25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (43) المعجزات الوهمية وسلطة الإكليروس وتجديد الفكر الديني

شاهد على العصر (43) المعجزات الوهمية وسلطة الإكليروس وتجديد الفكر الديني

عندما تم طرح الدعوة لتصحيح الخطاب الدينى من جانب الرئيس السيسى فى أحد الاحتفالات بالمولد النبوى الشريف، كان المقصود بهذا الخطاب الدينى الاسلامى وفقط ، هذه كانت وجهة نظرى التى سُجلت منذ البداية فى المقالات والبرامج التلفزيونية، وقلت أن المقصود والأصح هو الفكر الدينى وليس الخطاب الدينى. ولكن طرح تعبير الخطاب بدلا من الفكر تخفيفا  على الأسماع التى تأثرت كثيرا بالموروث دون فحص. 

الفكر وليس الخطاب لأن الخطاب هو تلك الوسائل وكل أساليبها التى تحمل الفكر وتنقله إلى المتلقى سواء كان هذا عن طريق دور العبادة أو الوسائل الأخرى، أما الفكر الدينى فهو فكر البشر فى فهم وتفسير النص الدينى . وهنا يحدث الاختلاف حيث أن القاعدة هى (ثبات المنطوق وتغير المفهوم). 

والشئ الآخر هو أن الفكر الدينى هو الاجتهاد البشرى فى تفسير النصوص الدينية بكل مسمياتها، بذلك يصبح المقصود هو الفكر الدينى الاسلامى والمسيحى.. لماذا؟ لأن الفكر الدينى يساهم فى تشكيل الوعى الفردى والجمعى للمتدين (مسلما كان أو مسيحيا)، وهذا يعنى أن الوعى لايقتصر دوره على الجانب الدينى بين المتدينين فى الدين الواحد، ولكن لابد له من تأثير مباشر فى وعى المواطن المصرى بشكل عام (أيا كان الدين). 

فالتعامل اليومى والحياتي تعامل بشر تأثر فكرهم ونضج وعيهم على هذا الفكر الذى تلقوه فى إطار تفسير هذا الدين. فمثلا لو كان هذا الفكر يرفض الآخر ويعلى الخرافة ويعتمد على الأساطير، هنا تكون معاملات المواطن الذى تقولب فى هذا الإطار لا تخرج عن هذه الأشياء السلبية التى لا توجد أي توحد وطنى ولا تخلق قاعدة تفكير علمى تساهم فى بناء وتقدم ورفعة الوطن. لذا يصبح تصحيح الفكر الدينى مطلبا وطنيا واجتماعيا لكل المصريين على اختلاف أديانهم. 

على هذه الأرضية نطرح اليوم قضية المعجزات وهى قضية تسيطر على أغلب المسيحيين، باعتبار أن الانجيل المقدس وردت فيه كثير من المعجزات التى قام بها السيد المسيح. 

فما هى المعجزة؟

المعجزة هى حدث غير متوقع يعزى إلى تدخل إلهي، أو فى بعض الأحيان يعزى أيضا إلى قديس ما أو زعيم دينى ويعتقد بعض الأحيان أن المعجزة هى قطع واضح وشرخ يحدث لقوانين الطبيعة، ويخرج البعض الآخر أن الله يعمل مع قوانين الطبيعة لإحداث ما يعتبره الناس معجزة. 

أي أنها أمر خارق للعادة لا يتكرر بنفس الصورة وذلك الأداء وإلا أصبح أمرا عاديا وليس معجزة. 

المعجزات الانجيلة كان لها هدف مهم وهو الاعلان عن السيد المسيح وقدرته على إحداث هذه المعجزات، كما أنها لم تكن للرواية فقط ولكن كانت  للتعليم وهذا هو الأهم، أي كان لها هدف تبشيرى وتعليمي وظلت معجزة لأنها لا تداوم على التكرار بنفس الصورة. 

وهناك معجزات إلهية تفوق كل خيال وتتجاوز كل علم، منها الإنسان ذاته، فى تكوينه ودور القلب ومهمة المخ وعمليات الأكل والإخراج والنمو والكبر والشيخوخة .. كل هذا يمثل معجزة بكل المقاييس، ولكن لتكرار هذا أصبح شيئا عاديا لا يشعر بإعجازه الكثيرون. فهل هناك علاقة بين الفكر الدينى وبين الحديث عن المعجزات؟ 

هناك بالفعل علاقة وثيقة ومتجذرة بين هذا وذاك، فهناك فكر دينى موروث كانت له ظروفه وملابساته ومبرراته التى تخص زمانه ومكانه، فمثلا في عصور الاضطهاد الدينى الرومانى وغير الرومانى للمسيحيين المصريين، وعندما كانوا يهربون إلى الجبال ويصلون صلواتهم تحت الأرض، كان لابد لهؤلاء أن يتمسكواويبدعوا بل يختلقوا ما يقوى إيمانهم وما يجعلهم صابرين ومتصدين لهذا الاضطهاد. فما كانوا يملكون غير الحديث والايحاء بوجود معجزات تجعلهم يتأكدون أن الله معهم فى هذا ولا يتركهم. كما أن الإيمان بوجود المعجزات معهم كان يعطيهم الاحساس بالتمايز الدينى ضد من يضطهدهم. 

ظل هذا الفكر الدينى له التأثير المباشر على الجمع المسيحى (الأرثوذكسي والكاثوليكى)، وذلك لأن هذه الكنائس يوجد بها إكليروس (رجال دين) . وكان هذا الاكليروس يتمتع بقداسة تصل إلى حد العصمة من الخطأ، وهذا يعنى أن كل مايقولونه مقدس وغير قابل للنقاش ومن يرفض أو يناقش فهو مهرطق (كافر). كان هذا الارتباط بالإكليروس وتوريث قداستهم وكل ما يقولون له علاقة بالاستمرار فى ترسيخ وتكريس هذا الفكر الدينى الخاطيء. كما أن الحديث والإيمان بأى شىء أنه معجزة فهذا يزيد الارتباط بالمؤسسة الدينية ويعمق قداسة الإكليروس، تلك القداسة التى يحاولون الحفاظ عليها بلا شك!!! 

وعندما تناقش فى ادعاءات المعجزات التى ليست بمعجزات يقولون اترك البشر (فكل واحد حسب إيمانه)، وهذه متاجرة وفهم خاطئ للإيمان، فالإيمان له قواعده وحدوده ومقاصده وإلا تحول الايمان الخاص والخاطيء إلى خطر حقيقى على اى دين، والغريب أن رجال الدين هؤلاء، الذين يتركون الفرصة لهذا الايمان الخاص، هم أنفسهم الذين يصرون أن يكونوا أوصياء على إيمان البشر بل سلوكياتهم واختياراتهم!!! 

كما أن الترويج لهذه المعجزات وادعاء حدوثها أصبح باب رزق للكنائس ولرجال الدين. هنا نضرب مثلا: هناك قسيس توفى فى أسقفية طما، فانتشرت شائعات وتقولات أن قبر هذا القسيس والرمال المحيطة به تشفى المرضى!!! والغريب أن أسقف هذا الأسقفية كان خريج علوم قسم جيولوجيا، أي أنه من المفروض أن يدرك التفكير العلمى ويتمسك به ولكنها المكاسب والتجارة. فكان الزائرون وطالبو المعجزات من الرمال يتدفقون على مدار الساعة ويغدقون الأموال على الأسقف والأسقفية. فهل عندما يشرب مريض الكلى ماء بهذا الرمل يشفى؟!! هذه مثال المعجزات الخرقاء التى لا علاقة لها بالدين أو الإيمان، ولكنها المتاجرة والحفاظ على قداسة مصنوعة. 

وهناك أمثلة شعبوية وهى أن يعلن الفرد أن صورة السيدة العذراء لديه ينزل منها الزيت! تصورا منه أن السيدة العذراء قد خصته بقداستها دون غيره، وبالطبع لا هناك زيت ولا سكر ولكنه الفكر الدينى الموروث والخاطيء. 

ولتأكيد أن هناك اتجار بهذه المعجزات المزعومة، نورد رفض بعض الأساقفة لتلك المعجزات بل يرفضون أن يظل هذا الفكر الخاطيء مسيطرا على العقل الجمعى المسيحى. 

فى تسعينات القرن الماضى ظهرت شائعة أن الانبا كيرلس السادس قد ظهر في صورة لإحدى المريضات على أحد الشبابيك فى مستشفى سانت ماريا التابعة للدير المحرق بمركز القوصية، وهذا اعتبروه معجزة. بالطبع لا توجد صورة ظهرت ولكن هناك تخيل وتصور وتوهم أنه هناك صورة للأنبا كيرلس (المقصود بيان قداسة الانبا كيرلس)، فنقلوا الشباك إلى فناء الدير المحرق وأحاطوه ببناء حتى يتحول إلى مزار!! تدفقت الجماهير لنوال البركة من الشباك وبالطبع للتبرع للدير.

 ذهبت وقتها إلى المتنيح الأنبا ساويرس أسقف ورئيس الدير المحرق. تناقشنا فقال: هذه خرافات وليست معجزات، فقلت له: لماذا لاتعلن عن ذلك؟ قال لو اعلنت عن ذلك يقوم الرهبان بثورة ضدى لأنهم يريدون إثبات قداسة الدير بل قداسة المستشفى الخاص بالدير ولا مانع من الاستفادة المادية، ففى خلال اسبوع واحد تم جمع مائة  وعشرة آلاف جنيه من الـ...!! 

هناك مثل آخر، أسقف الرملة (طما) كان قد مرض فى آخر أيامه، فذهب إلى بريطانيا للعلاج، فقام بزيارته الأنبا بيمن أسقف نقادة - وكان لا يؤمن بمثل هذه الخرافات - وقال لأسقف طما: (ياسيدنا طالما لديك فى الإبراشية تلك الرمال التى تشفى المرضى، فلماذا لا تعتمد على هذه الرمال وتأتى إلى بريطانيا)؟

فى هذا السياق لابد أن نذكر أن الكنيسة الأرثوذكسية القبطية لاتؤمن بالمعجزات، إلا بعد تشكيل لجنة مجمعية بها خبراء فى كافة العلوم الدينية وغير الدينية مع البحث والتقصى والتأكد إذا كانت هذه معجزة من عدمه. 

وهذا يعنى أن لا يجب  تصديق كل من توهم أو اخترع معجزة، فالمؤمن الحقيقى لا يحتاج الآن إلى مثل هذه المعجزات إلا إذا كان إيمانه ضعيفا. كما أن هذا الفكر الذى يعتمد على الخرافة والأساطير لا يمكن أن يعرف طريق العلم والتقدم الذى نحن فى أشد الاحتياج إليه فى ظل هذه الظروف الصعبة، لأن باب الإيمان والعلم غير ذلك الباب. كما أن العلم الذى خص به الله الإنسان قد أصبح الآن هو صانع المعجزات، فالقلب يستبدل والبصر يعود.. وذلك بفضل العقل والعلم الذى وهبهما الله للإنسان وهذا يعنى أن الإنسان هو معجزة الله فى هذا الكون، سبحان خالق هذا الكون العظيم ومسيره بالقوانين وليس بالمعجزات.
-------------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان