25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (42) الرهبنة المفترى عليها والأديرة المتحولة إلى موت في الدنيا

شاهد على العصر (42) الرهبنة المفترى عليها والأديرة المتحولة إلى موت في الدنيا

الدين هو النص الدينى الثابت الذى لا يتغير ويؤمن كل المؤمنين به ، أما الفكر الدينى فهو فكر البشر ومعتنقى الاديان واجتهاداتهم وتفسيراتهم وتاويلهم للنص الدينى . فإذا كان النص الدينى ثابتا ومقدسا، فالفكر الدينى البشرى ناقص وغير مقدس. ولذا فإن الفكر الدينى لايخص دينا معينا ولكنه يخص كل الاديان والعقائد السماوية وغير السماوية. 

ونتيجة لهذا الفكر الدينى وبالرغم من وحدانية النص، نجد تحول الدين الواحد بنصه الثابت إلى تعددية طائفية شملت كل الأديان، وهذه التعددية نتيجة لهذا الفكر غير المقدس أدت إلى صراع لدرجة التقاتل بين الطوائف أصحاب الدين الواحد. 

هذه المقدمة كان لابد منها فى إطار مناقشتنا لقضية الرهبنة والأديرة، فهذه القضية كنت أثرتها فى عديد من المقالات بالصحف والمجلات، غير البرامج التلفزيونية منذ تسعينيات القرن الماضى. 

الرهبنة هى اختيار شخصى وذاتى لمن يستحسن الحياة الرهبانية، خاصة أن هناك من استخلص الفكرة من تفسير ومن فكر دينى لبعض النصوص الإنجيلية غير الملزمة للآخر، والتى لا تعتبر قاعدة دينية عقيدية مسيحية. وإلا كانت الرهبنة فرضا على كل مسيحى ولكنها اختيار ذاتى بعيدا عن جوهر المسيحية. فالأنبا انطونيوس مؤسس الرهبنة كان قد اختار لنفسه حياة يعيشها بطريقته الخاصة بعيدا عن البشر فى الصحراء الشرقية، وذلك فى القرن الرابع الميلادى، ولم تعرف فكرة الرهبنة قبل ذلك. حيث كانت المسيحية والمسيحيون والكنيسة بلا رهبنة فى الأساس. ولظروف كثيرة ومتعددة على رأسها الاضطهاد الرومانى للمسيحيين الذي على الهجرة إلى الصحراء هربا منه، مما أدى إلى انتشار فكرة الرهبنة.  

لسنا فى مجال رفض أو قبول الفكرة، فهى اختيار شخصى للإنسان وله كامل الحرية فى اختياراته وفى رؤيته الدينية الخاصة التى من خلالها يمارس التدين فى إطار علاقته الذاتية بالله. 

وبعد انتشار الفكرة كان هناك من آباء الرهبنة من فكر فى الفكرة الديرية (أي إنشاء أديرة تضم الرهبان الذين كانوا يعيشون بشكل أفراد فى الجبال والبرارى) والديرية تمت بناء على توافق أو لائحة ارتضاها ووضعها الأولون تنظم فكرة الرهبنة وتضع لها أسسا وقواعد وقوانين يرتضيها ويقبلها ويلتزم بها من يختار الرهبنة حياة خاصة له. 

أهم بنود هذا الدستور الرهباني هو الموت عن العالم، حتى أنه يتم إقامة صلاة الموتى على الراهب عند دخوله الرهبنة، ومن مات عن العالم لايملك شيئا فى العالم لأنه اختار الحياة الأبدية. فكان ما يسمى بالفقر الاختيارى الذى يمارسه الراهب كنوع من التقشف حتى يعطى الروح المساحة التى تجعلها تسيطر على شهوات الجسد الفانى. 

وبالطبع تنتفى هنا فكرة الزواج مع فكرة قبول الطاعة لمن يدير الدير، وتم ابتداع مقولة (على ابن الطاعة تحل البركة) والأهم تلك الحياة الجماعية التى يساهم فيها الجميع بالعمل الذى يقيم أود الرهبان الزاهدين فى العالم وفى المادة وفى التملك. وعلى ذلك لم تكن هناك علاقة بين الرهبنة وبين الكنيسة التى هى جماعة المؤمنين الذين يعيشون فى العالم ولاعلاقة لهم بالرهبنة أو الديرية. اى أنه لاعلاقة للراهب بالعالم ولا الأشياء التى فى العالم واهمها الرتب الكنسية (القس والقمص والاسقف والبطرك)، لأن هذه الرتب تخص الكنيسة التى هى فى العالم، كما أن الراهب لايحمل اى رتبة كنسية مثله مثل أى مسيحى اخر من غير رجال الدين (الاكليروس). 

ولكن للأسف بدأت العملية عندما تم اختيار أسقف من الرهبان، فتحولت الرهبنة من موت عن العالم إلى موت فى العالم. فالذين ماتوا عن العالم وأقيمت عليهم صلاة الموتى يأتون إلى العالم ليديروا حياة الاحياء!. هنا أصبحت مواقع الأسقفية والمطرانية والبطريركية من الرهبان غير المتزوجين والذين ماتوا عن العالم. ولأن الفكر الدينى يقدس غير المقدس فى أحيان وفى ظروف كثيرة أسقطت على الرهبان الذين أصبحوا أساقفة وبطاركة صفة القداسة وأصبحوا مقدسين لأنهم غير متزوجين وكأن الزواج قد أصبح شيئا غير مقدس، فى الوقت الذى يعتبر فيه سرا مقدسا من ضمن اسرار الكنيسة السبع!. 

بل إن إبراهيم وإسحق ويعقوب الذين نصلى من أجل أن نكون معهم فى الآخرة كانوا متزوجين باكثر من زوجة!! هذا وغيره كثير من المياة التى جرت فى النهر، أسقط الحاجز بين الأديرة التى هي فى الصحراء وبعيدا عن العالم، فتم الخلط بين الدير وبين العالم. الشيء الذى أسقط الكثير من دستور وقوانين الرهبنة التى اختارها ووضعها الرهبان لأنفسهم ولم يلزمهم بها أحد. 

كانت البداية هى العمل الجماعى الذى سن من أجل تقديس فكرة العمل للاعاشة وليس للتملك، وجدنا أن الأديرة قد تحولت إلى مؤسسات اقتصادية ربحية تمتلك آلاف الأفدنة من الأراضى ولمن؟ لرهبان ماتوا عن العالم باختيارهم. 

سقطت فكرة التملك والفقر الاختياري، ولذا تحولت الأديرة والرهبنة إلى فرصة عظيمة للشباب العاطل الذى سيحصل على المقدس وعلى الموقع وعلى الرتبة الكنسية، فأصبحت الرهبنة والأديرة طريق الوصول للمادى وغير المادى. 

وأذكر أنه فى سبعينيات القرن الماضي، كان الأنبا أغاثون مشرفا على الدير المحرق بالقوصية، وكنا نذهب إلى الدير فتوثقت علاقتنا به، ففوجئت به يقول لى اقنع صديقك (ادوارد) أن يترهبن حتى يتم اختياره أسقفا. اندهشنا واستغربنا ولم ندرك الامور إلا بعد زمن تكشفت فيه الصورة وأصبحت معلنة وبلا مواربة. 

وساعد تحول الدير إلى مؤسسة اقتصادية، فى خلط الدير بالعالم، فالجميع يذهب لأخذ البركة والشراء من سلع الدير المقدسة التى تباع بأضعاف الأثمان الموجودة خارج الدير وكله مقدس فى مقدس، مع العلم أن السيد المسيح لم يغضب فى حياته مثل ماغضب الا عندما وجد الباعة يبتاعون ويبيعون فى الهيكل فقال: (بيتى بيت الصلاة يدعى وانتم جعلتموه مغارة للصوص). أي أن الذين يبيعون فى الأماكن المقدسة هم لصوص!!. 

بذلك تم كسر العزلة الاختيارية للراهب وأصبح مغموسا فى العالم برجاله ونسائه، فالراهب إنسان بكل ضعفه الذي لاعلاقة له بالرهبنة بقدر علاقته بالبعد عن الجنس الآخر وحفظ النفس. ولذا من قوانين الكنيسة عدم قيام الراهب بأخذ الاعترافات (وهو سر مقدس) خاصة من النساء حتى لايجرب الراهب. ولكن العملية أصبحت سداح مداح فالرهبان ياخذون اعترافات الفتيات والنساء مخالفة للقوانين، هنا يكون السقوط الذى لانريد تكرار سرد حكاياته وقصصه التى يعرفها الجميع. 

وعندما تسقط قوانين الرهبنة، فهل تظل الرهبنة كما كانت وكما يجب أن تكون؟ ولذا وجدنا من الرهبان من يمتلك ملايين الجنيهات فى البنوك، ومن يسقط أخلاقيا مع النساء، ومن يحول الدير إلى عالم لاعلاقة له بأى قيم مسيحية صحيحة، والأهم عندما تصل الأمور حد أن يقوم رهبان بقتل أسقف ورئيس الدير الذى هم رهبان فيه، هل يمكن حينذاك أن يتم النظر فى الرهبنة الحالية وما وصلت إليها من سلبيات لاتسيء للرهبنة فقط ولكن تسيء إلى الكنيسة التى يسيطر عليها الرهبان الآن.  وماحدث بعد حادثة قتل الاسقف أن أصدرت لجنة الرهبنة فى مجمع الأساقفة اثنى عشر بندا يجب التزام الرهبان بها، حتى يعود إلى الرهبنة جلالها وإلى الأديرة قيمتها، ولكن للأسف ونتيجة للفهم الدينى الخاطيء الموروث الذي يسيطر على البشر فى تقديس غير المقدس، حتى وجدنا تلك الحملة البغيضة ضد قداسة البابا تواضروس من جانب بعض الأساقفة ومن يدعون الحفاظ على الإيمان!؛ والتى يحملون فيها البابا مالا يحتمل لمجرد أنه يريد إصلاح مايجب وما يحتاج إلى إصلاح. 

الأخطر هو ذلك الفكر المتخلف الذى يريد تحويل الراهب المشلوح والقاتل والزانى باعترافاته الموثقة والذى تم الحكم عليه بالاعدام بناء عليها إلى قديس!! فهل هناك فكر دينى متخلف أكثر من ذلك؟ هم يعتمدون على أن المعدوم قال قبل أن يعدم (اذكرنى يارب إذا جئت فى ملكوتك) وهى المقولة التى قالها اللص اليمين للسيد المسيح. وهذا يعنى أن الشخص يسرق ويزني ويقتل، ثم يقول اذكرنى يارب فتنتهى المشكلة ويتحول إلى قديس يتقدس منه وبه ضعاف الإيمان من الذى يقدسون كل شئ تصورا منهم بأنهم بذلك يخدمون الدين والمسيحية. 

فما رأيكم أن مطران القدس وهو شخص يحمل درجات علمية كبيرة وفى درجة كهنوتية بعد موقع البابا مباشرة له مكالمة تلفونية مسجلة وموجودة يعزى فيها ام الراهب المعدوم. يقول لها أنه قديس وشهيد وأن أحد الاشخاص تحدث إلى المطران وقال له أنه شاهد رؤية فيها المعدوم وسط القديسين والعذراء مريم وأن المشلوح والمعدوم هذا يلبس وسطهم إكليلا من الذهب!. 

هنا من يتكلم لتصحيح هذه المفاهيم الخاطئة التى تسيء إلى الدين والعقيدة يتهم أنه ضد الدين والعقيدة، حتى أن البابا ذاته لم يسلم من أصحاب هذه الأفكار المتخلفة التى يكرسها ويجذرها من يريدون السيطرة على العقول ليخملوها وعلى الأفكار ليجمدوها، حتى يظلوا مقدسين على حساب كل مقدس حقيقى. 

الأمر يحتاج إلى ثورة تصحيحية مثلما حدث فى الكنيسة الكاثوليكية بعقد مجمع الفاتيكان الثانى الذى أعاد النظر فى كثير من القضايا التى جعلت الكنيسة الكاثوليكية تواجه الانشقاق البروتستانتي، كما أنه على الأساقفة المستنيرين وهم كثر، التوافق والتوحد مع قداسة البابا لتصحيح كثير من الفكر الدينى الكنسى الذى يعيد إلى الكنيسة مجدها ودورها التنويرى الذى يتوافق مع القيم المسيحية السليمة التى تقبل الآخر، بل تبذل نفسها من أجل كل آخر، خاصة فى كثير من القضايا التى سنحاول مناقشتها بموضوعية وعقلانية.

وهذا بيان الكنيسة بخصوص الفكر الخاطئ المتداول حول قداسة الراهب المشلوح والمعدوم.
-----------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان