو نادر جدا كانوا يقولون- "اثنان مفقودان كاف الكيمياء وصاد الصديق"، وقال الشاعر: إن الصديق من إذا كان معك ومن شئت نفسه ليجمعك.. هذا الذي يضحى بنفسه لأجلك. أنا في حياتي أصدقاء قليلون من هذا النوع، في حلب لي صديق اسمه حمد رمضان حايك. وهناك أكثر من صديق لهم دور في حياتي، أهمهم زهير غزال كان يعمل في التوجيه المعنوي في مجلة الجندي ورعانا فترة واستمرت صداقتنا إلى أن توفي، وكان يقف بجواري مثل أخ وكان مستشار الرئيس الأسد، والعميد طلال اعتز وافتخر بصداقته لأربعين عاما ومازلنا على الوفاء حتى الآن، وعندي صديق ضابط متقاعد على المدني محمد خير دياب.
* قلت: ومن الفنانين؟
- علاقتي معهم فنية أكثر من كونها صداقة وأنا لا أختلط بالفنانين ولا أستطيع أن أتعامل معهم كأصدقاء لكننا نسهر ونضحك وأتعامل معهم.
الصداقة شيء آخر على سبيل المثال كمال النجمي كتب عني مقالا "الطير الأعلى" وحين جاء إلى سوريا وأراد أن يراني في حفل دعوته فراقب الناس والجمهور والتفاعلات ثم أجرى حوارا معي: من أنا وكيف أرى نفسي وأين أضعها؟ ثم كتب. وجورجي إبراهيم الخوري كتب عني أيضا.. ومحمود عوض أعتبره من الأصدقاء، لأنه إنسان يعرف من هو صباح فخري والأصدقاء عموما قليلون. ثم اشتهرت في سوريا وكتب عني النقاد: "كل الفنانين يأتون لنا من تحت إلا صباح فخري جاء لنا خالصا من فوق"، وحصلت على كل الاحترام في مصر كتبوا عني في الأهرام والهلال والكثير من المنتديات الإعلامية ولقيت في كل مكان الحفاوة والتقدير والاحترام.
* ما هي حكايتك مع الفنان محمد عبد الوهاب؟
- عندما كان يزور دمشق للاصطياف كنت أذهب إليه وأجلس وأحكي معه، حتى أتعلم منه، وهو خفيف الظل، وكان قد تعرف على وزير الداخلية عدنان دباغ الذي عرفه على ميادة الحناوي، وتبناها وأخذها معه إلى مصر، ثم عادت إلى سوريا وأصبحت بعد ذلك قصة طريفة تناولتها الصحف، ابتداء من أن نهلة غارت منها إلى أنها كانت تعمل في المخابرات السورية، وهذا ليس له أساس من الصحة هي باختصار لم تلتزم بعقدها مع الأستاذ، ولم تلتزم بشروطه فقد أجر لها بيتا وأحضر لها أستاذا في اللغة، وأستاذا في الموسيقى ومنعها من الخروج من البيت. كانت في رأيه تحتاج إلى سنة حتى تكون جاهزة، لكنها لم تلتزم أخذت تخرج وتلتقي بالناس، وتظهر في حفلات ومع أصدقاء فألغى عبد الوهاب العقد ورحّلها.
استطرد: اقترح وزير الداخلية عدنان الدباغ أن يلحن لي الموسيقار محمد عبد الوهاب قصيدة أغنيها وقد وافق عبد الوهاب، وطلب مني أن أقدم له الشعر الذي أريده، فقد كان دبلوماسيا، فقدمت له أربع قصائد، فاختار قصيدة لأبي القاسم الشابي قال لي اختر عددا من الأبيات فاخترت خمسة عشر بيتا.
في الصيف التالي جاء ولم أسأله عن القصيدة لكن الملحق التونسي سأله عنها، فقال إن الأزهر لم يوافق على القصيدة فعرفنا أنه لا يريد، وكان مدير عام الإذاعة والتلفزيون أحمد قرني قد سأله: لماذا لا تلحن قصيدة لصباح فخري؟ قال هذا رجل لا يلتزم باللحن أو القيود، هذا رجل له شخصيته، وبقينا أصدقاء إلى أن توفاه الله
* قلت: قابلت العديد من رؤساء الجمهوريات والملوك من منهم لفت انتباهك؟
- قال: نعم قابلت الكثير من الرؤساء وآخر من قابلتهم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إذ غنيت في مؤتمر قمة الرؤساء العرب وأنا الوحيد الذي غنى للرؤساء العرب مجتمعين، وهناك أيضا الرئيس مبارك وعمرو موسى وهو من أعضاء جمعية محبي صباح فخري في القاهرة، الرئيس الذي يقدر الفن ويحب الفنانين ويحترمهم أشعر بأنه قريب مني.
* سألته: أنت قريب من أيهم؟
- أجاب: من سوريا. الرئيس شكري القوتلي استدعاني إلى دمشق، ورعاني وكان له فضل عليّ. حين أتى الرئيس حافظ الأسد استلمت نقابة الفنانين عن الحركة التصحيحية، ورعانا الرئيس كحركة فنية منظمة وأعطانا كفنانين ما لم يعطه لأحد وحوربنا وكان يقف معنا حتى أتى الرئيس بشار وأنا أعتبر نفسي عمه، كرمني السلطان قابوس وقلدني وساما سلمه لي باليد، وكرم من قبلي محمد عبد الوهاب وتأتيني دعوات كريمة من الرؤساء العرب لحفلات، لكن من يقدم لي حفل تكريم ووساما فهذا شيء آخر، على سبيل المثال الرئيس الحبيب بورقيبة كان كل سنة يقيم لي حفلا خاصا ويستقبلني وكانت تربطنا محبة ومودة والقضية ليست محبة الرؤساء بقدر ما هي محبة الجماهير.
* سألته: ما الأشياء الطريفة التي وقعت لك في حياتك؟
- قال: أنا رجل جاد جدا وواقعي جدا، الأستاذ سامي الشوان حين جاء إلى مدينة حلب وسمعني اهتم بي، وأراد أن يصحبني إلى مصر، وطلعت معه في جولة فنية في حمص وحلب وحماة ودمشق وكان حريصا جدا عليّ، كان يهتم برعايتي وسأضرب لك مثلا: وصلنا إلى الفندق في مدينة حماة فقال لي : يا محمد لا تأخذ "دشا" لأن حرارة الجو شديدة، حين دخل إلى غرفته أسرعت بالدخول إلى الحمام، فشعر بي ودخل منزعجا إلى غرفتي آمرا: اطلع بسرعة، وأخذني ولفني ببشكير وغطاني خوفا من أن أكون قد أصبت بالبرد، حتى جاء العصر فأرسل لي الطعام. تصوري كان الاهتمام إلى أي درجة.
كان عندي حفل في القصر الجمهوري في أيام الرئيس شكري القوتلي وكانت العائلات الكبيرة في سوريا تحضر الحفل وأثناء شهر رمضان سألني: ماذا ستأكل يا محمد من أجل صوتك؟ ثم حين حان موعد الإفطار وأنا صائم هلكني أكلا ولا آكل. وكانوا يضعون حلوا في بداية الفطور، جلس بجواري، وأحضر الشوربة (في بيتنا نأكل مع الخبز) قال لي لا تأكل الخبز مع الشوربة، ولا تضع ملحا، لا تشرب ماء مثلجا فتركت الطعام وهربت.
-------
هكذا كان رحمه الله فنانًا صادقًا عظيمًا عاش مخلصًا لفنه فأخلص له الفن. سنفتقده حتى ونحن نسمع صوته يصدح بأعذب الألحان.
---------------------------
بقلم: هالة البدري