26 - 04 - 2024

وجهة نظري| قربان للنيل

وجهة نظري| قربان للنيل

لا يسير هادئا كعادته أو هكذا يبدو فى عيني.. أراه غاضبا وإنتوارى غضبه وراء صمت خجول.. يدرك أن أوان العتاب فات، وأن ما نحصده اليوم هو حصاد سنوات من الغفلة والإهمال واللامبالاة.

عقود مرت شهد فيها ما لم يشهده من قبل، يقارن رغما عنه بين هالة قدسية أحاطه بها القدماء، قدموا فيها القرابين وأقسموا على حمايته وكان الحفاظ عليه من التلوث دليلا على نقاء السريرة والتبرؤ من شر الآثام.

نسجوا الأساطير حوله تعظيما لمكانته حتى كادت تصبح حقيقة تسرى فى الوجدان، لم يكن صعبا أن يقتنع الكثيرون على مدار قرون أن قربانا يقدمه المصريون طواعية كى يظل النهر الخالد على وفائه فيفيض خيرا وبركة.. عروس جميل ترتدى أبهج الثياب وأجمل الحلي لتلقى فى أحضانه فى أبهى صورة اعترافا بفضله وتقربا لنيل رضاه، تعانقت الأسطورة بالحقيقة، فلم يكن صعبا أن تتعلق بالوجدان وأن تظل محفورة فى ذاكرته حتى بعدما انكشف الجميع أنها محض خيال، لم تفقد دلالاتها وصدقها، لكنها ظلت دليلا على قدسية النهر العظيم ومكانته السامية فى نفوس الأجداد.

إرث الأجداد الثمين المقدس للأسف لم يراعه أحفاد الفراعنة كما ينبغى أن يكون.

وضاع القسم المقدس "لم ألوث مياه النهر" بعدما استباح الجميع تلك المكانة المقدسة.. تواطأ الجميع بجهل أحيانا وبعدم اكتراث أحيانا وطمعا فى كثير من الأحيان.. لوث البسطاء النهر العظيم بعدما استباحوا مياهه لينظفوا بها حيواناتهم القذرة ولم يتورعوا عن إلقاء مخلفاتهم به.. ربما يكون الفقر وسوء الخدمات مبررا وراء تلك الجريمة لكن أي مبررات يمكن أن يسوقها الوجهاء أصحاب المال ورجال الأعمال ممن ألقوا مخلفات مصانعهم وسفنهم وفنادقهم العائمة فى أبشع جريمة للأسف لم ينل مرتكبوها ما يستحقون عنها من عقاب رادع بعدما غض المسؤولون الطرف متواطئين على تلك الكارثة.

ابتلع النيل الكارثة فى صمت.. ربما راهن على يوم يستيقظ فيه الغافلون، ويعودوا إلى رشدهم إذا ما شعروا بالخطر المحدق بشريان حياتهم.

خسر النهر الخالد الرهان كما خسر رهانه عندما لم ننتبه للخطر القادم من منابعه، عندما مر الحديث عن بناء السد الإثيوبى مرور الكرام.. عندما لم نأخذ حذرنا ولم نستعد بما يليق لمواجهة الخطر، عندما تسرعنا فى توقيع اتفاقية المباديء ولم نتمهل لنضع الشروط ونحدد الالتزامات ونشدد على حماية الحقوق ونتأكد من ضمانها ونستبعد أي محاولة للاختراق أو التسويف أو الاستغلال تضعف موقفنا وتقربنا من خطر محدق.

للأسف يبدو أننا لم نفعل، ففتحنا الباب على مصراعيه لإثيوبيا تدعو للاستثمار وتعقد الصفقات وتشرع فى البناء تحت سمع وبصر وموافقة الجميع ملوحة باتفاقية تزعم فيها شرعية ما تقوم به ومباركة ورضا دول المصب فى بناء وملء سد نهضتها الكارثي.

بدأ الخطر أكبر من تداركه بالتجاهل والصمت، فكان التحرك واجبا وإن ظل ضعيفا لا يتناسب مع الخطر المحدق المهدد لشريان حياة المصريين.

عشرسنوات من المفاوضات المستفزة، لم يلن فيها التعنت الإثيوبى قدر أنملة بل ازداد تبجحا وقوة وسفورا، وبدا فيها الموقف المصرى أقل نجاحا وقوة وتأثيرا.

لم ننجح فى استقطاب القوى الكبرى، وبدأ الميل واضحا للخصم، تواطؤ أم تآمر أم مصالح، مهما كان السبب تبقى مسئولية تبعاته معلقة فى إدارتنا لتلك القضية ومدى نجاحنا فى ترتيب أوراقنا وتعاملنا مع خطورة ملف السد الإثيوبى الخطير.

للأسف بدا واضحا أننا لم نحسن التعامل، ولم ننجح فى إدارة الأزمة وظل البطء والهدوء المميت واللهجة الناعمة وحبال الصبر الممتد فى غير موضعه كلها تخصم من قوة موقفنا وتقلل من فرصتنا للنجاح فى اجتياز الخطر.

سنوات عشر يضع كل مصري يده على قلبه آملا فى وضع حد للأزمة متمنيا اجتياز الخطر والمحنة.. لم تشفع حبال الدبلوماسية الطويل وصبرها اللامحدود فى طمأنة القلوب الخائفة، بدا الخطر أقرب، والحصار أحكم.. مابين حل دبلوماسى لاتبدو له مؤشرات فى الأفق وبين طبول حرب لا تبدو لها إرهاصات وبدت لاتقل صعوبة وخطورة أمام إشارات تحذير من قوى دولية تعلن بلا مواربة رفضها لأى تحرك عسكرى للأزمة.

لكن متى كان قرار الحرب يحظى بقبول الجميع.. ومتى كان حماية الحقوق والأمن والوجود يتطلب تصريحا من أى قوة مهما بلغت سطوتها ونفوذها.

الحرب ليست نزهة.. ندرك ذلك، وقرار الحرب لا يفرضه العامة.. نسلم بذلك أيضا، لكن يظل القلق وكذلك الخوف مشروعا فى قلب كل مصرى غيور، وتظل الحاجة لخطاب مطمئن، يبث الثقة.. يشيع الأمل.. يشير لنقطة ضوء فى نهاية نفقنا المظلم.

نيلنا العظيم فى خطر فكيف لانقلق، شريان حياتنا مهدد فكيف نطمئن، أرضنا يتربص بها البور والخراب فكيف لانفزع.

غاضبون وكذلك نهرنا الخالد، وإن كان وراء صمته المكتوم غضب أكبر.. يحتاج منا لقربان نجدد فيه عهدنا بالوفاء، لايكفى يوم عيد له، لم يعد يبهجه احتفالنا به منتصف أغسطس من كل عام.. لا يليق الاحتفال وقت الشدة والخطر، لن تسعده عروس جميلة، حقيقية كانت أم دمية، تتلقفها أحضانه فلا يحرمنا من فيضانه، انتهى زمن الأساطير، وأصبحنا فى زمن أكثر شراسة لامكان فيه للضعيف.

لم نعدم وسائل قوتنا بعد، فما زال لدينا الكثير من أوراق الضغط إذا أحسننا استغلالها.. اللعب على المصالح المشتركة والتهديد بالخسائر المحتملة والتلويح بالخطر الذى يمكن أن ينال من تلك المصالح ويزيد من تلك الخسائر، كلها أمور يمكن أن تزيد من قوة موقفنا وتدعم قضيتنا وتجبر الآخرين على الإنصات لخطابنا وقبول دوافع إحساسنا بالخطر والتضامن لحمايتنا من تلك الأخطار.

نحتاج لخطاب أكثر خشونة وضوءا أحمر أكثر توهجا وإنذارات خطر أكثر دويا.. فالخطر أكبر من أن نتابعه بصوت خافت وضوء شارد وخطاب هادئ ميت.

مازال الأمل قائما أن نتدارك نقاط ضعفنا، ونلعب على مواطن قوتنا، نستعيد مهارتنا فى الدفاع عن حقوقنا أمام الساحات الدولية وقدرتنا على التفاوض واللعب بكل أوراق القوة التى نملكها، فقط نحتاج للإرادة فبغيرها لن نكسب قضيتنا مهما كانت عدالتها ويقيننا فى نزاهتها.

لم يفت الأوان بعد، ونيلنا العظيم يستحق أن نفعل المستحيل من أجل ضمان حقوقنا فيه.
-------------------
بقلم: هالة فؤاد

 

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | إنسانية اللا عرب





اعلان