08 - 05 - 2025

كيفين ماكدونالد: حين يأسر بطل القصة المخرج والممثلين تنتج تحفة فنية إسمها "الموريتاني"

كيفين ماكدونالد: حين يأسر بطل القصة المخرج والممثلين تنتج تحفة فنية إسمها

الفيلم وثيقة درامية عن سجين بـ "جوانتانامو" تجسد صدقا فنيا نادرا وتؤصل التداوي بالتسامح 

خاض المخرج الاسكتلندي "كيفن ماكدونالد"، الحائز على جائزة الأوسكار مرتين عن أفلامه فى شعبة الدراما الوثائقية، تجربة سينمائية شديدة الخصوصية فى فيلمه الأمريكي الجديد "الموريتاني/ The Mauritanian"، الذى حقق، فى يوم واحد، مليون مشاهدة عقب بث إعلانه الترويجي، ليتجاوز بعد ذلك ملايين المشاهدات خلال أيام قليلة. وقد بدأ عرض الفيلم فى دور العرض السينمائية فى 19 فبراير، وكان ضمن ترشيحات جائزة "جولدن جلوب"، حيث انتزعت الفنانة "جودى فوستر"جائزة أفضل ممثلة مساعدة فى الفيلم، كما يتوقع النُقاد أن ينافس الفيلم على جوائز الأوسكار فى أبريل من هذا العام .

الفيلم بطولة الفنانة الأمريكية "جودى فوستر" والممثل البريطاني "بنديكت كامبرباتش" والممثل الفرنسي من أصل جزائري "طاهر رحيم"،وهو مأخوذ عن كتاب "مذكرات جونتانامو"، الأكثر مبيعاً في صحيفة "نيويورك تايمز"، الذى كتبه المُعتقَل الموريتاني "محمدو بن صلاحي" من داخل زنزانته فى سجن "جوانتانامو" الذى قضى به 14 عاماً دون وجود لائحة إتهام واضحة أو أدلة جازمة ضده. وبمساعدة المحامية الأمريكية "نانسي هولاندر" تمكن "صلاحي" من استرداد حريته والعودة مرة أخرى إلى دياره فى نواكشوط..

على الرغم من أن الجانب الوثائقي والمعلوماتى فى القصة كان مثيراً للغاية، إلا أنه لم يكن عامل الاستثارة الأساسي لدى طاقم العمل، لكنها "المساحة الشعورية" المتعلقة ببطل القصة الحقيقي، حيث قالت الفنانة"جودى فوستر"،المعروفة بانتقائيتها الشديدة لأدوارها، إنها عندما التقت "صلاحي" أدركت حقيقة كونه شخصية جديرة بالحكي،لأنه يقدم نموذجاً لعالم أكثر انسانية بفضل إرادته وقدرته على التسامح و قوة عقيدته التى جنبته الانزلاق فى منعطف اليأس والإحباط، فيما يقول الفنان الفرنسي من أصل جزائري "طاهر رحيم" الذى قام بشخصية "صلاحي": "لقد جسد العمل تحدياً كبيراً بالنسبة لي، ولكن كان كافياً أن يقدم فيلم أمريكي، للمرة الأولى، شخصية مسلمة بهذه الإيجابية، كي أقبل هذا التحدي".

أما "ماكدونالد"،صانع الأفلام ذات التيمات المثيرة للتأمل و التفكير، شغفته فضيلة "التسامح" التى تحلى بها "صلاحي" وقُدرتها الهائلة على تبديل الواقع مهما بلغت قسوته، باعتبارها ممحاة لسوء الفهم والسبيل لفتح صفحات جديدة. يشرح "ماكدونالد" لموقع "Screen Rant" مقاربات التمثيل المختلفة التى دارت بين نجوم العمل، وكذلك مساحته الشخصية التى رأى من خلالها "صلاحي" بطريقة لفتت انتباهه لفرضية أهم، وهى، أن التسامح لغة عظيمة للتداوي.

* من السهل جدًا الاستغراق داخل أحداث الفيلم و تناسي كونها قصة حقيقية، لولا إيضاح ذلك في نهاية الفيلم.. تُرى ما الشىء الذى دفعك كـ "مخرج" لخوض هذه التجربة وما الشىء الجدير بالتوقف عند قصة "محمدو" ؟

النهاية كانت، بالنسبة لى، هى نقطة الانطلاق نحو البداية.. النهاية المنصفة التي توجت قصته كانت الشيء الثمين وسط كل هذا الزخم، والدافع الرئيسي الذي جعلني أرغب في سرد قصته. الاختلاف، فى رأيي، كان يتمثل فى "محمدو" نفسه كشخص؛ ذلك الناجي من تجربة قاسية، ومع ذلك لا يزال يحتفظ بابتسامته. لقد انتصرت مشاعر التسامح داخله وحسمت صراعه لصالح المستقبل وليس الماضي، الأمر الذى مكنه من المضي قدماً فى حياته بصورة، أظن أن أغلب الناس لا يستطيعون محاكاته فيها.. مشاعرالغضب والألم والفقد ربما تستهلك الغالبية ولا تدع لديهم مساحة للمواصلة، لكنه بفضل قدرته على التسامح، أمكنه محو التجربة، أو على الأقل لم يدعها تطفو وتسيطر على ما تبقى لديه من وقت.. لقد أزاحها بصورة جديرة بالتوقف والسرد والاعجاب أيضاً.

