19 - 04 - 2024

"النقض" في حيثيات إدانة "محمد عبدالله نصر": الشريعة الإٍسلامية لا تطبق في بلادنا!!

دهشت وتحيرت من حيثيات تأييد محكمة النقض للحكم على الشيخ "محمد عبدالله نصر" بسنتين سجن وغرامة ألف جنيه بسبب تفسيره لآية قطع اليد في القرآن. رأي الشيخ "نصر" (وهو أزهري وحاصل على ليسانس أصول الدين) أن المعنى في القطع الوارد في الآية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" ليس هو معنى "البتر"، ولكن يحتمل معنى القضاء على دوافع وأسباب العوز التي تؤدي بالسراق للسرقة، أي بمعنى قطع الطرق المؤدية للسرقة وليس قطع أيدي السارقين على نحو حرفي، وهو يستند في هذا التأويل إلى قاعدة "الدقة المعجزة للفظ القرآني"، مما يحتم أنه لو كان المقصود قطع يد السارق ويد السارقة أن يقال: "فاقطعوا يديهما" وليس "فاقطعوا أيديهما"، وإن كان يمكن التجوز في الجمع معنويا من الجهة اللغوية، رغم أن السارق والسارقة مثنى، إلا أنهما يمثلان جنسا أو فئة من الناس، وهو من عادة العرب في الكلام والتعبير.

حتى هنا يمكن القول أننا أمام شكلين مختلفين من أشكال التأويل للنص القرآني، مهما كانت وجوه الضعف والنقص التي تعتري أحدهما، لكن حيثيات تأييد محكمة النقض للحكم بسنتين سجن على الشيخ "محمد عبدالله" أرتأت تقدير تأويله على أنه ليس بتأويل، ووصفته بأنه "كلام" في عبارتها: "هذا الكلام يفتح باب التطاول على أركان وحدود الإسلام والتشكيك فيها، وكل يفسر على هواه، ويأتى يوما علينا وعلى من يأتي بعدنا يصعب أن يستنبط الحق من كثرة الباطل والخبيث الذي انتشر، تحت اسم حرية العقيدة والفكر"!!. ومبدئيا تتضمن العبارة المنقولة نصا عن جريدة "المصري اليوم" خطأ فادحا من الجهة اللغوية يجب تصحيحه، وإن كنت أعزوه في الغالب إلى نقل خطأ من الجريدة ولا أتصور وجوده في نص الحيثيات، فالصحيح أن يقال "ويأتي يوم" على تقدير الفاعل المرفوع في الجملة وليس "يأتي يوما" على تقدير المفعول المنصوب، ورغم بساطة الخطأ إلا أن هناك ضرورة في الإشارة إليه مادام الحكم متعلقا باختلاف لغوي دقيق في التأويل. 

لكن الملاحظة المثيرة للدهشة العميقة والحيرة الشاملة في العبارة، هو أنها اعتبرت اختلاف الشيخ "نصر" في تأويل الآية داعيا إلى "التطاول على أركان وحدود الإسلام والتشكيك فيها"، وعزوها إلى الهوى في التفسير، وأيضا تقدير وجود خطورة في أن تؤدي بنا إلى يوم يصعب فيه استنباط الحق من كثرة الباطل والخبيث. ومصدر الدهشة والحيرة في ذلك هو أن الشيخ "نصر" ليس هو أول من قال بهذا التفسير لآية قطع اليد في القرآن، بل قال به غيره أشهرهم كان القانوني العظيم "عبدالعزيز باشا فهمي" رئيس محكمة الاستئناف السابق وأول نقيب للمحامين في التاريخ المصري، فقد كان يرى سيادته أن قطع اليد الوارد في الآية هو بمعنى تأمين العمل للسارق حتى نكفه عن السرقة، وهو تأويل يستند على التفرقة بين "البتر" و"القطع" والأسانيد اللغوية التي تحدد المعنى المراد بهما من خلال الفرق في الاستخدام، وهي أسانيد لغوية تدخل في باب الاستخدام المجازي للقطع بعضها يرجع لآيات قرآنية، مثل قوله تعالى في سورة يوسف: "فقطعن أيديهن" لوصف خدش النسوة لأيديهن بالسكين، ومثل استخدام القول السائر في كلام العرب عن"قطع اللسان" بمعنى "منع الشخص من الكلام والحديث" وهلم جرا. هذا التأويل على شهرة وذيوع وطول مدة عزوه إلى صاحب العزة "عبدالعزيز باشا فهمي" لم يفكر أحد في أن يوجه إليه تهمة التطاول على أركان وحدود الإسلام أو التشكيك فيها، كما أن هذه الشهرة والذيوع لم يؤديا إلى ذيوع الباطل والخبيث، ولم يصعب على الناس معرفة الحق من الباطل، وهو خطر تقديري حتى وإن كان متوقعا إلا أنه ليس بواقع، ومن ثم قد يصعب على المستشرف الحكم عليه كجريمة!.

