13 - 10 - 2024

مفيش رقم بيرد| محسن محمد سجنته المظاهرة وحررته القصيدة

مفيش رقم بيرد| محسن محمد سجنته المظاهرة وحررته القصيدة

** الشعر إبن السجن أحيانا  لكنه حر دائما

*كتبت قصائدي على جدران ستة سجون

*التجربة أم المعرفة وقد  عرفت معنى الزمن والوجود في الزنزانة

* للسجن فضل كبير في تجربتي ووعيي بالعالم

ودع حيطان السجن والقضبان

ودع صحاب آخر سمر،

قسمتوا فيه نور القمر على بعض

كان القمر يقابلكوا صدفة في السما حيران،

وحيد، وبيرتعش فتونسه،

وتدفي نوره ف سترتك،

ودع شبابيك من سلكها ماتفوت إيديك،

لكن يفوت منها الندى في الصبح

ينشد بسمتك

ودع غريب هتحن له

ودع حبيب اشتقت له،

من قبل ماتسيبه

شوف لما تخرج للحياة

في الشمس كام نجم

وسط الليل في السجن هيغيبوا

ودع صحابك وافتكر إن إنتا لو خارج

.. في ناس هنا، لم ينسوا أبدًا من مشَى

لسه زمايل حبستك

متجمعين ع البرش بعد العشا

بيدردشوا ويجيبوا سيرتك.

"من قصيدة ع البرش بعد العشا"

----------------

الشعر حر وملاذ للأحرار، عندما يقبعون خلف قضبان زنزانة، إذ يفتح لهم الفضاء من نافذة ضيقة ويمدهم بما يريد الشعر من خلوة وسط الضجيج.  قال الشاعر محمد عفيفي مطر يوما: أعوذ بالشعر من الجنون، وربما قال محسن محمد  وهو في غيابات السجون أعوذ بالشعر من الصمت والجنون.

والشعر ابن التجربة لكنه ليس تصويرا توثيقيا  لما جرى من وقائع الاعتقال في المنصورة، واللف علي سجون كثيرة قبل المحاكمة،  بل هو تحنيط دقيق للزمن بملح الكلام، وإعلان حرب هادئة ضد الصمت والخوف.

وقد خاض الشاعر الشاب محسن محمد التجربتين معا في زنزانة انفرادية حينا وفي زنزانة مشتركة أحيانا، فخرج من المعتقل وقد عمدته التجربة الأولى، "تجربة السجن"، شاعرا، ليبدأ التجربة الثانية وهي الشعر حرا كما ينبغي لقصيدة،  ويمزج بينهما في  عامية فصيحة لا تشبه شكاوى الفلاح الفصيح، لأنها تجاوزت  المعني القديم للشكوى إلى معنى حديث يسمونه في الميادين  الاحتجاج والرفض. هذه محاورة على هامش تجربتين وربما في القلب منهما...  

* ما هي قصة ديوان مفيش رقم بيرد؟ وكيف عاش معك السجن وكيف خرج؟

"يمكنني القول أن قصائد ديوان "مفيش رقم بيرد"كانت ترافقني قبل أن تتشكل، في الشهور الأولى من فترة حبسي، على صورة أسئلة ومفارقات واستعجابات لأشخاص ودنيا الحبس المليئة بالغرائبيات الإنسانية والاجتماعية.

وكيف كتبت  القصائد داخل المعتقل؟

كنت أكتب القصيدة أحيانا بدون ورقة وقلم في الزنزانة الإنفرادية، حيث كنت كمن ينقش شيئا في عقله ويحفظه عن ظهر قلب. وعادة ما كنت أكتب القصائد في خلوتي الليلية على فراشي، بينما  يكون معظم رفاق الزنزانة نائمين. وكتب بعض القصائد  أيضا على كف يدي بقلم جاف في عربة الترحيلات.

* هل أنقذك الشعر من القيد؟ أم أنه صار عبئا إضافيا عليك؟

بالفعل  كان الشعر منقذا لي، ومنفذا إلى الحرية في عالم لا يوجد به نوافذ حقيقة إلا المخيلة -إذا جاز قول ذلك.

كتابة الشعر كانت ابتغاء سبيل بين العزلة والمشاركة الإجتماعية في السجن. كنت أتسامر مع رفاق العنبر والزنزانة وأشاركهم  الطعام واللعب والنقاش، ثم  بعد أجلس  بعد ذلك  وحيدا على فراشي، منقطعا عما حولي ومن حولي وأبدأ في كتابة القصيدة.

* وما هي قصة الاعتقال وأين  تم؟وهل زرت سجونا كثيره ؟

وقع اعتقالي في  في جامعة المنصورة، وكنت وقتها طالبا في الفرقة الأولى بكلية التجارة، وعقب انتهاء مظاهرة، لم أكن مشاركا فيها، تصادف مروري إلى جوار شرطي بلباس مدني يضرب فتاة لا أعرفها بعنف. حاولت التدخل لمنعه من ضربها فتم القبض علي. وعلى مدى  خمس سنوات زرت أماكن كثيرة. حوالي ستة سجون غير المراكز والأقسام. و كنت أثناء ترحالي من سجن إلي آخر أنظر خلفي إلى القصائد التي كتبت في ذلك السجن، وأستشعر الرضا لأنني تركت جزءا مني هناك يؤكد حريتي . كنت أربط بطريقة ما بين الزنازين التي أدخلها والقصائد التي كتبت فيها.

* ولماذا ركزت ديوانك علي البشر أكثر من المكان؟

ركزت ديواني على البشر أكثر من المكان لأنني أؤمن  بضرورة أنسنة التجربة، حتي ولو كانت هذه التجربة  في السجن..  وأن ما كان من المهم بالنسبة لي هو تفاعل الأشخاص مع المكان. كيف دخلوا ولماذا؟ وكيف يعيشون ويتأقلمون أو لايتأقلمون مع"الزمن" في السجن.

وربما كان ذلك احتماء من  سطوة الصمت أيضا... سأذكر قصة سريعة كانت تحمل رمزية شديدة بالنسبة لي:

أحد الأشخاص في ليلة شتاء قاسية كان يقف على "نضارة" الباب يدخن سيجارة، وهو المكان المسموح للمدخن به في أغلب الزنازين السياسية. وكان هذا الشخص حاد الطباع مفتعلاً للمشاكل بصورة شبه يومية، وأثناء تدخينه كان يرتدي حذاء بلاستيكيا مغلقاً من أعلى القدم، "كروكساً وحيداً" ويقبع دائما أمام باب الزنزانة، وقفت بعده أدخن في  المكان نفسه، فشعرت بالبرد يتخلل جميع أجزاء جسدي ماعدا قدمي. نعم هروبنا إلى البشر والأشخاص هو احتماء من البرد والخوف والصمت.

* في القصائد ثمة تاثيرات لفؤاد حداد  ولغة صلاح جاهين، خاصة في اللعب بموسيقى وصوتيات بالالفاظ القريبة من بعضها وتوظيف الصوت اللغوي في الكتابة؟

- نعم هناك بالفعل تأثيرات للشاعرين فؤاد حداد وصلاح جاهين في قصيدتي. وهناك تأثيرات لغيرهما. ثمة  أصوات خفية لآبائنا الشعراء كأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وفؤاد قاعود، كما لاحظ ذلك الشاعر إبراهيم داوود، عندما قدم الديوان في ندوة ثقافية فقال: "أرى هذه العلاقة طبيعية بمرحلتيها: مرحلة التأثر بالإرث الذي خلفه الأباء العظماء في شعر العامية، ومرحلة المحاولات المستميتة للتخلص منه. إن هذا الإرث يشكل تحدياً لأي شاعر شاب يحاول البحث عن صوته الخاص. وأنا لا زلت في بداية الطريق وأبحث  عن صوتي الخاص، لكن هذا الصوت يمكن تلمسه في الديوان رغم ما تقوله عن تأثر بالكبار هنا وهناك لأن الديوان تجربة خاصة بي.

* تكتب عن تجربة عشتها  لكن هاجسا معرفيا كان وراء بعض القصائد، وثمة موقف من الوجود والزمن في القصيدة؟

بين كتابة التجربة والهاجس المعرفي، الذي يكمن وراء بعض القصائد صلة رحم لاتنفصم. فالتجربة أم المعرفة. أدركت موقفي من الزمن والوجود في السجن.

وفيما يخص الزمن ،عندما تمكث أسبوعاً كاملاً في زنزانة انفرادية، فإن هذا الأسبوع لايتساوي بأي حال مع الأسبوع الذي تقضيه وسط زملائك في الزنزانة الكبيرة. وكل أسبوع منهما لايتساوي مع الأسبوع نفسه إذا قضيته خارج السجن. سجلت يومياً في كراسة السجن أفكاراً عن جريان الزمن في المكان، وكيف تختلف معاييره باختلاف الحركة والأحداث وإدراكاتنا الحسية له، وكان ذلك من خلال تأمل التجربة التي مررت بها.

كنا هناك

نفس الوشوش بالظبط في مظاهرات زمان

مع فارق التجاعيد

ودار الحوار في القهوة كالتالي:

إيه رأيكم ياخونا في الجيل الجديد؟

قال الكبير في القعدة: جيل طايش

قال الثري: عاطل

قال الحكيم جدًا: الجيل دا مش عاقل..

في موروثات من جيل لجيل حتمًا بتتناقل

تبدأ مع أول هتاف

حتى الهزيمة في آخر السكة

* لأصدقاء السجن حضور كبير في الديوان ما هي قصة صديقك فوزي الذي أفردت له قصيدة؟

اعتبر أصدقاء شعر السجن كل الذين كانوا يحبون الشعر، ويستمعون إليه ويتغنون به. وهؤلاء كانوا كثيرون. أما الذين كانوا يكتبونه فقليلون. كان من بينهم "فوزي" شاعر الفصحى الذي كتب ديواناً جميلاً في السجن بعنوان"الرقيم", وتم نشره خارج مصر أثناء فترة اعتقاله. وقد تم اعتقالي أنا وفوزي في  الشهر نفسه، (مارس) من العام 2014 ، في  قضيتين مختلفتين، وقد حكم علي بخمسة أعوام،  وحكم عليه هو بخمسة وعشرين عاماً. فكتبت له في إحدى الليالي هذه القصيدة أسأله إذا كنا متساووين حتى هذه اللحظة في الأعوام التي انقضت، فهل نتساوى في الأعوام التي تنتظرنا في هذا المكان؟

"صاحبي وهو صحيح أنا زيكم

إزاي؟

وعلى افتراض إننا متكلبشين في كلبش واحد

هل نستوي في اللي انقضى؟

والجاي؟"

تساوينا حقاً فيما انقضى ولكن "الجاي" كان على العكس  من التوقعات، إذ طعن محمد فوزي في الحكم وحصل على البراءة بعدما قضى ثلاثة أعوام ونصف العام  في السجن واستكملت أنا الخمس سنوات التي حكم علي بها.

* وما هي قصة قصيدة "مصائر" ولماذا كتبتها بالفصحى،  ولماذا لم تضمها للديوان؟

قصيدة مصائر كتبتها في سجن وادي النطرون في العام 2017 ضمن قصائد أخرى باللغة الفصحى. لم أضمها إلى الديوان على الرغم  من تشابهها مع  قضايا ومواقف الديوان، لأنني ارتايتُ أنه من الأفضل نشر ديواني الأول باللغة العامية فقط. وربما جمعت بعد ذلك قصائد الفصحى التي كتبت عن السجن في ديوان آخر بالفصحى.

وأنا لا أفرق في الواقع بين الفصحى والعامية في الإبداع الشعري، وأدخل عادة على قصيدة العامية مفردات وألفاظاً فصيحة، ولا أعتقد أن هناك مشكلة في استخدام مفردات عامية في قصيدة الفصحى، المهم أن تكون مشاعر القصيدة حقيقة، ويكون المزج بين اللغتين سلساً.

*   كيف تم نشر الديوان وما هو إحساسك عندما رفضت المرايا النشر في المرة الأولى؟

لم  أكن أعلم  أن ديواني تم عرضه للنشر لدى دار المرايا وتم قبوله، ولذلك لم أعرف بقصة الرفض في البداية. وكان سبب الرفض الأول ،كما عرفت بعد ذلك، أن الدار لم يكن من أولوياتها نشر الإبداع  الشعري، ولم يكن لهم سوى تجربتين سابقتين في نشر الشعر. لكن  الناشرة الأستاذة "دينا قابيل" أرسلت الديوان إلى بعض أصدقائها المهتمين بالشعر فأعجبهم ونصحوها بالنشر.

*هل كتبت لسجانك  البسيط في العنابر  أم  أنك كتبت عن السجان الأكبر؟

نعم كتبت لسجاني البسيط. وأعتقد أن الكتابة المباشرة عنه أبلغ تعبير عن السجان الأكبر. وقريبا من هذا المعنى كتب الأستاذ إبراهيم أصلان عن صلة المسائل الصغيرة بالمسائل الكبيرة المباشرة، وقال "أن ارتجافة خوف تعتري إنسانا من لحم ودم لمجرد مروره امام قسم شرطة لهي اختزال لتاريخ كامل من المهانة والقهر".

* بعض القصائد وقع  في المباشرة الحادة وبعضها اتكأ على غلالة رمزية شفافة. هل تستجيب  لموضوع القصيدة في صياغتها وإيقاعها؟

-هذه كان تجربتي الأولى في الإبداع الشعري والحقيقة  "كل شاعر يدخل حقل العامية هو حقيقة في ورطة".. كنت أحاول الهروب من الورطة بالتغيير وتجريب أساليب وطرق مختلفة نوعا ما بين القصائد، لذلك جاءت بعض القصائد مباشرة حادة وبعضها اتكأ على غلالة شفافة، وأعتقد انني في التجربة القادمه سأتخلص من المباشرة.

*  لكن هل تشعر بإنسانيتك في الخارج كما عشتها رغم القيد في السجن؟

-نعم أشعر بإنسانيتي في الخارج وأذكر نفسي دائما بما كنت أشعر بنبله في السجن، ولا أريد افتقاد شيء مما اكتسبته هناك. وفي النهاية أود أن أقول حقيقة مفارقة، أن للسجن فضل كبير في تكوين ذاتي وتشكيل أفكاري.

الضلمة جوا أشدَ

الدنيا وقتَ ما ليلتْ أنا قمتُ قدتَ النجفُ

ما اعرفشْ إيهْ اختلفَ

في الضلمة برهُ البيتُ

لكني فجأةِ لقيتْ

العتمةُ جوا أشدَ منْ عتمةِ الشارعِ

أنا كنتُ راجع يومها متأخرٍ

بعدٍ أما هما اتفرقوا تلاتاتْ

كانَ فيهِ حاجاتُ فيا بتتبعترْ

ما اعرفشْ ليهُ في لليلةِ دي بالذاتِ

كانَ فيهِ حاجاتٌ جوايا بتغمقْ

كانَ شرطٌ نتفرقُ عشانِ تظهرُ

كانَ شرطُ ارجعْ يومها متأخرٌ

ارمي السلامَ على أبويا ما يردشْ

كانَ شرطٌ أبكي بحرقةِ ومحدشْ

يفتحلي حضنهُ اختلسَ ضمهُ

كانَ شرطٌ تبقى ميتةً.

-----------

حوار - محمد حربي