29 - 03 - 2024

العائدون من النفق

العائدون من النفق

فعلها الأبطال الستة وصنعوا فيضان الروح ، وأشعلوا ثورة آلاف الأسرى فى سجون الاحتلال ، إنهم فتية الحلم العابر القاهر لعجزنا وإحباطنا ، الذين اجترحوا معجزة التحررالذاتى من سجن "جلبوع"، وحفروا نفق الخروج المبدع من المعتقل الأشد تحصينا فى كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وحفروا بأظافرهم وملاعقهم وبمجرفة مسربة طبقات الحديد والأسمنت المسلح من تحت فتحة الصرف الصحى بالزنزانة، وعبر شهور طويلة ربما سنوات من العمل الدءوب المضنى، ومن دون أن تنجح حملات التفتيش والملاحقة اليومية فى رصد تحركهم المتقن التمويه ، ولا نجحت كاميرات المراقبة المتطورة ، التى سجلت لحظة إقلاعهم عبر النفق الممتد لخمسين قدما إلى سهل زراعى مجاور ، ولكن بعد فوات الأوان على العدو ، فقد كانت السجانة المكلفة بالحراسة نائمة ، غلبتها غشية النعاس، بينما كان الأبطال بكامل ملابسهم وحقائبهم فى فضاء الحرية المنتزعة بالملحمة العبقرية الفريدة، "فللحرية الحمراء باب / بكل يد مضرجة يدق" ، كما قال أحمد شوقى أمير الشعر العربى قبل قرن ويزيد.

وأيا ما كان مصيرالأبطال الستة، وسواء وصلوا إلى مأمنهم النهائى كما نحب ، أو وشت بهم عيون الخونة والبصاصين، أو قتلوا فى مطاردات إسرائيل المرعوبة المحمومة، أو أعيد اعتقالهم مجددا ، فلا فرق يذكر بالمعنى فى كل الأحوال ، فقد كتبت أسماء الستة الأسطوريين بحروف من نور سماوى ، ونالوا الخلود فى وجدان الفلسطينيين والعرب الحقيقيين، وأثبتوا بعمليتهم الخارقة لكل خيالات البشر فى الواقع والسينما ، أن لا شئ مستحيل ، وأن الإرادة والإيمان والذكاء والمهارة قادرة على كل شئ بعون الله ، وأن الفلسطينيين ليسوا جماعة مأساة تنتظر العطف من أحد، بل هم "شعب الجبارين" كما كان يصفهم الراحل ياسر عرفات ، فقد هزمت "كتيبة الأحلام" سجن "جلبوع" الإسرائيلى ، وهزمت معه كل "جلبوع" حتى لا نقول وصفا آخربذات الإيقاع ، يدعى وصلا ونسبا بالعرب والعروبة ، بينما ترتعش أوصاله خوفا من بطش قوة العدو العسكرية ، فيسارع إلى خطب ودها والتطبيع معها ، وجعل خده مداسا وجسر عبور لأحذية الاحتلال ، ويسخر هازئا من مقدسات الأمة ومحرماتها ، ويصور وهما لنفسه وللآخرين ، أن فلسطين ضاعت إلى الأبد ، وأن محبة "إسرائيل" وطاعتها فرض عين وكمال سنة ، وتصدمه كما تصدم آلهة إسرائيل بطولة "كتيبة جنين" ، فكل أبطال المعجزة الستة من جوار مدينة "جنين" ومخيمها الأشهر بالضفة الغربية ، وكلهم كان محكوما عليه أو فى سبيله للسجن مدى الحياة ، وبغير جريرة سوى أنهم فدائيون مقاتلون ، وتيجان فخار للعرب وللعروبة وللفلسطينيين ، حاربوا عدوهم كما يقضى ويسلم كل عرف وشرع دينى أو وضعى ، ولم يرتضوا المذلة فى عيش كالموات ، ونقشوا أسماءهم على جدران قلوبنا ، فلن ينسى فلسطينى ولا محب لفلسطين مؤمن بحقوقها وحريتها ، لن ينسى المخلصون العاملون الآملون بنهوض الوطن والأمة ، أن يذكروا مع مواعيد الصلاة أسماء "محمود العارضة" و"محمد العارضة" و"أيهم كمنجى" و"مناضل أنفيعات" و"يعقوب قادرى" و"زكريا الزبيدى"، وكلهم مشاعل وهج تضئ عتمة ظلامنا، وترد فينا الروح التى كادت تزهق .

وقد لا نتوقف كثيرا عند عناوين الفصائل، فخمسة بين الأبطال الستة من فصيل "الجهاد الإسلامى" ، الذى أسسه الشهيد "فتحى الشقاقى" قبل أربعين سنة ، وقد تشكل وعيه الأول فى سياق قومى عربى ، وصنع حركته المجاهدة من خارج إطار الحركة "الإسلامية" التقليدية ، وطابق بين  دين الإسلام واسم فلسطين وقضيتها ، ولم تشغل حركة (الجهاد الإسلامى) نفسها بشئ آخر ، ولا بمساومات وصراعات خارج نطاق الحق الفلسطينى ، ولم تلوث جهادها بذرة مهادنة ولا التواء سياسى ، ورفضت المشاركة فى أى انتخابات أو سلطات هزلية تحت مظلة الاحتلال ، وجعلت الشهادة دينها من أجل تحرير فلسطين ، بالدم الذى يهزم السيف ، وبمد اليد لكل مقاوم أيا ما كان فصيله ، وهو ما بدا ظاهرا على نحو رمزى مكثف فى العملية الجبارة الأخيرة، فقد كان رفيق "الجهاديين" الخمسة "فتحاويا" بارزا هو "زكريا الزبيدى"، قائد منظمة "كتائب شهداء الأقصى" فى "جنين" ، قبل أن تصدر قرارات "أوسلوية" بحلها وتسريح رجالها ، ومن دون أن تهزم روح الزبيدى ، الذى واصل طريقه الفدائى على طريقته ، وهو ابن مخيم جنين منجم البطولة ، الذى ولد يتيم الأب ، وقتلت قوات الاحتلال أمه وشقيقه ، فيما واصل هو قيادة عمليات مقاومة، وتصفية العديد من جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين ، ودوخ الإسرائيليين فى عمليات مطاردة لا تتوقف إلا لتعود، فقد حاولت إسرائيل اغتياله لأربع مرات، أفلت منها بذكاء فطرى ، برغم جراح بليغة ، جعلت إحدى ساقيه أقصر من الأخرى ، وتحول إلى صداع مزمن لجيش الاحتلال وأجهزة مخابراته ، التى وصف أحد ضباطها الزبيدى بأنه "قط شوارع" ، يفلت دائما ، وعلى طريقة إفلاته مع رفاقه من سجن "جلبوع" ، وعلى نحو معجز عبقرى ، لم يرد فى خيال ولا طرأ على بال.

إنها الأنفاق وما أدراك ما الأنفاق ؟ ، وهى ليست بدعة فلسطينية ، ولا اختراعا لحركة الكفاح الفلسطينى ، فقد كانت فى الحروب دائما خنادق وأنفاق ، وحتى فى عصر البعثة النبوية المشرفة ، فقد أمر النبى محمد (ص) بحفر خندق حول المدينة لصد غزوة الأحزاب ، حين اجتمع عرب الجاهلية لإبادة المسلمين فى "يثرب" ، وأشار الصحابى سلمان الفارسى بحفر خندق مانع لتقدم الغزاة، وقال لأكرم الخلق "كنا إذا حوصرنا خندقنا" ، يقصد خبرة الفرس الحربية السابقة على ظهور الإسلام، وأخذ النبى (ص) بالنصيحة ، وظفر هو وصحبه بالنجاة ، بعد اشتباكات متقطعة مقصورة على تبادل رمى النبال والسهام غالبا ، وبكلفة محدودة من القتلى على الجانبين ، ولت أحزاب القبائل بعدها الدبر من غير تلاحم بالسيوف ولا إثخان فى قتل ، وفى الحروب التى تلت إلى اليوم ، كانت الخنادق والأنفاق من طبائع القتال كثيرا ، ففى الحروب العالمية الأولى والثانية ، تواترت معارك الخنادق والأنفاق الألمانية والفرنسية والبريطانية ، وفى حرب تحرير فيتنام قبل خمسين سنة ، وصلت قصة الأنفاق إلى ذروتها ، وصنع المقاومون الفيتناميون مدن أنفاق كاملة ، كانت أبرز وسائلهم وحيلهم الفذة لهزيمة جحافل الغزو الأمريكى ، كانوا يختفون فى الأنفاق بالنهار، ويخرجون لقتل الجنود الأمريكيين بعمليات مفاجئة ليلا ، صنع الفيتناميون شبكة أنفاق ممتدة حتى تحت قواعد العدو ، وبأدوات بدائية متاحة للكافة ، صنعوا الرعب الذى يأتى من باطن الأرض ، وأقاموا مستشفيات ومدارس ومطابخ ومخازن سلاح خفية ، كانت من عجائب الدهر ، وتحول بعضها اليوم إلى مزارات سياحية شهيرة، على طريقة مدينة أنفاق "كوتشى" \، على مرمى 60 كليومترا شمال غرب العاصمة "هوشى منه"، وورث الفلسطينيون خبرة الأنفاق وطوروها ، من حروب لبنان إلى ملاحم غزة ، وجعلوا مدينة غزة "غزتان" ، واحدة فوق الأرض ، والأخرى تحتها ، وعلى مساحة قد تصل إلى 500 كيلومتر مربع ، وبطرق معقدة شبكية الصنع ، يعجز أشرار الجن بعد الإنس عن سبر خفاياها ، وكشف خرائطها  ومنصات صواريخها وناسها الملثمين ، الذين يخرجون وقت الحاجة لقنص الهدف ، وعلى طريقة ما فعلوا فى أسر الجندى الإسرائيلى "جلعاد شاليط" ، الذى جرت مبادلته مقابل إطلاق سراح مئات الفلسطينيين ، ولا تزال القصة ممتدة جارية بفصولها المثيرة ، وربما لن يكون آخرها حفر نفق الحرية ، الذى أبدعه الأبطال الستة ، وفتحوا طريقا جديدا للتحرير الذاتى ، ربما دون انتظار لصفقات تبادل أسرى لاحقة .

وهذه ليست المرة الأولى من نوعها ، فقد فعلها أسرى فلسطينيون من قبل، وبطرق مقاربة، وإن كانت أقل حجما وأثرا، بل أن البطل "محمود العارضة"، الذى تنسب إليه قيادة وتخطيط العملية الأخيرة، ربما بالاستعانة بخرائط وتصميمات لسجن "جلبوع" منشورة من سنوات على الإنترنت لفرط غباوة وصلف العدو، وكان "العارضة" نفسه، الذى كان محتجزا منذ العام 1996 ، قد اتهم بالتستر على هروب الشهيد "صالح طحاينة" من "سجن النقب" ، والعبرة مما جرى ويجرى بليغة ناطقة ، فما من دوام لأسر ولا لاحتلال إلى الأبد، ومهما امتلك من سلاح وتكنولوجيا متقدمة ، فالتكنولوجيا ودمارها لا تهزم الحق وأهله ، وبالوسع دوما شق طرق وأنفاق العودة لكسب الحرية ، وبالوسع دائما اكتساب تكنولوجيا مقابلة مقاومة، وهذه خبرة كل الأمم والشعوب الحية ، وخبرة الشعب الفلسطينى نفسه ، الذاهب إلي حقه يقينا ، بحضوره الكثيف الغالب فى دياره المقدسة ، وبتسلح أجياله الجديدة بالعلم فوق الإصرار والتحدى ، وبنحت المقاومين أنفاقا فى جدار اليأس ، وبالثقة بنصر الله ، وبوعد الحرية القادم حتما إلى فلسطين ، مهما طال الزمن واستطال العذاب .
---------------------------
بقلم: د. عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حروب





اعلان