عندما تمتزج أرواحنا بالموسيقى نجد الحياة فيها معولا من الجمال أرق من ملمس الحرير وأعذب من بريق الماء يقع في نفوسنا الخصبة ألحانا بهية ويثمر أنغاما ندية في جوف السماء، هكذا كانت حال همس مع كمانها الذي لم يكن يفارقها البتة وكيف يفارق الخل خليله وقد أخذ منه مكان القلب ونبضاته، والد همس الموسيقار الأشهر في منطقته يشهد له القاصي والداني بالإبداع في عالم الموسيقى والقدرة المتفردة على اختيار أفضل الوحدات الموسيقية والتي ينسج بها أجمل السمفونيات الساحرة التي تؤثر في الألباب والأذهان قبل أن تُفتن بها الأسماع والقلوب، ووالدتها المغنية الأوبرالية ذات اللحن البشري الرائد والذي اعتمد عليه أشهر المخرجين العالميين في تمثيل أشد اللحظات دقة في مشاهدهم الحساسة وموسيقاها التصويرية التي منحتها الخلود، وما بين روعة اللحن وسحر الصوت وُجدت همس لحنا منح الوجود الجمال وسحرت الطبيعة بحسها الموسيقي الفريد، حيث تكوّن بين خالدات الأنغام وساحرات الألحان ومبهجات الأسماع فهي وُلدت تماما من رحم الإبداع الموسيقي النابض بالسحر. كانت تسمع هذه الألحان وهي في رحم أمها، بكاؤها في المهد مقطوعة موسيقية مبدعة وحركات يديها كمايسترو يحوّل كل صوت في هذا الكون إلى روح من إبداع النغم ينبض بنسيج من السلم الموسيقي ومفاتيحه العاشقة، كانت الموسيقى تخرج من قلبها من روحها تسمعها في كل وقت وفي كل لحظ وفي قلب كل شيء حتى لو كان متجمدا، لم تكن تتوقف عن الاستمتاع بها وعن تأليفها فقد قدّمت لحنها الأول في السادسة ونظمت أول سيمفونية في التاسعة وقادت أول أوكسترا كاملة في العاشرة تحت أنظار عشرات الموسيقيين المحترفين حيث دوّى تصفيقهم الذي ملأ الوجود إعجابا بموهبتها الفذة واحترافيتها النادرة.
كانت همس تستيقظ كل صباح على أصوات عشرات الطيور المنتظرة عند نافذتها حيث كانت تطربها بعزفها الثري على آلة الكمان التي تحولت بين يديها إلى قسمات من باذخات الآلات اللواتي يمنحن البهاء والروعة، وقد بنت بين كمانها وتغريد الطيور وحفيف الأشجار وزفزفة حنين الرياح وغنن الماء المنسكب فوق الأعشاب التي تتراقص في علاقة حب وعشق وتبادل علاقة مطهرة نابضة بالحب حيث ينبثق السحر من هذا الكل الجامع للجمال مقطوعات وسمفونيات ممتعة ومبدعة، حتى حدث ما لم يكن بالحسبان عندما استيقظت على صمت رهيب لم تعتده بعد أن اعتادت على الاستيقاظ على تغريد الطبيعة عند نافذتها، استغربت وهرعت إلى النافذة وعندما فتحتها لم تجد طيورها المعتادة ولم تسمع تغريداتها اليومية، بل لاحظت صمتا مطبقا على طبيعتها المعطاءة فأجالت نظرها وقد غرقت في مفاجأة لم يكن لها إلا تفسير واحد وهو وجود تلك البومة التي احتلت المكان بصمتها المرعب منتزعة تلك الأنغام التي كانت تطرب الأجواء، وقد أدركت وقتها أن الطيور تفزع من البومة وتبتعد عنها فماذا تفعل وقد اقترب موعد حفلتها وهي بأمس الحاجة لإتمام سيمفونيتها الجديدة التي بدأت بتأليفها على تغريدات طيور حديقتها وعلى الفور بدأ الشوق يئز روحها على طيورها المهاجرة، وبدأت تفكر في حل لمشكلتها حتى عاجلتها تلك البومة بصوتها الغريب الذي جعلها تغلق النافذة وتسند ظهرها عليها وتلتقط أنفاسها خوفا من صوت تسمعه للمرة الأولى في حياتها، كان لذلك الصوت أثر يشبه نفخ البؤس في أذن الأمل، والآن ما العمل؟ أبقت النافذة مغلقة وحاولت إقناع نفسها بأن الأمر عارض مؤقت انشغلت ببعض أمورها، وعندما حان وقت تدريباتها اليومية فتحت النافذة بأنفاس حذرة لتعاجلها تلك البومة بنظرتها المخيفة، فأغلقت النافذة بسرعة البرق وبعد الحيرة الطويلة جربت أن تعزف مستحضرة أنغام الطبيعة التي خُنقت بوجود هذه الزائرة التي يبدو أنه غير مرحب بزيارتها، ولكن الأنغام باءت بالهلاك بسبب توترها وارتباكها فما كان منها إلا أن طلبت من البستاني المسؤول عن الحديقة طرد البومة على أمل عودة الطبيعة سيرتها الأولى والطبيعية، وبالفعل أسرع البستاني إلى إبعاد البومة مستخدما كل السبل ولكن الغريب أنها كانت تبتعد للحظات ولا تلبث أن تعود، رغم تكرار محاولات البستاني الذي قرر في النهاية استخدام بندقية الصيد لإفزاع البومة وإجبارها على المغادرة دون عودة، ولكن ما أن لمحته همس حتى منعته بقوة مضحية برغبتها في سبيل عدم سماع صوت السلاح الناري يوجه تجاه كائن حي.. مرت الأيام والبومة في مكانها تراقب المكان بعينيها المغمضتين وبسكونها المعتاد، وما كان من همس إلا أن بدأت بتدريباتها على الرغم من وحدتها وغياب فرقتها التغريدية عنها، كانت تفتح النافذة وتبدأ بالعزف مغمضة العينين محاولة أن تخرج من روحها موهبتها الفطرية مطلقة أعذب الألحان راسمة أجمل اللوحات الصوتية على أوراق أشجار الحديقة، وهنا حدث أمر أقرب إلى الإعجاز منه إلى الواقع عندما بدأت البومة الساكنة تتمايل مع أنغام همس الشجية الأمر الذي جعل همس تصدح بأجمل الألحان وأعذبها سابحة فوق أوتار الكمان المطواعة لحركاتها الخاصة، وبعد لحظات طارت البومة محلقة ولكن هذه المرة باتجاه النافذة حيث وقفت في المكان الذي كانت تقف فيه الطيور مطلقة صوتها الغريب ولكن شيئا دفع همس إلى الاستمرار، كررت البومة المحاولة وفي كل مرة كان صوتها يعذب ويغدو أكثر حنانا مما سمح للطيور التي كانت متوارية بالعودة الآمنة والوقوف بجانب البومة التي غدت بتأثير أنغام همس الدافئة مسالمة ووديعة ليس ذلك فحسب بل تشارك في الحركات والأنغام ، واستمرّ ذلك لأيام عدة حتى جاء ذلك الصباح عندما فتحت همس نافذة أنغامها لتُفاجأ بمنظر الطيور المغردة وبينها البومة الزائرة وحولها ثلاثة من صغارها يطلقن أعذب الألحان .
--------------------------
بقلم: أحمد عبدالقادر الرفاعي *
*قاص وشاعر سوري مقيم بالامارات