استجابة لدعوة الحوار المجتمعي التي اطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي حول قانون الأحوال الشخصية الجديد، أقامت إدارة الثقافة العامة بفرع ثقافة الفيوم ندوة بعنوان "تطور المباديء الدستورية وقانون الاحوال الشخصية"، ناقشت مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة كما نصت عليه الدساتير المصرية المتوالية وتدرجه في التطبيق التشريعي والقانوني وصولا إلى قانون الأحوال الشخصية الجديد.
تولى إدارة الندوة الكاتب "عصام الزهيري" وقال في بدايتها إن فكرة الدستور المدني بدأت مع الخديوي إسماعيل الذي وضعت في عهده أول مسودة لدستور مصري، وأشار إلى الطريقة التي تحولت بها مباديء ذلك الدستور من مجرد ديكور شكلي إلى تطبيق واقعي، ذاكرا أن مباديء وقيم الدستور تتعمق بالتطبيق وتكسب بالتدريج مساحات جديدة في الواقع الاجتماعي وتتجذر عبر الأجيال في تربة الثقافة المجتمعية، ومن الواجب مراعاة هذه الحقيقة الثقافية في كل تطبيق قانوني، ومن ثم فالرهان على قانون الاحوال الشخصية الجديد يتوقف على نجاحه في تقديم حلول متقدمة لأوضاع ومشكلات الأسرة المصرية على ضوء مبدأ المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات.
وفي كلمته أشار د."أحمد عدلي" أخصائي التنمية البشرية إلى ضرورة مراعاة مفهوم "الطلاق الآمن" في حالة النزاع الزوجي المتفاقم من خلال إعادة التوازن المفقود بين دور الأم ودور الأب التربوي، وكل منهما دور أساسي وحيوي ولا يمكن الاستغناء عنه لصحة الاطفال النفسية ونموهم الاجتماعي السليم، لذلك فمن الواجب ان نعيد النظر في مفهوم حضانة الاطفال الذي يطبق إلى اليوم تطبيقا خاطئا يحرم الاب من دوره كمشرف تربوي، فلا يوجد في القانون ما يلزم الأم بمراعاة دور الأب ولا تكفي ساعات الاستضافة ليؤدي الأب واجباته التربوية، ويؤدي واقع ابتعاد الاولاد في حالة الطلاق عن أسرة ابيهم إلى تفكك النسيج الاجتماعي، ورغم أن القضاء بدأ يراعي هذه المآخذ من خلال أحكام التعويضات الصادرة في قضايا الرؤية، إلا أن ذلك لا يكفي، فلا تزال المشاركة الأبوية في التربية شبه منعدمة في حالة الانفصال، ولا مخرج للآباء أمام هذا التقصير الاضطراري المفروض غير التفريط في حقوق تربية أبناءهم.
نفس الوضع يمكن رصده في مشكلة النفقة التي تحول الأب إلى ماكينة نقدية تنحصر علاقته بأولاده فيما ينفقه، والواجب ان يتم تحديد النفقة بصورة معيارية متوازنة ما بين حالة الدخل وحالة الغلاء والمستوى الاجتماعي. وفي النهاية أكد "عدلي" أن قانون الاحوال الشخصية أخطر من اي قانون جنائي في مجال ضبط علاقات وامن المجتمع.
أفضل إجراءات جنائية
الكاتب والقانوني "احمد قرني" قال أننا نملك بدءا من دستور 1923 أفضل قوانين الاجراءات الجنائية في العالم غير أن الوضع في التطبيق يختلف، ومشكلة قانون الاحوال الشخصية تكمن عند التطبيق في ارتباط أحكام القانون بالشريعة والأحكام الفقهية، إذ أنه من المعروف أن القضاء كان في بدايته شرعي وأهلي مذهبي، يلجأ فيه المتقاضي إلى ما يناسبه مذهبيا، فإن كان مالكيا تحاكم لقاضي مالكي، وإن كان شافعيا فشافعي وهكذا، وتبقت الأزمة منذ تلك الآونة كامنة في تحويل الرأي الفقهي غير الملزم لغير أصحاب المذهب إلى قانون مدني ملزم لعموم المصريين، وفي رأب الصدع بين الثقافة الشعبية المتأثرة بتضارب الأحكام الفقهية وبين مواد القانون المدني ذات الاسس والقواعد الدستورية.
من هنا مثلا لم يتمكن القانون المدني من تجريم الزواج العرفي الذي ينظر إليه في الفقه كزواج مقبول من جهة استيفائه أركان الزواج الشرعي، وهو ما يخلق رأسين للقانون: رأس فقهي قوامه الفقهاء والمفسرون والأئمة، ورأس قانوني قوامه المشرعون المدنيون والفقهاء الدستوريون والبرلمانات، ونبقى نحن كمحامين حائرون في ممارستنا المهنية بين الطرفين، وهو خلاف لا وجود له في المنظومات القانونية المدنية المتطورة التي لم تعد سلطة الفقه والثقافة الدينية والعادات الشعبية حاكمة فيها فوق سلطة القانون، فلا تزال منظومتنا القانونية بعد عقود طويلة من تجريم زواج الصغيرات عاجزة عن القضاء على تلك الظاهرة، وهو ما جعل القانون يتجه إلى تغليظ العقوبة لتشمل كل من شارك او شهد او سهل زواج الاطفال.
وأكد الكاتب "احمد قرني" أن مجتمعنا لا يزال رافضا تبني الثقافة القانونية، وعلى الرغم من أن القاعدة المستقرة في القانون هي أن "حكم القاضي يرفع الخلاف"، مما يعني أن اختيار الدولة يرفع خلاف الفقهاء، إلا أن واقع الحال أن الكثيرين لهم مواقف دينية حادة من النصوص القانونية التي يعتبرونها وضعية، ولا يترددون في إدانة الدولة بسببها بوصفها من وجهة نظرهم علمانية!، هذا الوضع أدى إلى الكثير من المفارقات التي يجب رفع الخلاف حولها في القانون الجديد، من ذلك مثلا حق الولاية الذي يحرم الأم من فتح حساب بنكي لأولادها القصر، ومن التصرف في شئونهم المالية، ومن ذلك حق الحضانة الذي يحرم الأب من دوره ومسئولياته التربوية، وفي الحالتين لا تعدو نصوص المساواة ان تكون حبرا على ورق بينما يغيب المبدأ تماما عن التطبيق القانوني.
ومن أخطر أمثلة هذا الغياب توسع البعض في فكرة القوامة الذي يصل إلى إعطاء ولي المرأة سواء كان أبا او أخا او عما لها حق فسخ زواجها، مما يضعنا في وضع ساخر، وهي نفس المفارقة التي تضعنا فيها أزمة الطلاق الشفوي وتؤدي في حالة عدم اعتراف الزوج به عند وقوعه إلى وضع ما بين الحرمة الشرعية والصحة القانونية!، ومنها مفهوم أن الحضانة للنساء فما علت، وتمييز أم الأم تبعا لذلك على أم الأب فيصل حق حضانة أولاد ابنها إليها بعد ١٣ امرأة من فرع الأم!.
وقال "قرني": "لاتزال الدولة في رأيي حائرة في مواجهة هذا الوضع الفقهي الشعبي الذي يعد في نظر الكثيرين شرعا لا يمكن الخروج عليه، وهناك عشرات الامثلة منها قاعدة "الابن للفراش" وهي قاعدة فقهية تحرم الطفل من الانتساب لأبيه الحقيقي في حالة الزنا ولو ثبت باختبار الدي ان ايه أنه ينتسب إليه، أو قاعدة "ماء الزنا مهدر" الذي ينسب الابن لغير أبيه الحقيقي ولو اثبت اختبار الدي ان ايه ذلك"، وختم كلمته بالقول: "أننا نحتاج الى مراجعات للمواءمة بين بنية الثقافة وبنية التشريع، مازلنا في أوساط اجتماعية معينة لا نعطي المرأة اي وضع قانوني معنوي، والناس اختلط عليها ما هو فقهي وما هو ديني وما هو حياتي ومحض تقاليد ونا هو قانوني وما هو شرعي. وفات الجميع أن الفقه انتاج بشري".
أب وأم قبل زوج وزوجة
القسم الثاني من الندوة تمثل في مداخلات الحضور التي اتسمت بأهمية لافتة، وبدأها القانوني "محمد غيث" بالقول أن الأزمة في الاحوال الشخصية هو أنه ليس لدينا نظام قانوني ثابت مؤسس على احترام المرأة كمبدأ والنظر إليها كقيمة إنسانية ومجتمعية مساوية للرجل، ودلل على كلامه بواقعة دعي فيها إلى عرس وطلب منه الشهادة على وثيقة زواج يعقده مندوب المأذون لطفلة دون السادسة عشرة بدون وثيقة ميلاد (!!) وهوما جعله يغادر غاضبا.
أما د."إيمان حرب" فركزت على القول بأن القضية في القانون الجديد يجب أن تكون قضية أم وأب قبل أن تكون قضية زوجة وزوج، وقضية زوجة وزوج قبل أن تكون قضية امرأة ورجل، فالحقوق في العلاقة الزوجية هي للأولاد أولا قبل الأم والأب، والحل يكمن في اتساق النظام القانوني، فإما أن نلتزم جماعيا بالقانون المدني أو بالوضع الشرعي العرفي أو بمزاوجة تركيبية تراعي الاتساق وعدم التنافر بينهما، وتساءلت: لماذا لا يصل المشرع إلى اتفاق مع الفقيه؟!.
ورأى الإعلامي "محمد قاياتي" أن أصل الخلاف بين المنظومتين القانونية والشرعية قد يكون خلافا ثقافيا في جوهره، فالعلاقة الزوجية في مجتمعنا تؤسس على حالة من الصراع ما بين الاستبداد الأبوي والسيطرة الأمومية، ومع الطلاق تتحول هذه الحالة إلى حرب مفتوحة يُستخدم فيها الأولاد وحضانتهم ونفقتهم كأسلحة مع نصوص مطاطة لا تحسم الخلاف. والحل هو ألا يصبح القهر المتبادل بين الزوجين أساس العلاقة الزوجية مع قانون ينظم العلاقة بصرامة وقواعد آمرة، وأضاف: "علينا ان نستفيد من قوانين الاحوال الشخصية في الدول الاخرى وبالذات الغربية والمتقدمة والتي حصل فيها تطور على مستوى العلاقات الاجتماعية والمنظومات القانونية ورفض الآراء المتشددة لرجال الدين والسلفيين".
الشاعر "محمد شاكر" قال إن الخلاف بين الشرع والقانون من عمر نهضتنا الحديثة، ولابد من الحسم إما أن نخضع لمنظومة القانون المدني او سنظل عرضة للتخبط بين آراء الفقهاء وأوضاع الفقه القديم، سواء على مستوى الإسلام أو المسيحية، فليس من حق محكمة مصرية أن تطلق مواطنا مسيحيا، كأن المسيحي ليس له حق في القانون المدني، وكأن التشريع الديني يقسم المصريين إلى فئات ذات أوضاع قانونية متضاربة. وأضاف أن الحل في رأيي يتمثل في قانون مدني موحد للجميع، لا يحرم المواطن من اللجوء للوضع الشرعي بإرادته وطبقا لاختياره بطريقة حرة، وفي كل الاحوال يجب أن تعلو سلطة القانون المدني فوق أي تشريع ديني وفوق كل سلطة اخرى لعائلة أو قبيلة".
الباحث الإسلامي وعضو البرلمان السابق "نصر الزغبي" قال إن يد الدولة لاتزال مرتعشة في اتخاذ قرارات هي في الصالح العام بشكل مؤكد خوفا من العامة والفقهاء، في حين أن الوضع الفقهي ذاته يمكنها من ذلك فمن حق الحاكم (الدولة) أن يقيد المباح، وهو مبدأ فقهي لا يعني تفعيله الافتئات على فقه او دين. وقال أن الواجب الفقهي والقانوني يملي علينا تحرير المصطلحات وتبيين الفروق بين الفقه والشريعة، فالشيخ "سيد سابق" – مثالا - يتحدث في باب الطلاق عن الإجماع بعدم الاشهاد في الطلاق لأنه حق للرجل، بينما يتحدث القرآن الكريم عن ضرورة إشهاد ذوي العدل وإقامة الشهادة لله كتوكيد لغوي ومعنوي. وأكد "نصر" أن المصلحة مبدأ فقهي أصيل فحيثما توجد المصلحة فهي شرع الله، والفقيه الأصولي "نجم الدين الطوفي" قال أنه اذا تعارض النص مع المصلحة غلبت المصلحة لا من باب الافتئات على النص ولكن من باب تأويله، والشرع غرضه إسعاد البشر، ولذلك تستطيع الدولة من خلال هذه المباديء تشريع قوانين مدنية ملزمة، بينما أراء الفقهاء غير ملزمة فأبي حنيفة النعمان يقول: مذهبنا هذا رأي، والشافعي له فقهان مختلفان في مصر والعراق، الفقه يتغير إذن بتغير الزمان والمكان وعلى الدولة ألا تكون مترددة بينما نحن في حاجة الى اصلاح جذري.
وأضاف "وصفي وديع" أن الحيرة في قانون الاحوال الشخصية بين العقل المدني ورجال الدين، وأن الامر لا يستقيم دون حسم هذا الخلاف، فنظرة رجال الدين للمرأة تتسم بالدونية والتحقير، رغم أن البيت المصري امرأة قبل أن يكون رجلا، وكلما أعطى القانون للمرأة وضعها الاعتباري اللائق كلما تحسن الوضع للأفضل.
القانوني "سمير عبدالباقي" عقب بأنه من الأفضل أن نحسم قبل النقاش الأسئلة الهامة: هل نحن في حاجة لقانون أحوال شخصية جديد ام استبدال وتعديل مواد في القانون السابق؟ هل يمكننا الوصول إلى تشريع مدني موحد للمصريين بعيدا عن تعددية واختلاف التشريع الديني؟ وهل يرتكز التشريع على أوضاع الواقع وعلاقات المجتمع أم يرتكز على تشريعات وأحكام سالفة؟ وهل أزمتنا قانونية أم مجتمعية؟، وأضاف: "في المجتمعات الشرقية تكون الأسرة وليس الفرد هي أساس التشريع، وقد لا يكون هناك بأس في ذلك إذا لم يتحول الرأي إلى دين لا يحتمل الخطأ والصواب، وإذا لم يمسك الميت في تلابيب الحي".
--------------------
عصام الزهيري