17 - 05 - 2025

تخيل

تخيل

كنت غارقة في دراسة ما يحدث في القرن الافريقي الملتهب تحت سطح البحر الأحمر بعد أن صدر لنا إنذارات كثيرة لم نرها لكتابة مقال عنه قبل أن ينفجر مدويًا ويغير حياتنا تماما حين أرسل لي صديق فيلما قصيرا فتحته متوقعة أن أسمع صوتًا جميلا فالإشارة فوق الصورة تشير إلى برنامج اكس فكتور أو (العامل الاستثنائي) وهو برنامج مسابقات غنائي انجليزي شهير يشترط أن يكون للمتسابق ميزة مختلفة تميزه عن أي هاو أو شبه محترف آخر. حقق البرنامج نجاحا مدويا حين نقلت عنه نسخة عربية، فتوقعت صوتا استثنائيًا.

بدأ الفيلم بلقطة لشاب أسمر وسيم تسع ضحكته الشاشة يقول: اسمي "ايمانويل" من أصل عراقي عمري سبعة عشر عامًا أعيش في استراليا أقوم باختبار اكس فكتور لأن حلمي هو أن أكون مغنيًا محترفًا وأنا بالتأكيد أريد أن أكون الأفضل.

 اتسعت الشاشة لتظهر فتاة جميلة تجلس بجواره وتبتسم هي الأخرى بسعادة نقلت إليّ البهجة. أكمل حديثه قائلا:

 أغني في المدرسة كل يوم، أغني كل ليلة، يسألوني ماذا تغني يا صديقي؟ أغني فحسب.

 هز رأسه وهو يردد لا أستطيع وصف شعوري بالاشتراك في مسابقة اكس فكتور واو.

 انتقلت اللقطة لتظهر لنا ايمانويل وهو يدخل إلى خشبة المسرح يعرج قليلاً. بدا لي قصيرًا نسبيًا وحين امسك بالميكروفون اهتزت يده وبدت غير طبيعية لكنه رد بابتسامة على أسئلة لجنة التحكيم عن اسمه ومن جاء معه اليوم ونشر شعورًا رائعًا بالحبور والثقة بالنفس قال:

 أمي وابن عمتي وخالتي وأخي. 

انتقلت اللقطة لتحتل العائلة الصورة وظهر فيها شاب كان من الواضح أنه أخوه انتبهت إلى أنه مقطوع الساعدين من منتصفيهما، في حين كان الجميع ينظرون بفرح إلى بعضهم البعض وحين سئل مانويل عن عمره قال:

 لست متأكدًا تمامًا عندما وجدتني أمي في ملجأ للأيتام كنت قد ولدت بلا هوية ولا جواز سفر ولا شيء. 

 انتقلت الكاميرا لتركز على السيدة التي بدت في هذه اللحظة امرأة جميلة أجنبية أو أسترالية على الأصح بما أن الشاب استرالي، وعاد هو للحديث عن قصة ولادته في منطقة حرب وأنهم وجدوه هو وأخيه في صندوق وأخذوه إلى الميتم مصابا بطلقات نارية قال: كنا نسمع أصواتا لم نكن نفهمها. عرضت في خلفية حديثه صورًا لطفلين مشوهي الأعضاء قال فخورًا:

 كانت أمي تمشي كملاك بجوار الملجأ. احضرتنا إلى استراليا لإجراء الجراحة ثم وقعت في حبنا.

 ظهرت على الشاشة صورة للأم كيلي وهي تداعب الطفلين ثم الشابين وصوته يعلو قائلاً: بطلتي هي أمي عملت بجهد كبير لتغير حياتنا بعض الناس يقولون لقد ولدت بلا هوية لكن مع أمي وأخي أستطيع أن أفعل أي شيء.

 شكره المذيع وسط صراخ المشجعين وحماسهم وسأله: ماذا ستغني؟

 قال: أغنية "تخيل" للمغني "جين لينين".

 قال المقدم: يا إلهي. حظ طيب.

 بدأ يصدح وراحت صورته تكبر وتكبر كلما خرجت الكلمات من فمه رائقة بصوت عملاق نسينا يديه المشوهتين وساقيه المعوجتين واحتل أذهاننا صوت عريض فيه رحمة تنافي كل ما مر به وهو يقول:

 تخيل لو أنه لا توجد إلا الجنة؟ انها سهلة لو حاولت، لا جحيم تحتنا، فوقنا السماء فحسب، تخيل جميع الناس يعيشون ليومهم، تخيل انه ليس هناك دول، انها ليست صعبة لفعلها، لا شيء للحياة أو الموت من أجله، ولا عقيدة أيضًا، تخيل كل هؤلاء الناس يعيشون في سلام، ربما ستقول إني حالم، لكني لست الوحيد، أتمنى أن تنضم لنا يوم ما، والعالم سيكون موحدا.

احتلت الشاشة صورة تعملقت في قلوب الجميع الذين أصبحوا كما أراد عالم واحد.

 قال: شكرا لكم.

 وقف كل أعضاء اللجنة يصفقون وقال المقدم: هذه الأهازيج لك كان الجمهور يغني والأم تقول: هذا ولدي وهي تحتضن عائلتها والدموع تنهمر من عيون الجمهور والمحكمين وتغرق وجهي. قال أحد المحكمين: لا أعتقد أن مشاعري قد تحركت من قبل كما تحركت بأدائك كان هذا رائعا: شجاعتك كانت لا تصدق.

 قالت محكمة أخرى: لقد ربحتنا منذ لحظة صعودك على خشبة المسرح ابتسامة ممتلئة الخدين وهذه الثقة بالنفس كل شيء يخصك أحبه.

 ركضت الكاميرا وهي تتنقل بين متابعة تأثير الكلمات على الأم والأخ الذي يصفق بيدين مبتورتين في سعادة غامرة وبين الشاب الذي بدا خجولا في هذه اللحظة أمام كلمات المحكم الثالث وهو يقول له: أنت مغني عظيم أنا لا أقول ذلك لأن حياتك كانت صعبة مقارنة بالأشخاص الأخرين هنا لأنك بالرغم من قصتك لديك موهبة جميلة حركت الجميع.

 أنهت المُحكمة الرابعة الحديث بتهنئته على شجاعته لأنها كانت مؤثرة وقالت: فوق هذا لقد امتعت الجميع. الجميع كان يبتسم لهذا أشكرك.

 أعطوه جميعا أصواتهم وقال أحدهم لا أستطيع الانتظار لأرى ماذا ستقدم مستقبلاً، شكرهم مبتسما والكاميرا تركز على ابتسامته وتصفيق الجمهور وبدا لي رقيقًا عظيما بقدرته على حب الحياة.

تذكرت القرن الإفريقي الملتهب تحت ماء البحر الأحمر والأسئلة المثارة حول جنوح السفينة التي أغلقت الملاحة في قناة السويس، والتحالف الكوشي الذي تتبناه إريتريا بينها وبين الصومال وإثيوبيا، والسؤال فيما إذا كانت تسعى لتشكيل منظمة بديلة للهروب من سيطرة السودان وجيبوتي والخليج بتحالفات جديدة؟

 قلت لنفسي: وماذا عن الصين والولايات المتحدة وروسيا وسعي دول الخليج للعب أدوار مزدوجة؟

 نبهني صوت ايمانويل إلى ما جلبته علينا الثروة ليست ثروة البترول وحدها أو اليورانيوم في السودان وليبيا، ولكن ثروة المياه السبب الحقيقي وراء ما يجري تحت سطح البحر الأحمر من صراع يحدده الطمع في النهر العظيم والسيطرة على المنطقة، وتعطيش مصر بموافقة خليجية أمريكية إسرائيلية افريقية، وصراع بناء القواعد العسكرية من الصين إلى تركيا إلى أمريكا وروسيا من جيبوتي إلى سواكن في السودان ولا حرب اليمن ولا مراوغات مباحثات سد النهضة، أعادني ايمانويل إلى انتصار الحياة.. لكن بأي ثمن يا أعزائي؟
---------------------
بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

سوريا .. بكاء وسط زغاريد الفرح