18 - 04 - 2024

"حصاد" معرض البلشى بقاعة "ضي" (حوار)

أهرب إليها من زيف المدينة فاستعيد روحي
سامي البلشي: سطوح عمارات القاهرة قرى مصغرة 
* الطبيعة لا تعرف الخط المستقيم وانحناءات الطرق ملهمة والإبداع ابن الغريزة
* رسمت المرأة ورقة شجر بإيحاء من طفل في ورشة تدريبية 
* غابت المدينة في التجربة إحتجاجا على التاريخ الذي يشوه الغريزة الأساسية للحياة والفن
* الشعراء لا يهربون إلى حنين زائف بل يفرون من  التصحر الروحي والجمالي
* طلبت من الشعراء ترجمة ما رسمته من ذاكرة القرى لأرى اثر تجربتي  في إبداع مواز 

  

عاد  الفنان سامي البلشي بالذاكرة إلى ورقة شجر. رسم إمرأة وسماها الغربة، وربما يسمونها القرية البعيدة..  واستحوذ عليه الرسم بالأبيض والأسود  بأمر من الذاكرة حينا، ومن الغريزة التي تحرض على الرسم أحيانا. فلما استقامت بين يديه اللوحات -أكثر من سبعين لوحة-، نادى في المدائن" إليّ إليّ يا شعراء.”. يا أقرب الأصدقاء إلى قلبي تعالوا إلى إبداع مواز، وقولوا ماذا ترون في اللوحات شعرا، وبادلوني لوحة بقصيدة. فاستجاب له أكثر من ثلاثين شاعرا في تجربة تقدم نموذجا مهما في المزج بين الفن التشكيلي والشعر،  واستعادة لنماذج مصرية وعالمية في هذا السياق. 

والعلاقة بين الشعر والصورة قديمة قدم الإبداع العالمي، فعندما أراد الشاعر الأيرلندي الكبير وليام بتلر ييتس وصف شعر الشاعر الإنجليزي  جون كيتسقال " إنه يرسم في شعره صورا لا تنسى، غنية بالإيقاع غنى الرسم الصيني"،، ويمكن العودة أكثر في الزمن لنقف أمام مقولة اليوناني سيموندس الكيوسي الذيعاش في القرن السادس قبل الميلاد والتي يذهب فيها إلى أن الشعر رسم ناطق فيما الرسم شعر صامت ويمكن تتبع العلاقة بين القصيدة والصورة في الكتاب المهم الذي أعده الراحل الدكتور عبد الغفار مكاوي وتتبع فيه نماذج رائعة من قصائد كتبها شعراء عالميون عن تماثيل ولوحات فنية. 

هذا حوار إفتتاحي مع الفنان سامي البلشي صاحب افتتاحية المشهد، وبعد أن تكتمل  التجربة بين الصورة والقصيدة سنحاور الكتاب وبعض الشعراء المشاركين بقصائدهم، ونعيد تلمس  المشهد  قصيدة قصيدة، ولوحة لوحة من تلك اللوحات التي أعادت لنا، قرية كنا نسيناها تحت ركام ذكريات مهشمة في مدينة تدفعنا إلى السطوح لنرى العالم أفضل. 

* لماذا عدت إلى  الأبيض والأسود، في هذه التجربة هل لأنك ترسم ذاكرة الطفل والقرية؟

- "استقرت الأساليب الفنية وبقيت الفكرة هى أهم أساسيات العمل الفني.. وكلما جاءت الفكرة بدون تكلف وارتبطت بإحساس ومشاعر الفنان وتم تنفيذها أيضا بدون تكلف نجح العمل الفنى. يحركني هذا التفسير دائما  فى تناولى للأعمال الفنية. وأنا حر فى اختيار الأسلوب الذي أتناول به فكرتى، وحر فى اختيار الخامة. ولا أستجيب  في العمل إلا لغريزتي التي انحاز لها على حساب التاريخ المصنوع. وأراعي عند تفكيك العمل، أن تنتصر الغريزة لأنها تمس الروح وتخاطبها.

وقد انشغلت كثيرا بالتعامل مع الأبيض والأسود حتى كانت هذه الأعمال التى جذبتنى نحوه. ربما كان هناك ما قلت في سؤالك.. ويبقى التنفيذ الذى تركت فيه نفسى لمحركات العقل الباطني، وثقافتي التي اكتسبتها عبر سنوات وعيي بالحياة، فتتشكل الخطوط والألوان التى أدركها، وينتبه لها عقلي فى المراحل النهائية للعمل اضيف قليلا  وأحذف القليل ويبقى العمل مخلوطا بأنفاسي وروحي وحسي الغريزي للحياة.

* ماذا تعني بأنك حر؟

- أنفذ لوحاتى بالخامة والأسلوب الذي يستهويني وقت تنفيذها، واعتمادى على الفكرة هو الأساس. واستخدم كل الخامات المتاحة أمامي والتي أجد فيها نفسي، وانحاز إلى الحس الغريزي على حساب التاريخ فى محاولة لتوصيل رسالتي لروح المتلقي الذي أعيش إحساسه ويعيش إحساسي بعيدا عن المبالغات. وعندما يستقر إحساسي على تيمةمعينة تكون نافذة لرؤيتي، حيث أقوم بتكوين فلسفة مستلهمة من الحالة الوظيفية لهذه التيمة سواء كان مشبكا، أو زيرا، أو إشارات المرور، أو أدوات الفلاح البدائية. 

 * هل تمثل التبمة مفتتحا للنشيد ام خيطا تجري وراءه وكيف تختار هذه التيمات وتعمل عليها ؟

- التيمة مفتتح لتأويلات كثيرة تهدينى الى كنوز عايشتها وكونت ثقافتى ومفاهيمى. إنها خيوط سدى وخيوط لحمة حين أمسك بأطرافها تمنحنى فرصة تكوين نسجا مكتملا يربطنى بالماضى والحاضر. بتلك العلاقة بين حياتين مختلفتين عشتهما بالقرية والمدينة. مسقط رأسى ببركة السبع والقاهرة. حياة الطفولة البسيطة والأحلام البريئة والذكريات المرتبطة بالخيالات والأساطير، وحياة الصراعات والبحث عن متكأ أريح فيه جسدى المنهك من البحث وإثبات الذات. بين النظر الى الأفق الأخضر ، وجسد السماء فى بلدتى، والجرى بين شوارع وجدران وأسقف منخفضة بالقاهرة. مساحات الشوف مختلفة. لذلك حين يكون إختيار التيمة تكون الذكريات هى الملجأ تلك الحياة التى تقترب من الغريزة، ثم أفتح شبابيك الرؤية، وأقيم تعايشا يشبهنى فى تلك الحياة المتناقضة، هنا تظهر بلاغة الرؤية فى ربط العالمين، والنظر الى مفردات الوجود. هروب الى واقع الأرض والعودة الى حياة المعافرة يكون التأمل وإقامة العلاقات والربط بين جسد الطبيعة والحكايات القديمة وصولا الى الحروف الجديدة وسلطة التاريخ، والحضور المجتمعى المزيف للخروج بالفكرة والتصور الذى أراه يتناسب مع معتقداتى المستقرة فى ذاتى وذلك من خلال إنفعالاتى وخبراتى، وحواسى وملكاتى. وحين أبحث عن الرمز أخاف من الإيغال فى الغموض،ربما يوقفه هذا الشغف المرتبط بالحقيقة وفتح مسارات للغريزة والحياة المرتبطة بالوعى والعرفان. هذه التيمات جزء من الماضى، والنص التشكيلى يكتمل بتصوراتى الخاصة التى يتخللها أسرار ترتبط بالجانب النفسى الذى لا أستطيع الإفشاء بتفاصيله فأقوم بترجمته الى خطوط وألوان يقرأها جمهورى بطرق مختلفة معظمها تقترب من الحقيقة.

* كانت لك تجربة مع المشبك  الذي وظفته جماليا حدثنا عن دلالاتها ؟ 

- استلهمت وظيفة المشبك فى الإمساك بالأشياء، لأعظّم دوره فيتحول إلى رمز واسع يفوق وظيفته المحدودة، وقد تناولته فى العديد من القضايا مثل القبض على الأرزاق والتخويف، وغيرها من الأمور الخاصة بقضايا الحرية. هذا الرمز يلازمنا فى جميع شؤون حياتنا التى تضيق وتتسع فتحدث المتناقضات التى نراها فى اللوحات، لقد أصبح المشبك من أهم التيمات الفنية التي صنعت  لها فلسفة خاصة ليصبح تيمة فنية خاصة بي .

 الورق الناشف والحلم 

* ولماذا استحوذت ورقة الشجر على غالبية اللوحات في هذه التجربة ؟ وما العلاقة بين ورقة الشجر والمرأة؟ ماذا في القرية قادك الي الشكل واللون  كيف كانت بدايات الطفل الذي يحلم بعرائس الطين ويلون كل شيء؟

- دعنى أتحدث بصراحة، ربما تبعد قليلا عن ما حملته داخل أسئلتك من تفسيرات ربما لم تأت بخاطري لحظة البدء فى مشروع المرأة وورق الشجر، وربما كان هناك جزء منها. وأعتقد أننى فكرت فى ذلك بعد أن قررت تناول الموضوع. بمرسمي حديقة صغيرة أجلس بها أثناء الراحة، فتأملت الأوراق المتساقطة، وأثناء إحدى الورش التي أعلم فيها الأطفال طلبت منهم رسم المرأة بطريقة رمزية، فمنهم من رسمها نهرا، ومنهم من رسمها شمسا، وقمرا، ورسمها أحد الأطفال شجرة. 

جذبني هذا الرمز كثيرا ،واستدعيت ما شاهدته بأوراق حديقتي. وألحت علي فكرة علاقة الفراشة والشرنقة، فالفراشة تخرج بميلاد جديد للحياة. وتخيلت المرأة فراشة تخرج من التفاف الورق الناشف الذي شاهدته، وربطت العلاقة بما قرأته فى تفسيرات الورق الناشف بدلالاته الإيجابية فى أحلام  المرأة. 

حيث تقول بعض التفسيرات إن المرأة التي تحلم بالورق الناشف تكون طموحاتها واسعة وتكون مقبلة على الحياة. استدعيت حواء بتصرفاتها الغريزية وأقمت هذا الحوار الفلسفي المرمز لحياة الناس عموما. وعندما سألت نفسى من الذي فجر الفكرة؟ كانت الإجابة، بدون التحميلات السابقة، بأن مفجرها هو ذلك  الطفل الذي  رسم الشجرة رمزا للمرأة.

دعنى أحدثك عن بداية تشكل وعيى والذى بدأ بعرائس الطين التى كنت أقوم بتشكيلها من الطين على حافة الترعة التى تمر على رأس حقلنا، وفى أحد المرات وبعد أن أكتمل نحتى مر علي عمى إبراهيم وداس على التشكيل ونهرنى قائلا:"أنت بتعمل أصنام يابن عبدالفتاح". كانت الجملة مفتاحا لرؤية جديدة للعالم ومدخلا للبحث والمعرفة وتشكيل الوعى، وإنتباهى لوجود الأديب الكبير محمد جاد الرب أحد البارزين فى إدخال الكتب الثقافية والتاريخية الى البلدة، والذى استضاف الشعراء والفنانين أمثال أحمد فؤاد نجم، وعبدالرحمن الأبنودى والمطرب والملحن الشيخ إمام عيسى لإقامة أمسيات ثقافية لهم ببركة السبع. من هنا بدء تشكيل وعى. فقد ساهم جاد الرب فى هذا الأمر بنسبة كبيرة بعد أن عرفنى عليه أخى الأكبر دكتور محمد حين كان يصطحبنى معه لزيارته وحضور تلك الأمسيات. كان جاد الرب مهوسا بالحياة الفرعونية وتحديا بحياة إخناتون ورؤيته للكون. كان يحدثنى عن الفن والنحت الفرعونى، وهو أول من عرفت منه أهمية تنمية الرؤية البصرية للأشياء، وأهميتها فى تكوين بلاغة الرؤية.

* ورق الشجر في الريف غيره في القاهرة لكن الورقة واحده في الحالين والمرأة في القرية غيرها في القاهرة؟ من هن نساؤك في القرية وكيف ألهمنك الطريق الي الفن؟

- نعم الورقة واحدة فى الحالتين، ولكن المرأة فى الريف كانت تحظى بحب وألفة وإحترام رغم بعض التجاوزات غير التى تعيش بالمدينة، وهذا عكس المتصور لدى البعض. المرأة فى الريف تتمتع بقدر كبير من الحياة الغريزية التى تفتقدها إمرأة المدينة. وهى السند وبدونها يشعر الرجل بالحرمان الحقيقى ويعرف معنى الفقد. إستمتعت بتذوق طعام أمى قبل الأكل من المديح المتدفق الذى كان يتغزل به أبى لطعامها مهما كانت قيمته. وشاهدت الدور الذى قامت به زوجة عمى من مساعدته فى الحقل وتنمية ثروته فى شراء الأرض حين رفعت شعار "اللى يمتلك شبر أرض بيمتلكه من الأرض للسماء". الحب والفطرة والبساطة مفردات تشكل الغريزة التى لم يعتدى عليها الفلاح فى الريف المصرى عامة. النوم مبكرا والإستيقاظ مبكرا سلوك كان يتم بشكل طبيعى. قسمة رغيف الخبز. رائحة الفطير والارز المعمر وشوى البطاطا والزرة على رأس كل حقل، التجمعات الأسرية، والدفء. كانت النساء تتمتع بالرشاقة لعدم إعتداء الرجل على الغريزة وإنتهاكه حقوق المرأة. فى المدينة تجد النساء المترهلات اللاتى تعرضن لإنتهاكات كثيرة لعدم إحترام الرجل للغريزة. إعتمدت على الأطعمة المحفوظة لأن الرجل لم يشعرها بالحب. 

تأثرت بهذه الحياة فى المدينة فكانت النساء السمينة فى معرض كامل تناولهن، ولولا تناولهن ما عاودنى الحنين الى النساء فى الريف. إهتديت الى الحقيقة، والى التفسير الخاص بصراع الغريزة والتاريخ والذى حققته فى كتاب سيصدر قريبا إن شاء الله  

* في التجربة غابت المدينة من الذاكرة فهل تحتج عليها بورق ناشف إم تحتج على تصحر الروح ؟

- كل  الإحتجاج على التصحر الحقيقي والنفسي والمدنية الزائفة التى اختفت صورها تماما من اللوحات.. هذا حقيقي مئة بالمئة. فقد أصبحت بشكل تلقائي أميل إلى تأكيد ما بداخلى من غرائز لانتصر على التاريخ المزيف الذي يحاصرنا من كل إتجاه، ويغير  فى طباعنا الغريزية التى بها الكثير من التلقائية والبساطة، والتى بقليل من التهذيب يمكن أن تكون منبعا للحب والتعاون  والإنسانية. لقد اعتدى  التاريخ على الغريزة فشوهها.

* ماذا تعني باعتداء التاريخ علي الغريزة؟

- دعنا نسلم بأن الأحداث تؤرخ إما فى شكل مثبت بوثيقة وإما بتدخلات كاتبها وتبعيته وخضوعه فى الكثير من الأحيان لتأثيرات تصل الى حد الخرافة. هذا الحرف يقدم لنا قسما ضئيلا من المعرفة. من هنا جاء الإعتداء على الغريزة لخدمة نظم مجتمعية متنوعة ترى أن ما تقوم به هو الصحيح من وجهة نظرها. لنكتشف بعد ذلك أن معظمها مسائل تقديرية ترتبط بأوقات بعينها.

مسيرة التاريخ تتحقق بما أنتجته الغريزة من وقائع وأحداث، وهذا يتوقف على مصداقية كتاب التاريخ وأهوائهم. وأى عمل فنى مهما كان مرتبطا بالغريزة والتاريخ. تتأكد الغريزة على حساب التاريخ أو العكس فتتحدد قوة العمل او ضعفه بمدى درجة تواجد كل منهما، وإذا كان للغريزة حضور أكبر من التاريخ كان النجاح للمنتج الفنى وكان له تاثيره الواضح على الكافة فى أى مكان وزمان لانه خاطب الروح والإحساس بشكل مباشر. انظر الى الموسيقى كمثال ولماذا يستجيب الإنسان للحن الجيد، واسال نفسك عن مصدر نغماتها تجدها من أصوات الطيور والكائنات الحية. فمصدرها من الغريزة الطبيعية لذلك فإن خطابها من الروح وموجه الى الروح. وعندما يضاف الى الألحان الموسيقية كلمات شعرية فإنك هنا قد أضفت حالة غريزية جديدة لأن الشعر كما قال "بيكون" ضد التاريخ . وكلما إقتربت الكلمات واداء المطرب من اللحن كلما أمتزجت صنوف مختلفة من الغرائزة التى تؤثر بأشكال مختلفة فى المتلقين كل حسب تفاعله الغريزى مع العمل. 

ذاكرة القروي 

* هل ترسم إذن بريشة ذاكرة القروي أم بذاكرة تبحث عن نفسها فى القرية؟

- بالاثنين معا. فأنا أعيش في القرية والمدينة فى آن. فعندما انتقلت من مدينتي القروية بركة السبع بالمنوفية للعيش بالقاهرة، سكنت فى بداية حياتى بالدور العلوي بإحدى العمارات، وكنت أصعد للسطح فأجد الأسطح على مدى الشوف بها تراكيب حظائر الطيور والأغنام بخلاف الأخنان الخشبية التى  يصنعها الشباب لتربية الحمام. 

لم يكن تغير إحساسى بالانتقال من القرية إلا كلما نزلت إلى الشارع وواجهت مقالب الناس وصراعاتهم. فيعاودني الحنين إلى الحياة الغريزية البريئةفأهرب إلى السطوح. 

القاهرة تسكن فوق سطوحها قرية كبيرة، لم تفصلني عن ذكريات القروي. صحيح أن هذه المشاهد اختفت تدريجيا بعد بناء العديد من الأبراج الشاهقة فى أوائل القرن الواحد والعشرين. فتركت القاهرة وعدت إلى بلدتي محتميا بما تبقى بداخلي من غرائز مفعلة.

 * عندما جئت للقاهره دارسا كيف عشت ارتباك الايام الاولي في المدينة والكلية وكيف روضت نفسك علي التأقلم ؟

السطح مساحة منفصلة ، متصلة معا بالبيت  فهي بعيدة عن الشارع القاسي  - هل تري القاهره كما رآها فلاح مثلك هو احمد عبد المعطي حجازي مدينة بل قلب – ولكن السطح متصل بكل شيء في مصر  من خضره وتربة حيوانات.  

* هل ينتقم الريفي من زيف المدينة بالصعود الي قريته وجعلها سطحا للعالم؟

- عندما جئت للقاهرة دارسا كان يمتلكنى غرور العارف، وأن الحياة علمتنى أكثر بكثير من سكان القاهرة. الفلاحين تعلموا كل شىء من الطبيعة، وتحصنوا بالوعى والعرفان المستمد من ثقافة المشى والتأمل. ولديهم من الحرية ما يكفى لمواجهة أى شىء. إستمر هذا الأمر وقت ليس بالقصير حتى تشكلت ملامحى لدى الجميع، وصار لى صوت وتفاصيل بينهم. التأقلم إرتبط لدى ببعض من التحفظ فالبوح والمباشرة كان لهما رد فعل عدائى لدى أنصاف المثقفين. واجهت مواقف أخافتنى وأفزعتنى إرتبطت بتجاوز القيم والأخلاق التى حملتها معى، والتى لم أقبل التخلى عنها. لذلك كان اللجوء الى السطح بديلا لقسوة الشارع الذى أضيفت له الشللية والتى ظهرت بوضوح بعد محاولاتى للتواجد وتأكيد ذاتى، ورفضى للإنضام الى أى شلة من الشلل. رغم كل هذا لم أر القاهرة مدينة بلا قلب كما رأها شعارنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى بل رأيتها مدينة قلبها جامد. ولم أرض أن أكون ذئبا وسط الذئاب كتعبير صديقى الشاعر إبراهيم داود. تعاملت بندية ورضيت بالإنتصارات والهزائم التى عشتها. وكنت أشحن نفسى بالطاقة الإجابية على سطوح القاهرة.

* لماذا يصر بعض الشعراء والفنانين على خصام المدينة مع أنها أساس الحضارة وموقع معيشتهم غالبا ويهربون إلى حنين قد يكون زائفا لقرية تنكرت لهويتها؟ 

- الفارق الوحيد بين مبدعي تلك الحضارات الحقيقية القديمة، ومبدعي هذه الأيام، أنهم كانوا يقتاتون من إبداعاتهم لاحترام الناس لما يقدموه. أما الشعراء والفنانون المعاصرون فهم مضطرون أصلا للعيش بالمدينة للعمل والحصول على مايعينهم على مواجهة الحياة الصعبة. لكن عندما يبدعون حتى وهم بالمدينة فإنهم يستمدون من غرائزهم المعطلة، من قيم  قراهم التي يستريحون بها في خيالهم ليبدعوا  .

القرية الحقيقية هى الطبيعة. والطبيعة ليس بها خط مستقيم. ومنحنياتها التلقائية هي التي تصنع الجمال. واستدعاء الخطوط المنحنية فى العمارة الفاطمية هو الذي جعلنا نستريح عند مشاهدتها لأن بها ملامح غريزية أدخلها المبدعون فى الخطوط المستقيمة للتقليل من حدتها التي نحسها  في العمارة الحديثة  على سبيل المثال. 

ولذلك أنكر ما في سؤالك من  تلميح باتهام الفنانين والشعراء بالهرب، وهم  لا يهربون إلى حقيقة زائفة.. إنهم يلجأون إلى ما تبقى من القرية، وينسجبون بخيالهم وما يستدعونه من ذكريات للطبيعة، لكي يبدعوا فالإبداع الحقيقي يقوم في جانب كبير منه على الغريزة. 

 مشاهد حب معلن

 * رسمت مشاهد حب معلن في الحقول والطرق ؟ هل كان الحب في قرانا  معلنا وجريئا أم أنه الخلط بين الذاكرة والحلم؟

- مشاهد الحب لم تكن معلنة، ولكنها كانت موجودة بقوة، وترجع مشاهدتى لها إلى أيام الطفولة، حيث كنت أتحرك فى كل مكان بين الحقول وعلى أسطح المنازل فكنت أشاهد مارسمته وأكثر. شاهدت شباب الفلاحين وهم يساعدون البنات فى رفع الأوانى على رؤوسهن لكى يفوزوا بلمسة أو نظرة أو ابتسامة عن قرب، واللقاءات المتباعدة على الأسطح. دخلت وأنا صغير بين أرجل النساء وشاهدتهم يمسكون العروسة لزوجها ليلة الدخلة لكى يفض بكارتها بإصبعه، وصحيت على صرخات الجيران لأسمع الحكايات أن سبب إنتحار "فلان" هو رفضه للجواز ممن تعلق بها قلبه، والقصص التى إنتشرت بعد أن أشعلت "فلانة" النار بنفسها لوقوف أهلها بين تحقيق حلمها بالزواج من جارها. شاهدت العلاقات الجنسية بين شباب الفلاحين والحيوانات، أكلت "أرز باللبن" ندرا كانت توزعه النساء أمام أضرحة الأولياء لزواج بناتهن، أو للخلفة، أو الحفاظ على المولود . إنها الحياة ببساطتها وبدون أقنعة، رغم ما يتميز به الفلاحين من مكر ودهاء. 

* نحتاج الي قصص رأيتها أو سمعت بها تثبت مقولات الحب في القري التي كانت وراء إلهامك بالجمال والغريزة، ألا تدفع المرأة في الريف فاتورة الحب المرفوض من حياتها هل واحهت قصص انتحار من أجل الحب في قريتك وكيف عشت هذه التجارب، لماذا طلبت من أصدقائك الشعراء أن يتفاعلوا مع اللوحات وأن يعبروا عنها بالشعر . ماذا تريد من هذه التجربة؟ كيف تري الشعرية في اللوحة وما هي عناصرها ؟ وكيف تري اللوحة في القصائد وكيث  تستطيع الكلمات أن ترسم، وهل جربت أن ترسم قصائد ام انك تخشى ان تكون لوحتك ترجمة للكلمات ؟

- الشعراء مبدعون، ورؤيتهم الإبداعية للأعمال ستكون الأقرب. لأنهم  سيترجمون أعمالى بنفس الحالة الإبداعية أو سيقتربون منها. سيفعلون شيئا مختلفا عما يقدمه النقاد في تحليل الأعمال  فتلامس الأفكار والحس، ولغة التقارب. والاستلهام من الرسم والتصوير الذي قمت به بدلا من الاستلهام المباشر للطبيعة…

 أسباب كثيرة يغلفها حبى للشعراء دفعتني لفكرة المزج بين القصيدة واللوحة. تسكننى روح شاعر يكتب بالرسم و أشعر أن لوحاتى قصائد شعر أو تكاد.  والشعراء هم الأقرب إلى روحى.. فكانت الفكرة والرغبة فى تنفيذ التجربة التى رحب بها كل من عرضتها عليه. فقررنا أن نجرب التلاقي  بين المبدعين وكما قلت فى سؤالك إنها تجربة.. فدعونا نشاهد النتائج أنا وأنت والمريدون وحتى العابرون.

الشعر يدور حول الفكرة التى من خلال باعث عاطفى يحرك الشاعر طوال التشكيل حتى يصل الى البناء الجيد للقصيدة، وهذا يعتمد على أسلوب الكتابة الذى يحدد بصمة الشاعر من خلال أهمية الأفكار والرسالة التى يسعى لتأكيدها، وقدرته على الخيال والرمز. الشاعر يحشد داخله ليتحول الى كائن متعدد مثل الكون. الغواية مشتركة وكذلك شيطان الشعراء هو شيطانى. أشاركهم أيضا فى أحلامهم ورؤاهم. تبنى لوحاتى بنفس العناصر التى تبنى بها القصيدة. اللون يخدم أفكارى الإنسانية التى أحولها الى أعمال فنية، ولا أسعى الى النشيد اللونى المبنى على التداخلات اللونية التى تخاطب الروح والعاطفة وفقط. النشيد اللونى الخاص بى يتشكل مع النشيد الإنسانى، لا أعترض على من يقف عند حدود تحليل المفردات أو تلخيصها أو غير ذلك من البحث فى التشكيل، لكن التحليل والتلخيص يأتى داعما لأفكارى، مثلى مثل الشعراء جمال اللغة يخدم أفكارهم. لذلك تسهل ترجمة قصائدهم تشكيليا، وتستطيع كلماتهم ترجمة لوحاتى. وخضت تجارب كثيرة فى ترجمة العديد من القصائد فى لوحات. ولكنى لا أترجم أية قصائد.. أنا أترجم القصائد التى تشبهنى وتشبه لوحاتى، وقد دشنت صفحة على التواصل الإجتماعى تحت عنوان "رد فعل تشكيلى" مبنية على ترجمة قصائد الشعراء الى لوحات أنفذها بالرسم المباشر بإصبعى على شاشة الموبايل. أنا مجنون مثل الشعراء وشيطاننا مشترك.

------------

نماذج من الشعر الذي تجاوب  مع الرسومات


 مقطع من قصيدة يملأ فمي بالكرز - فتحي عبد الله / شاعر مصري "رحل قبل اكتمال الكتاب" 

(وضع سلّةَ الورود على بابها

وضحك من الجيتار المكسور

واكتفى بالطيور التي تحمل رسالته إلى أعلى

فعثروا على قمصانها الخالية من العطور

وعلى حقيبةٍ هربتها من الصحراء

كي تعطيَ لحامل الراية خاتمها الذي يلمع بين الحشائش

أو يزوره المنجمون بعد أن يفرغوا من أناملها

فقد اكتشفوا أنها بعيونٍ واسعةٍ وزرقاء

وتترك حبيبَها إذا تذكّر الحرب

وهرب من عربات القطار إلى حقل أمّه

وتسمعُ صياحه إذا وقع أمام المقابر 

وتلفّه بالكتّان الأصفر

وتغمض عينيها لأشباحٍ يدقّون الطبول

وينادون على رأسه في الصباح

وقد تخلع حذاءها أثناء ذهابه إلى المقهى

وتُردّد على النادل

أن له جيتارًا يتبعه في الشوارع

وأَلمه من الزيارة لا حدود له

ويكتفي بأصابعي 

فَدعْ ذراعَه على هواه

يدخلُ ويخرج

إلى أن أرى دموعه البيضاءَ على سروالي المقطوع

وأنا أشهقُ في أعالي الجبال.)


* كأنه منتصف العمر - شعر: عمر شهريار

(جسدي عقار قديم

وآيل للرحيل. 

حوائطه مهدمة.

نوافذه بلا عيون.

أبوابه مغلقة على

حيوات غابرة، 

وآثار من سكنوه يوما.

**

بصمات اﻷطفال على جدرانه

تبكي في المساء،

وتروع العابرين.

بقايا شفاه الجميلات 

على أعمدته

تتراقص ليلا كجنيات شاحبة.

**

منذ أربعين عاما،

شيّده أبي،

واعتنت به أمي.

كانت تنظفه كل صباح،

وترعى حدائقه

ليصير قصرًا.

***

اﻵن،

مات أبي،

أمي شاخت،

وقصرها الموعود سكنته العناكب.

***

جسدي قديم،

قديم ومترب،

ترعى فيه الثعابين والعتمة

وتخشاه الجميلات،

كشبح ضرير

سلبته اﻷيام بصيرته.)


* محض شجرة - شعر :رماح بوبو" شاعرة سورية" 

(حجلاً..على سلم العمر 

قفزت 

أهديت جسدي للظَّل 

وراوغت 

راوغت أرنب فستاني الضاحك 

رهاب أمي 

ألسنة الجيران في أكياس الخضار

ابتسامات الزئبق 

نجوم الجنرالات الصدئة 

وسياج حبيبي الشائك 

أغمضت عينيَّ

صرت سمكة 

فتحت باب الغابة في صدري 

ورفرفت 

لدرجة أنّ 

الحيّة ذات الرؤوس السبعة 

والتي كعادتها تلتف على جيد الصبايا 

انسلت عني متمتمة 

يا للخيبة 

إنها محض

شجرة ).
----------------------
حاوره : محمد حربي
.......
(تقام احتفالية إفتتاح المعرض الذى يفتتحه الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد والناقد التشكيلى الكبير هشام قنديل يوم السبت الموافق ٢٣ أكتوبر ٢٠٢١ بقاعة ضى بالمهندسين وسيتم تدشين كتاب الشعراء يوم الافتتاح)







اعلان