على ذلك، فليس تقدير محكمة النقض الموقرة لخطورة هذا التأويل هو أكثر ما أثار دهشتي وحيرتي في حيثيات الحكم، لأن محكمة النقض قد لا تكون قصدت بهذا التقدير الاختلاف في تأويل الآية في حد ذاته، وإنما قصدت طريقة الشيخ "نصر" المثيرة والمربكة في إذاعته، لأن عبارات أخرى من الحيثيات المنشورة في جريدة "المصري اليوم" تقول أنه: "ثبت لـ"النقض" أن المتهم يقول إن هناك كارثة اكتشفها وهي أنه لا يوجد بتر ليد السارق في القرآن الكريم، وأن القطع ليس المقصود به البتر"، وهي عبارة وإن عكست سذاجة الشيخ "نصر" وقلة إطلاعه عمن قالوا بنفس رأيه إلا أنها لا تشي بشكل آخر من أشكال الخطورة فضلا عن الجرائمية. إنما الحقيق بالدهشة والحيرة من وجهة نظري تلك العبارة التي تسبق ذلك وتصف الشريعة الإسلامية بأنها: "التي لا تطبق في بلادنا إلا أن جميع القضاة يقرونها ويقدرونها"، ولا خلاف ولا دهشة في أن تقر المحكمة وأن يقر قضاة مصر وقضاة العالم بالشريعة الإسلامية، كما يقرون ويقدرون كل الشرائع العظيمة التي لعبت دورا كبيرا في تاريخ المجتمعات البشرية، إلا أن المدهش مع القول بأن الشريعة الإسلامية لا تطبق في بلادنا، التوقف عن ذكر أسباب عدم تطبيقها، وهو أمر ليس بالهين أبدا من وجهة نظري، إلا في حالة أن تكون الحيثيات ذكرت هذه الأسباب وأغفلتها الجريدة التي اقتطعت هذه العبارة منها، فمن المعلوم أن لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية أسباب كثيرة مطولة، منها تقادم بعض أحكامها وعدم القدرة على تطبيقها لعدم ملائمتها لأوضاع المجتمع المصري وسائر المجتمعات الحديثة، وعلى رأس تلك الأحكام غير المتلائمة، أحكام العقوبات البدنية عموما، بما فيها عقوبة قطع يد السارق على المعروف أيضا من صعوبة توفر اشتراطاتها الفقهية، وهو ما حدا بالمحكمة العليا السعودية في أبريل 2020 إلى إيقاف تطبيق أحكام الجلد كعقوبة بدنية في مختلف القضايا، وقد عزت المحكمة العليا السعودية ذلك إلى "التطورات المحققة في مجال حقوق الإنسان"، مما يعني إقرار المحكمة السعودية بأن العقوبات البدنية تدخل في باب الماضي التشريعي للمجتمعات. 

وبالطبع يطول النقاش في ذلك إنما ما يهمنا هو أن ما لا يستهان به في عدم ذكر محكمة النقض لأسباب عدم تطبيق الشريعة في مصر غير خاف، ذلك أن أحد أهم دوافع الإرهابيين تجاه ارتكاب جرائمهم هو - على حد زعمهم - أن الشريعة الإسلامية لا تطبق في بلادنا، وكان الواجب أن تشفع محكمة النقض المصرية أسباب عدم تطبيقها بقولها ذلك، حتى لا تترك بابا مفتوحا لتدليس الإرهابيين والمتطرفين، ولا أشك أبدا في أن هؤلاء لن يترددوا بإزاء التدليس على الناس وتقديم حيثيات محكمة النقض لهم بوصفها اعترافا بالتقصير في تطبيق شرع الله، أو ما هو أفدح من الاعتراف والتقصير بكثير، تعديا إلى التكفير على عادتهم الذميمة. ولايزال حكم محكمة النقض والكيفيات التي يمكن أن يستخدم بها دليل على أننا لانزال - بعد أكثر من سبعة أعوام من الخلاص من حكم جماعة الإخوان الإسلامية الإرهابية - نواجه في بلدنا العزيز خطرا عظيما. فرغم أن المادة 64 من الدستور المصري تعتبر حرية الاعتقاد حقا مطلقا، إلا أن ما تحاط به حرية الاعتقاد من قيود ومحظورات، وما تجلبه ممارسة حرية الاعتقاد من أذى ومكاره تجعل من الصعب - وربما من المستحيل في بعض الحالات كحالة الشيخ "نصر" - ممارسة هذا الحق الدستوري.
------------------------------
بقلم: عصام الزهيري *
* نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان