19 - 04 - 2024

ثلاثة حمير ذكية وتفاحة مسروقة!

ثلاثة حمير ذكية وتفاحة مسروقة!

على الرغم من الصورة الذهنية السلبية المتداولة عن "الحمار"، فإنني اعتبره "حيواني المفضل"، وأعتبره مثالاً لما يجب أن يكون عليه "الإنسان الصالح"، و"المواطن الرشيد"... والحمار مثل الإنسان، "خُلِقَ في كَبَد"؛ "تعبٌ كلُّها الحياة" بالنسبة للإنسان كما يراها "المعري"، وشقاءٌ كلُّها بالنسبة للحمار كما يراها الإنجليز:"يُدْعَى الحمار للعرس لجلب المياه والخشب ولا شيئ آخر".. سمات "الحمار" وخصائصه تجعله حيواناً فريداً؛ فهو صديق للإنسان، ويعمل بدون انقطاع من غير شكوى أو تبرم، وهو مثال للصبر على المكاره.. الحمار واضح لا يتجمل.. وأمين لا يخون.. ووفيّ لا يغدر.. ولا يشغل نفسه بما لا يعنيه حتى ولو كانت أسفار الحكمة "كمثل الحمار يحمل أسفاراً"، ولدى الحمار سلام نفسي غير موجود عند كثير من الحيوانات، ولذلك يقول المثل الصربي "لا يتعلم الحمار السباحة إلا بعد أن تصل المياه إلى أذنيه"..

ثلاثة حمير تلخّص مواقفنا من كثير من جوانب الحياة المصرية، وتسيطر على اتجاهات تفكيرنا فيها.. نستدعيها للتفكير والاختيار من بينها، دون أن يمثل ذلك أي تقليل من قيمة الموقف، أو من جدية الموضوع..

الحمار الأول هو "حمار بوريدان"، المنسوب إلى الكاهن الفرنسي جان بوريدان (1300- 1358)، وهو حمار كان يعاني الجوع والعطش الشديدين في نفس الوقت، وتم وضعه على مسافة متساوية من مكانين أحدهما فيه الماء، والثاني فيه الغذاء.. وكلَّما همَّ الحمار بالذهاب إلى حيث الماء تذكر أنَّه جائع، وكلَّما همَّ بالذهاب إلى حيث الغذاء تذكر أنَّه عطشان.. والنتيجة أنَّه مات في مكانه.. فلا وصل إلى الماء، ولا تناول الغذاء .. التردد هو الذي أهلكه وأرداه، ولذا قيل "تفلسف الحمار فمات جوعاً".. عدم القدرة على تحديد الأولويات واتخاذ قرار حاسم وحازم بشأنها، يجعلنا "محلك سر".. أحد أسباب أزمتنا الحضارية منذ "محمد على" هو عدم الاتفاق على نقطة البداية، وعلى أولويات البناء.. تعددت مبادرات النهضة، وتجددت اطروحات "من هنا نبدأ"، ولم نصل إلى نقطة الانتهاء، وإلى تحديد "نقطة الوصول" أو "الغاية".. البدايات الصفرية، والنهايات غير المحددة هي المسيطرة على تفكيرنا العام، وهي ما تجعلنا نموت في مكاننا في معظم الأحيان..

الحمار الثاني هو حمار "توفيق الحكيم" (1898- 1987)، وهو الذي نَسَبَ إليه كثيراً من نظرياته في الحياة أيام عمله نائباً في الأرياف، ولذلك سماه "الفيلسوف" أو "الحكيم"، وخصَّص له كتاباً مستقلاً ونسبه إليه (1940).. وهو شكل مبالغ فيه للحمار الطبيعى.. وهو شبيه بعملية التضخيم التي تحدث لمقولات عديد من الشخصيات في حياتنا.. هناك تعظيم لقدرات البعض وتفخيم لأعمالهم، وهو ما يضفي عليهم قداسة غير مرغوبة أو مطلوبة.. نموذج "الحمار الحكيم" نموذج شائع في كثير من مجالات المعرفة، وانتشار هذا النموذج على فترات زمنية ممتدة، أثَّر على مسيرتنا سلباً، وكان عائقاً دون تنفيذ كثير من أحلامنا المشروعة..

الحمار الثالث هو حمار جحا.. ولجحا مواقف عديدة مع الحمار؛ منها أنَّه اشترى عشرة حمير، فركب واحداً منها، ثم عدَّها بدونه فوجدها تسعة، فنزل عنه ثم عدَّها فوجدها عشرة، فركبه مرة أخرى ثم عدَّها فوجدها تسعة، فلما نزل عنه وعدَّها وجدها عشرة، فقال: أنا أمشي وأربح حماراً خير من أن أركب ويذهب منى حمار! فمشى خلف الحمير حتى وصل إلى منزله!.. طريقة العدّ والتقييم مشكلة من مشكلات حياتنا المعاصرة.. كيف نقيّم ما وصلنا إليه؟ وكيف نعدُّ ما حققَّناه؟ وكيف نحصي ما أنجزناه؟ مشكلة التقييم والقياس مشكلة أساسية لم نستطع الوصول إليها حتى الآن.. ولذا "يتشابه البقر علينا"، وتتداخل الموضوعات لدينا.. التقييم الصحيح والقياس الدقيق هو أساس أي عمل مستقبلي، ونحن نفتقد أداة القياس الصحيحة الدقيقة، ولذا فحساباتنا لا يمكن الاعتماد عليها ولا يمكن الثقة بها تماماً مثل حسابات جحا..

مشكلتنا الأساسية في عملية النهضة هي مشكلة ثلاثية الأبعاد: عدم القدرة على تحديد أولويات النهضة وغاياتها، وإسناد المهام إلى غير أصحابها والتضخيم في تقدير قدراتهم، وعدم القدرة على القياس والتقييم لما أنجزناه.. ولذلك تكون "حصيلتنا صفرية" في كلّ مرة، ونرجع من كلّ تجربة اصلاحية "بخفي حنين"، أو كما يقول المثل العربي "ذهب الحمار يطلب قرنين، فعاد مصلوم الأذنين"..

هل كانت تفاحة نيوتن مسروقة؟

تحكي كتب الأساطير أن "اسحق نيوتن" كان جالساً تحت ظل شجرة فسقطت على الأرض تفاحة ألهمته فكرة نظرية الجاذبية.. تماماً مثلما كان "أرشميدس" يستحم في "بانيو" في بيته فألهمته حركة المياة في البانيو "قانون الطفو".. وكأنه لا جهد علمي لسنوات قد سبق سقوط هذه التفاحة، ولا بحث رياضي وفيزيقي ممتد قد سبق هذا الاكتشاف..

وتحكى كتب تاريخ العلم أن نظرية الجاذبية "ملطوشة" جزئياً من أعمال عالم معاصر لنيوتن هو "روبرت هوك" والذي شنَّ حرباً شعواء على تلميذه الذي سرقه، فما كان من نيوتن إلا وقدَّم اعتذاراً لأستاذه وطيَّب خاطره بكلمتين: "أنا مثل قزم يقف على أكتاف عمالقة"!! في إشارة إلى قصيدة "جورج هربرت" “قزم على أكتاف عملاق يرى أبعد من الاثنين”، وإنْ كان ذلك أثار سؤالاً آخر لدى "برنادر بوشارتر": "أيُّهما أهمُّ وأفضل: صلابة العملاق (هوك) أم حداقة نظر القزم (نيوتن)؟"

هناك تلاميذ يسرقون جهد أساتذتهم وينسبون أعمالهم لهم، ويساعدهم في ذلك علاقاتهم، أو قربهم من وسائل الإعلام، أو من السلطة.. وهناك من يسرق جهد تلاميذه وينسب أعمالهم إليه، قهراً وكمداً واستغلالاً، وهو النمط الغالب.. "الكتابة بالوكالة هي نوع آخر من السرقة العلمية وإن كانت بالتراضي.. هناك من لا يجيدون "فك الخط" ويملأون الدنيا بكتاباتهم وبعلمهم الغزير عن طريق "الكاتب الشبح"!.. وهناك من يحصل على تكريمات وجوائز مرموقة بكتابات مسروقة ومنحولة.. جوائز كثيرة تُمْنح لمن لا يستحق، وتكريمات كثيرة يتم الحصول عليها بالعلاقات وليس بالكفاءة.. الحصول على جوائز وتكريمات بأساليب غير مشروعة، مثله مثل الرياضيين الذين يحصلون عليها عن طريق المنشّطات أو بمساعدة الحكام.. لا فرق!

في رائعة نجيب محفوظ (المرايا 1971) تحليل عميق لشخصية "جاد أبو العلا" الذي كان "عادي الذكاء أقرب إلى السطحية ذا طلاء ثقافي بلا أعماق"، و"هو في نظر الجميع محب للفن وربما للشهرة أكثر ولكن بلا موهبة يعتد بها" .. وكان تاجراً ميسوراً "صمم على أن يكون أديباً وأن يكمل ما ينقصه من موهبة بماله"، فكان يغدق المال على البعض لكتابة روايات له، وينفق بسخاء على النقاد لكتابة مقالات إشادة به، ويعرض الهبات العظيمة لكي تترجم أعماله إلى اللغات الأخرى، ويقدم الخدمات الجليلة إلى المسئولين لكي يفوز بجوائز الدولة.. ويتساءل نجيب محفوظ "أي لذة حقيقية يجنيها من جهده الضائع وهو أول من يعلم أنه يزيفه؟ (....) لعله انتهى بتصديق نفسه"!

"مرجان أحمد مرجان" شخصية شديدة القرب من "جاد أبو العلا".. مرجان يستطيع أن يكون أديباً، ورياضياً، وفناناً، ويستطيع أن يحقق كل رغباته عن طريق الحل السحري المعروف "الشاي بالياسمين"، حتى في الحب استطاع "مرجان أن يحب جيهان" وأن يرغمها على حبه من خلال المال، وإن تم تغليفه بأشياء أخرى قيمة ليس من بينها سيارات الرولزرويس الفاخرة!

كثير من رجال الأعمال يحبون أن يضيفوا لقب "دكتور" إلى أسمائهم "لزوم الوجاهة الاجتماعية" لكي يصبح "الوجيه الأمثل" كما كانوا يطلقون عليه قبل عقود .. ولا تسألني كيف يحصلون عليه في أيام معدودات، فالطرق كثيرة، والجهات متعددة.. غير أن "حرف الدال" وحده ليس كافياً في كثير من الأحيان، ولا يشبع تطلعاتهم في كثير من الظروف، ولأن "الشيء لزوم الشيء" فلابد أن يتحول الدكتور إلى مفكر، ومن ثم يتم إسناد هذه المهمة إلى "بعضهم" ، ويظهر لهذا الدكتور "كتب متخصصة" ، و"مقالات رصينة" ، و"مراجعات عميقة"، و نتيجة لأن المصدر واحد في الغالب، يصبح "كله عند العرب صابون"، ونعيش في غابة من الأقزام المـتعملقين في عالم الفكر.

المشكلة ليست في الحصول على ألقاب دون أن يقابلها علم، ففي كلّ مجتمع عبر التاريخ نماذج كثيرة لذلك، المشكلة أن يبرز هؤلاء باعتبارهم المسئولين عن أوضاع البحث العلمي، والمكلفين بإصلاح أحوال الثقافة.. تخيل أن "جاد أبو العلا" أصبح وزيراً للثقافة، و"مرجان أحمد مرجان" رئيساً للجنة قطاع الدراسات النووية(!) في المجلس الأعلى للجامعات، والدكتور المفكر رجل الأعمال رئيساً للجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس النواب.. لا شك، ستكون النتائج كارثية، وسنكون جميعاً في مهب الريح.

لدينا عمالقة تم تقزيمهم، ولدينا أقزام متعملقون بفعل عمليات النفخ والحشو السائدة.. والسؤال "ما فائدة قزم غبي يقف على أكتاف عملاق ذكي؟"!
--------------------------
بقلم: د. أيمن منصور ندا *
* نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات اخرى للكاتب

أزمة منتصف العمر وخاتمته!





اعلان