تأثير أغنية فريد الأطرش "آدي الربيع عاد من تاني"، عكس أغنية ثومة " يا صباح الخير يا للى معانا".. فريد لما يفرح ينوح، وثومة الراسية ترقص.. غالبا فريد كان واقعيا، بينما ثومة ضاربة وَدَع بقصائد تُبيٍن النفس زٍين.. ما علينا، جولات رئيس حكومتنا بالمناطق الأثرية، وتصريحه إن العاصمة الجديدة لن تنسينا "القديمة "، قلًبوا مواجع ربيعنا قبل غزوة الكباري!! أكدوا أن القاهرة كبرت وتعبت، فلتكن كوبري!
أحكي لكم، أمام بيوتنا بمصر الجديدة "القديمة"، عاشت وترعرعت أشجار أكاسيا وبنسوانا، ظللتنا عمرا، تنبت زهورها والربيع على وصول، تتفتح فنتذكر أبجدية لغتها وترق قلوبنا، ينتهي عمر الزهرة فتهبط بكبرياء تتوسد أرصفتنا، وتجزع أقدامنا من لمسها نابضة لا زالت أو جافة.. عشنا عمرنا في أحضان معرض طبيعي يقدمه خالق الكون العظيم، لنبتهج، ونفهم، ونشكر ونرعاه.. أشجار البنسوانا والأكاسيا رسل الربيع على الأرض، أغصانها فريق باليه أنامله زهور، أشجار تتباهى بتشكيل مظلات دانتيل رحبة، مرحة، ظلال شمسها ترسم صفحة الشارع والبيت رسوم أطفال حرة، حية.. زهورها صريحة تفرش الطريق إلى المطار، ترقص فلامنكو للمسافر بوعد العودة، وتعطر هواء استقباله.
نعم هذا رثاء لأشجار مصر الجديدة، وإعلان لغربتنا، وخوف مما هو آت بغير إرادتنا.
والسبب هو تصريحات رئيس مجلس وزرائنا، عن همة الحكومة لتجميع البشر داخل ناطحات أسمنت.. وبعد جولة بشارع المعز والخيامية، وعد بعدم تهجير أهالي القاهرة التاريخية، وأسماها "العاصمة القديمة!!" ووعد بأن يحافظ التطوير والترميم على النسيج المعماري والحضاري، واعترف أن إهمال المنطقة أفرز أنشطة دخيلة شديدة الخطورة على المنطقة الأثرية!! وتعهد لقاطني المنطقة بأولوية الحصول على الوحدات التجارية المزمع إنشاؤها.. وعلم بمخاوف اندثار الحرف اليدوية نتيجة عزوف الشباب عن تعلمها.. وأعلن اعتزام الحكومة اجراء حوار مجتمعي مع الخبراء وأهالي المناطق الأثرية حول التطوير، وأنه لصالح الدولة والمواطنين.
وأقول لرئيس وزرائنا، أن "لا مساس" و"حوار مجتمعي" باتت توحي بتخدير المريض محدود التعليم، عليل الصحة!
سيادتك رأيت واعترفت وتعهدت وصرحت أن "إهمال مناطق كنوزنا الحضارية هو سبب انهيارها وحتمية تطويرها".. فهل تم حل مشكلة الإهمال وسوء الإدارة!! وما دليل سيادتك قبل إهدار المليارات!؟
مشكلة المناطق الأثرية هي الباعة المفترشين.. أكوام النفايات والحيوانات النافقة تتنافس في الارتفاع وجذب الحشرات والكلاب الضالة، وتحتل ميادين ومداخل شوارع تحيط وتحتضن كثيرا من مواقع كنوزنا الأثرية، والتي تتبع إشراف ومسئولية أكثر من جهة، فمتى حوسب أي طرف منها!؟ ومنطقة مصر القديمة الأثرية هي شاهد حي لأن التطوير نالها، واهمال الرقابة والمحاسبة أتعسها.. سيادتك مصطحبا حشدك، ادخل إلى عمق مواقع أهالي الخيامية، ورضوان بك.. اخترق الشوارع الداخلية التعيسة المواجهة لجامع عمرو بن العاص، الشارع ناصية القهوة، سيصل بكم إلى دير أبو سيفين، ترجل إجباري يسارا إلى شارع ممتد، هو موطن بؤر قمامة ثابتة فوق ينابيع صرف صحي، يفتح على إشراقة شمس الحضارة بمجمع الأديان بعد تطويره، لتواجد الأمن وعمال النظافة. وبإذن الله ستخرج سالما لأن طريق السياح الخارجي مكنوس!! تطهير المنطقة من افتراش الباعة لعرض الشارع، ورصفها بالطوب أو الحجر، يفتح رئة الطريق بأمر دون قرض.. ومن فضلك واحسانك تريث كثيرا قبل هدم محلات قديمة هي الأجمل جدا من التقليد.. روح الأماكن القديمة هي ثروتنا فلا تغتالوها بالتقليد.
أما عن عزوف الشباب عن تعلم الحرف، فالحل - كما الماضي- هو تحفيز تعليم الحرف اختياريا بمراحل التعليم الأساسي لجميع مدارس مصر.. لنفتح مدارس المناطق الأثرية مساء للتدريب والإنتاج، وليكن صناع المنطقة المهرة هم الأساتذة، ويُباع انتاج التلامذة بحضورهم في معارض موسمية بنفس المنطقة، وبمقابل يدعم قيمة العمل، والوقت، والفن، والحياة، وتميز الشخصية المصرية.. لندفع التلميذ للبحث عن المعرفة مش المجموع!! ليكن امتحان الدين هو حاصل تقييم سلوكه في البيت والشارع وورشة المدرسة.. التطوير هو تواؤم التعليم والبيئة.. توفير أساسيات الصحة النفسية للطفل وللمواطن هي بداية نظافة الشارع والعقول والسلوك.. مشكلتنا هي الزحام وسط القبح البصري والتفاوت الطبقي، ورأسمالية التطوير.. أوقفوا تسلق الكباري ومحلاتها لأشجارنا، احفظوا روح الأماكن القديمة، علشان ربنا يبارك تعبكم.
---------------------
بقلم: منى ثابت