29 - 03 - 2024

عودة القضية إلى صباها

عودة القضية إلى صباها

على مدار السنوات الأخيرة ، كتبت مرارا عن تعبير شائع بالغ الشذوذ ، يتردد بإلحاح فى الأدب السياسى اليومى المتصل بالقضية الفلسطينية ، ويتخوف مما يسميه "تصفية" القضية ، كلما ألمت بنا وبها مصيبة سياسية ، من نوع خطة ترامب وصفقة القرن واتفاقات "أبراهام" التطبيعية ، وكان رأيى دائما أنها "التصفية المستحيلة" ، على حد نص عنوان مقال كتبته ، ونشر هنا  فى 20 يوليو 2019 ، ولم أكن أعول فيما ذهبت إليه على أوهام  ولا على أمنيات ، بل على حقائق الواقع الصلبة ، وأهمها حضور الشعب الفلسطينى فوق كامل أراضيه التاريخية المحتلة ، وبكثافة بشرية تتزايد بإطراد ، وقابلة للنمو إلى ثلثى إجمالى السكان فوق الأرض المقدسة عبر العقدين المقبلين ، وبانتشار جغرافى ملموس فى 17 إقليما ، من إجمالى الستة والعشرين إقليما طبيعيا بفلسطين كلها ، وبخبرات كفاحية تتراكم ، وبوعى وطنى جامع ، يعيد القضية إلى أصولها ، كقضية تحرير وطنى ضد استعمار استيطانى إحلالى ، لايستطيع إلحاق الهزيمة النهائية بشعب ثابت فوق أرضه ، توالى أجياله سيرة البذل والتضحية لاسترداد الحق الفلسطينى كاملا .

ولعل المغزى الأعظم لقيامة القدس الأخيرة ، أنها القيامة غير المسبوقة للشعب الفلسطينى بكافة قطاعاته ، موحدا متراصا ، وبغير تفاوت بين الأرض المحتلة فى 1948 والأرض المحتلة فى 1967 ، وعلى نحو ما بدا من تكامل محسوس فى جولة الكفاح الفلسطينى الراهنة ، مابين صمود القدس وصواريخ غزة ، وما بين غضب ومواجهات وإضرابات مدن الضفة مع مدن الداخل الفلسطينى ، وبما اتسع بخرائط حركة إلى فلسطين كلها من نهر الأردن إلى البحر المتوسط ، بدت فيها "الناصرة" كأنها "نابلس" ، وبدت فيها "اللد" و"الرملة" و"حيفا" و"أم الفحم" و"يافا" كأنها "بيت لحم" و"جنين" و"الخليل" و"رام الله" ، فقد انضمت للقيامة الشعبية ، وهى أكبر من مجرد انتفاضة ، عشر مدن فلسطينية من وراء ما يسمى "الخط الأخضر" ، وانضم قرابة المليونى فلسطينى بالداخل إلى خمسة ملايين بالضفة وغزة  والقدس، ونزل الشعب الفلسطينى بهيئته الكاملة إلى الميدان ، وكأننا عدنا بالواقع الفلسطينى إلى ما قبل إعلان قيام دولة الاغتصاب الصهيونى عام 1948 ، وكأن قضية الحق الفلسطينى عادت إلى صباها الأول ، وبخرائط وبطاقات حضور هائل المغزى ، يزيد فيها عدد الفلسطينيين فوق الأرض المقدسة على عدد اليهود المجلوبين للاغتصاب والاستيطان، وتتسع فيها مساحة العلم الفلسطينى ، ويطابق العلم رقعة أرضه بكاملها ، وعلى مساحة 23 ألف كيلومتر مربع هى جغرافيا الأرض السليبة ، وهذا تطور نوعى عظيم ، لم يحدث فجأة طبعا ، وإن كان إلهام القدس قد بلغ به حافة الكمال الآتى.

 فالذى يراقب الوضع الفلسطينى عبر العقود الأخيرة ، يلحظ تداعى وانهيار الحواجز المصنوعة الفاصلة بين قطاعات الشعب الفلسطينى ، وتغير مزاج الداخل الفلسطينى الذى يطلق البعض على أهله خطأ تسمية "عرب إسرائيل" ، بينما هم الفلسطينيون الأرسخ ثباتا فوق أرضهم ، حتى وإن اضطروا لحمل هويات وجوازات سفر إسرائيلية ، فالضرورات تبيح المحظورات ، لكن خاتم الروح ظل فلسطينيا عربيا بامتياز ، أعادت انتفاضات غزة والضفة والقدس استظهار رسومه ونقوشه الأصلية.

 فحتى موعد ميلاد انتفاضة الحجارة أواخر 1987 ، كانت "أسرلة" الفلسطينيين تبدو كخطر داهم ، فبعد حركة تمرد قومى ، مثلتها "حركة الأرض" فى أواخر خمسينيات القرن العشرين، التى قمعتها وحظرتها قوات الاحتلال وأحكامها العسكرية ، بعدها مال فلسطينيو الداخل إلى قدر من التماشى والإندماج ، وكان كفاح طلائعهم يمضى تحت راية الحقوق المدنية وحدها غالبا ، وكان الحزب الشيوعى الإسرائيلى "راكاح" ، وبقيادته اليهودية ، هو الوعاء السياسى الأكثر ظهورا  بينهم ، وكانت أقسام من الفلسطينيين تذهب إلى الانضمام والتصويت لأحزاب إسرائيلية يهودية ، وهى حالة بدأت فى التغير المتسارع بعد انتفاضة 1987 ، وتصاعد الوعى الوطنى القومى ، والميل إلى تشكيل أحزاب عربية خالصة ، وزيادة مشاركة فلسطينى الداخل فى الدفاع الميدانى عن القدس وعروبتها ومسجدها الأقصى وكنيسة القيامة.

 وهكذا سقطت الحواجز تباعا ، وعاد الشعب الفلسطينى للاندماج فى سيرة كفاح واحد متصل ، أظهرته وقائع الانتفاضة الثانية أواخر سبتمبر 2000 ، والانتفاضة الثالثة من أكتوبر 2015 إلى نوفمبر 2016 ، التى ارتقى فيهما شهداء الداخل رفقة شهداء الضفة وغزة والقدس ، ثم بدا التحول المثير فى تمام وضوحه مع الانتفاضة الرابعة الجارية حوادثها مع قيامة القدس الأخيرة ، فالقدس فوق كونها عاصمة الروح والصلوات ، بدت كمركز وحيد مؤهل بالطبائع لاستعادة وحدة القضية الفلسطينية ، وهى الاختصار البليغ المكثف لتاريخ محنة الشعب الفلسطينى فى مدينة واحدة ، جرى احتلال قسمها الغربى عام 1948 ، ثم قسمها الشرقى فى 1967 ، فوق إلهامها السحرى كعاصمة أبدية لفلسطين ، الذى يعيد القضية إلى أصولها ، ويبدأ سيرة كفاح جديدة ، تتحدى أوهام تصفية القضية الفلسطينية ، وتوحى بأحلام تصفية كيان الاغتصاب الإسرائيلى نفسه ، والتقدم إلى هدف بناء دولة ديمقراطية شاملة على كل أراضى فلسطين ، وعلى مراحل إنجاز متلاحقة ، وبأغلبية فلسطينية متكاثرة حاسمة ، تفكك نظام "الأبارتايد" الصهيونى العنصرى ، وتستقطب فئات من التجمع الإسرائيلى نفسه ، وبعمل مدروس متراكم ،  يستلهم سيرة الكفاح فى جنوب أفريقيا بالذات ، وقد نجح فى قص دابر نظام استيطانى متوحش ، وعبر هبات غضب شعبى ، يستطيعها كل الناس ، مع الاستمساك بحق المقاومة المسلحة المشروع ، حيثما ووقتما أمكن .

ومما ينطوى على مفارقة ظاهرة ، أن كفاح الشعب الفلسطينى يتطور ، بينما الحركة الوطنية الفلسطينية القيادية فى أزمة مقعدة ، لا ترتقى فيها إلى مهمات المرحلة ، وتعانى من الانقسام النكد بين رام الله وغزة ، فوق استمرار خضوع بعضها لأوهام أوسلو وتوابعها ، والبحث عن تسويات ظالمة ، فوق أنها لم تعد ممكنة ، ترفع شعارات خشبية من نوع دويلة الضفة وغزة، أو الخلافات حول انتخابات لا تجدى فتيلا ، وصراعات تقاسم كعكة سلطة فلسطينية متلاشية الجدوى ، ولا حل أفضل فيما نتصور ، سوى بترك سلطة الحكم الذاتى المحدود لمصائر التحلل ، والتركيز على تجديد الإطار الوطنى الجامع ، وإعادة بناء منظمة التحريرالفلسطينية كقيادة ميدانية للكفاح الوطنى ، مع تخلى القيادات التى هرمت عن كراسيها ، وإتاحة الفرصة لأجيال جديدة عفية ، تنسق الحركة والتفاعلات مع إطارات الداخل الفلسطينى ، وتتبنى سياسة هجومية عنوانها "الدولة الواحدة" لا "حل الدولتين" غير المأسوف على شبابه ، مع الوعى طبعا بضرورة خوض كفاح على مدى طويل نسبيا ، قد يمتد إلى أواسط القرن الجارى ، أى إلى وقت مرور مئة سنة على حرب النكبة عام 1948 ، وقتها لن يكون واردا بقاء "إسرائيل" على ماهى عليه ، بسبب أثر الخلطة الفعالة ما بين ثقل النمو السكانى الفلسطينى ، وتطور أساليب الكفاح الجامع ، مع الاستعداد البطولى لتحمل التضحيات ، فى ظل اختلال موازين القوى العسكرية ، ومع اتساع آفاق تنمية المقدرة الفلسطينية ، وبإبداع أجيال أفضل الشعوب العربية تعليما ، وعلى نحو ما جرى بين حربى 2014 و 2021 فى غزة ، وقفزات تكنولوجيا المسيرات والصواريخ المصنعة ذاتيا ، ومضاعفة مدياتها ، وبما جعل أغلبية سكان كيان الاغتصاب تحت تهديد النار ، ومن دون التوقف كثيرا عند أسماء فصائل الصواريخ ، فلا يصح اختصار قضية فلسطين فى اسم حركة أو فصيل ، وكم من حركات جاءت وذهبت ليولد غيرها ، والحق لا يعرف بالرجال ، بل يعرف الرجال بالحق ، لكن التحية واجبة لصناع توازن الردع الجديد ، صحيح أن عدد شهداء فلسطين أكبر بما لا يقاس إلى العدد القليل من قتلى الإسرائيليين ، وصحيح أن القدرة التدميرية لصواريخ الفلسطينيين لا تزال فى بواكيرها ، لكن آلاف الصواريخ الفلسطينية أثبتت مقدرة أعظم بمراحل هذه المرة ، وشلت مظاهر الحياة فى كيان الاحتلال ، وأصابت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين بالهلع العام ، فوق التطور المبهر لترسانة سلاح غزة ، وعجز جيش الاحتلال المرعوب من غزو برى ، كان يجرى فى حروب سبقت ،  ولم يجرؤوا عليه هذه المرة خشية الاحتراق فى أتون غزة .

يبقى التأكيد على ماهو مؤكد ، وهو أن تحرير فلسطين مهمة الشعب الفلسطينى بالأساس ، وهو قادر عليها بعون الله ، فالمسألة الفلسطينية قضية تحرير وطنى ، لها باليقين أبعاد قومية جامعة لشعوب الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها ، وأبعاد حضارية ممتدة لأمم العالم الإسلامى ، فوق طابعها الإنسانى التحررى العالمى ، وقيامة فلسطين أولا هى التى تغير الموازين ، وتحرج المتخاذلين والمتواطئين ، وتستعيد قوة الرأى العام المساند للحق الفلسطينى ، وتعيد تشكيل مواقف أطراف المنطقة الأهم فى أجواء الغليان ، وعلى نحو ما بدا ملموسا مؤثرا فى تطور الموقف المصرى بالذات ، وهذه قصة أخرى قد نعود إليها لاحقا .
-------------------------
بقلم : عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حروب





اعلان