19 - 04 - 2024

حرب على النيل

حرب على النيل

جفت الأقلام وطويت الصحف ، ولم تعد من قيمة كبيرة ولا صغيرة لتكرار الكلام المعاد المزاد عن مفاوضات سد النهضة الأثيوبى ، ولا عن وساطة رباعية دولية من الاتحاد الأفريقى والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة والأمم المتحدة ، دعت إليها السودان ثم مصر ، وكررت أثيوبيا رفضها مرارا ، وعلى لسان آبى أحمد رئيس الوزراء الأثيوبى نفسه ، وأصرت على رعاية الاتحاد الأفريقى وحده ، وهو لا يملك فرصة الفصل فى نزاع مصر والسودان على النيل مع أثيوبيا ، وفشل تماما فى عام ولاية "سيريل راما فوزا" رئيس جنوب أفريقيا ، ولا يبدو دوره المحتمل أفضل ، مع انتقال الولاية الدورية إلى "فيليكس تشيسكيدى" رئيس الكونغو الديمقراطية الأقرب سياسيا إلى مصر والسودان .

وما من معنى مضاف لتكرار التأكيد على تضرر مصر والسودان كارثيا من السد الأثيوبى ، المقرر له احتجاز نحو 74 مليار متر مكعب من المياه عبر سنوات ملء خزانه ، الذى تقول أثيوبيا أنه ضرورى لتوليد الكهرباء ، وبقيمة إجمالية تدور حول ستة آلاف ميجاوات سنويا ، ثم تتحدث اليوم عن أوهام سيادة على النيل الأزرق ، وعن حقها فى التصرف بالمياه ، مع أنها تفشل بالاستفادة من نحو ألف مليار متر مكعب مياه أمطار تسقط عليها سنويا ، ومع أن نهر النيل أطول الأنهار الدولية ، وتحكمه كغيره اتفاقات مياه أممية ، ثم اتفاقات الأطراف المعنية نفسها ، التى يحلو لأديس أبابا تسميتها بالاتفاقات الاستعمارية ، برغم أن أثيوبيا لم تكن مستعمرة وقت توقيع الاتفاقات البينية ، وأهمها اتفاق 1902 ، الذى وقعه مينليك الثانى امبراطور أثيوبيا ، وكان الطرف الثانى سلطة الاحتلال البريطانى الحاكم لمصر والسودان وقتها ، وجرى بالاتفاق اقتطاع مساحات من السودان ، أهمها منطقة "بنى شنقول" المقام عليها السد اليوم ، وتقديمها كهدية لامبراطور أثيوبيا مع أكداس من الذهب ، فى مقابل امتناع أثيوبيا عن إقامة أى سدود أو إعاقات على منابع النيل ، وإعطاء مصر والسودان "حق الفيتو" على أى إنشاءات أثيوبية تعوق جريان النيل ، ثم جرت فى النهر والسياسة مياه كثيرة ، ورحل الاحتلال البريطانى ، وجاء الاستعمار الأمريكى الجديد ليرث امبراطوريته ، وحرصت السياسة الأمريكية المعادية لعصر جمال عبد الناصر على خنق مصر نيليا ، وحرضت أثيوبيا على إقامة سد عند المنابع عام 1958 ، وهو ما لم يتم بسبب صلابة عبد الناصر ، ومكانة مصر العظمى وقتها فى سيرة الكفاح الأفريقى ، واستمر التأثير الحاكم للموقف المصرى بالقصور الذاتى عبر عقود بعد رحيل عبد الناصر ، وإلى أن كادت مصر تفقد تأثيرها الأفريقى تماما ، وبالذات بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق المخلوع حسنى مبارك فى أديس أبابا أواسط تسعينيات القرن العشرين ، دبرت المحاولة جماعة عمر البشير الرئيس السودانى المخلوع أخيرا ، ووجدتها أثيوبيا فرصة لابتزاز واستتباع حكم البشير المحاصر ، واستولت فعلياعلى مناطق "الفشقة" الخصبة داخل حدود السودان ، وأطاحت بنصوص اتفاق 1902 لترسيم الحدود ، ثم استثمرت عزلة مبارك أفريقيا ، وتزعمت عملية تحريض دول منابع حوض النيل ، وعقد "اتفاق عنتيبى" عام 2010 ، الذى يلغى الاعتراف بالحقوق التاريخية المقررة ، وهو ما رفضت مصر والسودان التوقيع عليه ، وكان الاتفاق المذكور توطئة لإقامة السد الأثيوبى ، الذى تعددت تسمياته من سد الحدود إلى سد الألفية إلى سد النهضة ، وزادت طاقة تخزينه المقررة مرات ، ومن دون أن تكون ثورة 25 يناير 2011 كما يشاع هى السبب ، فقد بدأ الخلل فى زمن مبارك البليد الراكد ، وإذا كان حجر أساس السد وضع فى أوائل 2011 ، فلم يبدأ البناء فعليا ، إلا فى عام 2013 وقت حكم الرئيس الاخوانى ، ولم تصادق أثيوبيا برلمانيا على "اتفاق عنتيبى" إلا فى أوائل العام 2013 ، مع ردود أفعال كاريكاتيرية من سلطة الحكم المصرى وقتها ، أشهرها عبث اجتماع تهديد هزلى مذاع على الهواء مباشرة ، استغلته أثيوبيا لمزيد من الترويج لما أسمته عجرفة وعدائية المصريين ، ومع زوال حكم الإخوان بثورة 30 يونيو 2013  وما تبعها ، ومخاضات التحول العنيفة فى مصر ، ذهبت القاهرة للتوقيع على "إعلان مبادئ" فى مارس 2015 ، لا يعترض من حيث المبدأ على إقامة السد الأثيوبى ، ويدعو لمفاوضات مصرية سودانية أثيوبية حول مراحل ملء وتشغيل وإدارة السد ، وباتفاق قانونى ملزم ، يضمن عدم الإضرار البالغ بمصالح مصر والسودان المائية ، ويتيح للأطراف الثلاثة حق طلب الوساطة على طريقة وساطة أمريكا فى زمن دونالد ترامب ، التى انتهت إلى اتفاق وقعت عليه مصر وحدها فى أواخر مارس 2020 ، بينما انسحبت أثيوبيا ، وامتنعت السودان وقتها عن التوقيع ، ثم جرى استئناف جولات تفاوض متقطعة برعاية الاتحاد الأفريقى ، بعد أن خرقت أثيوبيا قواعد إعلان المبادئ ، وشرعت فى الملء الأول لخزان السد ، ومن دون اتفاق الأطراف المعنية ، وهو ما أدى لعواقب فادحة على السودان بالذات ، دفعت الخرطوم إلى تنسيق موقفها مع مصر ، والتصميم على عدم السماح بالملء الثانى من دون اتفاق ، وهو الملء المقرر أثيوبيا خلال موسم الأمطار فى يوليو 2021 ، أى فى الموعد نفسه ، الذى جرى فيه الملء الأول أواسط 2020 ، وبرغم اعتراض القاهرة والخرطوم ، تبدو أديس أبابا مصممة على الملء الثانى فى موعده باتفاق أو بدون اتفاق ، وهو ما يزيد كمية المياه المحتجزة خلف السد الأثيوبى إلى 18 مليار متر مكعب ، وبما يهدد حياة نصف الشعب السودانى ، ويؤثر بشدة على تدفقات مياه النيل إلى مصر ، والأخيرة هى الأكثر اعتمادا على مياه النيل ، وبنسبة تزيد على تسعين بالمئة من إجمالى مواردها المائية ، وقد نزلت مصر إلى ما تحت خط الفقر المائى من ثلاثة عقود مضت ، أى منذ كان عدد سكانها عند 55 مليونا ونصف المليون ، فنصيب مصر المقرر من مياه النيل يبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا ، وخط الكفاف المائى دوليا عند حدود ألف متر مكعب للفرد الواحد سنويا ، وعدد سكان مصر اليوم يمضى إلى الضعف ، ويقترب من حاجز المئة مليون والعشرة ملايين فوقها ، وهو ما يعنى بلوغ مشكلة المياه فى مصر حدود اختناق حرجة ، لا تحتمل أذى مضافا يأتيها من التعنت الأثيوبى .

المراد إذن ظاهر بغير إلتباس ، وهو وضع رقبة مصر والمصريين تحت حد السكين ، وقد تختلف أو تتفق مع الحكم الحالى ، لكن مصريا وطنيا واحدا ، لا يقبل تعطيش مصر ، ولا انتقاص قطرة واحدة من مياه النيل ، فالقضية أكبر من كونها مسألة أمن قومى ، إنها قضية وجود بالمعنى الكامل للكلمة ، قضية حياة أو موت ، وقد جربت مصر الرسمية كل وسائل الاتفاق بالحسنى ، وأوضحت للمجتمع الدولى مخاطر ما يجرى ، وبح صوتها وهى تشرح وتنبه وتحذر ، ولم يعد لديها سوى سبيل آخر، ربما يفسره تصاعد مطرد للهجة المصرية الرسمية فى الأسابيع الأخيرة ، وظهور مصطلحات دبلوماسية جديدة من نوع "لن نقبل بفرض الأمر الواقع" ، فى إشارة مباشرة إلى عدوانية السلوك الأثيوبى ، ومن نوع إعلان الرئيس السيسى نفسه أنه "لا تفاوض بلا نهاية" ، وهو ما قد يعنى أننا نقترب من حافة الهاوية ، وأن الحرب التى لم تكن تريدها مصر ، قد تفرض عليها ، مع استكمال محسوس وضمنى لاستعداد سياسى وحربى ، جرى تحصينه باتفاق مصرى سودانى كامل ، وبوضع "خط أحمر" جديد عند منابع النيل ، فقد كان بوسع مصر دائما أن تضرب السد المشئوم ، وكانت تعرف دائما من وراء التعنت الأثيوبى ، وتدير تحركا ذكيا فى الكواليس ، وتعدد بدائلها الميدانية اللازمة فى لحظة الحسم ، وتدرك مدى هشاشة التكوين الأثيوبى ، وتعرف كل شاردة وواردة فى أثيوبيا المفككة المتحاربة عرقيا ، وإلى أن بدأ العد التنازلى فى القصة كلها ، واقتربت ساعة الصفر ، فليس عند المصريين أغلى ولا أعز من النيل ، وطوال تاريخ مصر الألفى الممتد ، لم تدم شرعية بقاء لحاكم يفرط فى مياه النيل ، ولم يفعلها أحد وراح سليما منذ عهود الفراعنة ، ولا يملك أحد ترف ونزق فعلها ، إلى أن يرث الله الأرض ، ولم يعد من وقت لعتاب ولا لحساب فى سلوك ومراحل التفاوض العبثى ، وأصبح وجود مصر اليوم أمانة فى رقبة جيشها وقيادته العليا ، بعد أن جرى استنفاد كل سبل الدبلوماسية والسياسة ، وانتهينا إلى إعلان حرب خنق مصر من الباب الأثيوبى ، ولم يعد لمصر سوى أن ترد العدوان وتردعه ، وأن تكتب مشهد الختام فى حرب النيل ، إلا إذا تراجعت أثيوبيا فجأة ، وقررت تأخير الملء الثانى لحين التوصل إلى اتفاق ملزم وشامل ، تقبل به الخرطوم والقاهرة .

---------------------------

بقلم: د. عبد الحليم قنديل

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

ليست نهاية حرب





اعلان