قِفْ نادِ بغداد واستمطر ما فيها.. واسكبْ دموع الأسى مِن عين باكيها.. قفْ صوب بغداد وانشد رسم قافية.. كانت قديمًا بها أحلى قوافيها*.
عندنا فقط "نحن العرب" التاريخ لا يمل نفسه مِن التكرار، فبالأمس ودّعنا الأندلس، واليوم نرثي العراق وبغدادا، وغدًا يكون الشّام، جمَع اليهود شتاتهم، ووطني اليوم كله بين مهاجر ومشرد وأشتات.. قد قالها "مارتن لوثر": "لن يمتطيك أحد إلا إذا وجدك محنيًّا"، أجبناه على لسان "مالك بن نبي": "لدينا القابلية للاستعمار".. في وطن نسير فيه على خطى الخائن "العلقمي"؛ حين دعا الأعداء لتدمير بغداد؛ فتكالب عليها التّتار والمغول والطّاعون، وها نحن الأن أشد منهم قسوة.
قد آنت لحظة وداع "شهرزاد" ولياليها الألف، وليغرق "السندباد" في بحوره، ولنُطفئ مصباح "علاء الدين"، ولنترك "علي بابا" للصوصه الأربعين، ولنَمْح شريعة "حمورابي"، ولنتهم "ابن المقفع" بالجهل لأنه ترجم "كليلة ودمنة"، ولننسى "عشتار" و"إيوان كسرى"، ولنهدم آثار "بابل" بعد أن قتلنا حدائقها عطشًا، ولنغلق المدرسة "المستنصرية" كي نزور تاريخًا كعادتنا المحببة، ولنشطب حضارات "السومارية"؛ و"البابلية"؛ الأشورية"؛ و"اليونانية"؛ و"الرومانية"؛ و"الفارسية"؛ و"الإسلامية"، ولندّعِ أنّا جَهِلنا أول حروفنا المكتوبة.
لنحرق خرائط رسمت بلاد: الفضْل والعدالة والخلافة والفقه والحكمة والهندسة، ولنحرق كل ذلك ولو بآخر برميل نفط عراقي على طريقة: "بيدي لا بيد عمرو".. المهم أن نواصل فِعْل الخيانة؛ تلك البئر العميقة التي أقبع"دانتي" في قعرها شيطانًا ذا رؤوس ثلاثة تلتهم بها الخائنين في "الكوميديا الإلهية".
بكيتُ بغداد وأسفي لما فيها.. قد أوغل الغدر حطم كل ما فيها.. بكيتُ بغداد تاريخًا أُقدِّسه.. مِن الرّشيد إلى المنصور بانيها.. كانت منارًا لكل الناس شامخةً.. واليوم أمستْ غراب البين ينعيها.. باعوك بغداد بئس السّعر ما خجلوا.. وكيف يخجل مَن لا أصل له فيها.. قد تعاموا عن التّاريخ ما حسبوا.. أنّ الخيانة عار من يدانيها.**
بغداد الأسطورة والخيال، هل نرثي جعفرًا بانيها أم هارون حاميها؟ نبكي زبيدة؟ أم ترى عيونها في الحجاز تبكينا؟ نواسي المتنبي؛ والفرزدق؛ وأبا نواس؛ والبياتي؛ أم نترك نازك الملائكة؛ ومطر؛ والسّياب يهيمون في كل وادٍ؟ نُسكتُ لسان الخليل الفراهيدي أم نتهم ضمير أبو يوسف القاضي؟ ننسفُ اكتشافات المسعودي أم نُسفّه تراجم ابن حيان واليعقوبي؟ نتهم حُنينًا والقفطي في ولائهما للفلسفة؟ أم ندين زرياب بالفسق والزّندقة؟ أقول لكم الأفضل: أن نشدَّ على يد "شارلمان" ملك الفرنجة مهنئين مباركين محاولته -فقط- كتابة اسمه! في وقت كان الرّشيد هارون والمأمون يبحران في فلسفة الفرس والإغريق!
عيناك يا بغداد منذ طفولتي شمسان نائمتان في أهداب.. لا تُنكري وجهي فأنت حبيبتي وورود مائدتي وكأس شرابي.. بغداد عشتُ الحسن في ألوانه لكن حُسنك لم يكن بحسابي.. ماذا سأكتب عنك يا فيروزتي فهواكِ لا يكفيه ألْف كتاب***
لم تعد بغداد أُمًّا للعواصم ولا دارًا للسّلام، اتشحتْ ثيابها بلون ظلام لياليها، استوحشتْ بانيها، واغتيل باسم الدّين كل جميل فيها، الأرامل جفّت مآقيها، واليتامى أحنتْ نواصيها، وارتعشتْ البيوت، وتلونت شوارعها بدم شاهديها.
تجاورتْ جثث أبي بكر وعمر والحسين فلم نعد نعلم مِن أي الفريقين فيها، انهمرتْ الدموع، وانتحبت الثكالى فلم تستطع القبور غلق فِيها، اليوم نرثي بلاد الياقوت؛ واللازورد؛ والعسل؛ والذّهب؛ واللؤلؤ؛ والحرير؛ والعطور؛ والتمور بل ورقيق أوروبا البنات السّبايا البيض، نرثي بلاد الانتصارات وشعلة العرب الثّقافية وحاضرتهم، بلاد الحكمة والموسيقى والفلسفة والتّرجمة.
الموت يتجول بوجهه القبيح في أزقتها حتى أضحتْ خوفًا للآمنين، أنهارها حزينة، وشوارعها بالخوف مسكونة بعد أن كانت حضنًا دفيئًا للتعايش الدّيني والمذهبي والعِرقي!
مَن أسكنْ الشاعر الولهان موطنه.. بغداد أنتِ نجوم الليل والظلم.. بغداد أنتِ شفاء العين مِن رمد.. بغداد أنتِ لقاء الله بالأمم.. طُردتُ منكِ لكن لا أودعك.. بغداد أنتِ انبراء الرّوح من السّقم.****
-----------------------
بقلم: حورية عبيدة
الشّعراء:
* الديلمي
** حمد حجي
* نزار قباني
** المتنبي