* بدا واضحاً أنك كمخرج و "طاهر رحيم" كممثل، قد تمسكتما بالجانب المتفائل من الأحداث... هل كان لديك تفاهماً وانسجاماً مع "رحيم"، نظراً لعملكما المشترك معاً من قبل ؟

نعم، عملنا معًا، منذ حوالي 12 عاماً، في ظروف مختلفة جدًا، حيث لم يكن "طاهر" يتحدث الإنجليزية آنذاك. كنت قد شاهدت، للتو، فيلمه الرائع "نبي/ prophet"، الذي لفت انتباه الجمهور إليه، وأحببت أن استعين به في فيلمي"النسر/ The Eagle"، وهو ملحمة رومانية بطولة الممثل الأمريكي "تشانينج تاتوم" حيث قمنا بتصويره في اسكتلندا. كنت بحاجة إلى شخص يلعب دور الأمير "الغيلي" - نِسبة إلى اللغة الغيلية الاسكتلندية القديمة- الذي يحلق رأسه ويرتدي الفراء، ويتسم بالعنف الشديد، ولا  يتحدث الإنجليزية. قال طاهر : "نعم، يمكنني القيام بذلك وحفظ هذه السطور. سأتعلمها صوتيًا، فهي مثل اللهجة العربية." من هنا تعمقت معرفتنا، وعلى مر السنين، رأيته يتعلم اللغة الإنجليزية بشكل أفضل وأفضل. عندما قابلت "محمدو" وتحدثت معه، أدركت كم هو شخص رائع وفكرت على الفور فى "طاهر"؛ لم يكن هناك من هو أجدر منه بلعب الشخصية.

كنت أعلم جيداً  إنه دور يصعب على أي ممثل القيام به، ولم أكن أعرف مدى إمكانية ذلك بالنسبة لـ "طاهر". لقد عمل بجد وكرس نفسه للشخصية بصورة لم اتوقعها، وإن كنت تنبأت بها.. أخبرني كم أن هذه الشخصية مهمة له، بشكل خاص، لكونها شخصية عربية مسلمة. واعتبرها فرصة نادرة - في فيلم أمريكي- لتجسيد شخصية مسلمة متعاطفة وإيجابية طوال سير الأحداث. كان يعلم أن ذلك له وزن كبير ويفرض عليه مزيد من المسئولية تجاة أدائه للشخصية، بل وكان محتفياً جدًا بقصة "محمدو" لدرجة أنه أراد أن يروي قصته بأعلى درجات المصداقية. لقد بذل كل ما فى وسعه كى يتلبس الشخصية، وعانى كثراً للاقتراب منها. كان يرتدي سلاسل وقيود حديدية حقيقية، وكانت ساقاه تنزفان وأخذت وقتاً حتى تطيب. كما أصر على عدم تناول الطعام لمدة ثلاثة أسابيع. لم يأكل سوى بياض بيضة واحدة فقط يومياً، وخسر حوالى 10 كيلوجرامات فى أسبوع، لذلك كنت قلقًا عليه للغاية. وتواصلت مع الطبيب عدة مرات للاطمئنان على عدم دخوله فى حالة صحية حرجة. لقد كان شديد الحماس والشغف تجاه ما يفعل.

في نفس الوقت، هناك قواسم مشتركة جمعت بين"طاهر" و "محمدو"؛ هما يتشاركان نفس الروح الوثابة المحبة للحياة . كان "طاهر" ينتهي من تصوير لقطات مكثفة للغاية، ليقوم بعدها بالدردشة والمزاح مع طاقم العمل ومقدمي الطعام وفريق التصوير، ثم يدخن سجائره اللانهائية، ويشرب الكثير من الإسبريسو. يمكنه الدخول والخروج من وإلى الأحداث بطريقة سلسة راقتني كثيراً. كان يشبه حقاً "محمدو" من حيث الإيجابية والعذوبة والتصالح مع الحياة. تحدثنا كثيراً عن الصورة الذهنية التى رغبنا أن يبدو عليها، فى بداية الأحداث، أردناه مريباُ وغامضاً ومثيراً للشكوك. كانت هناك ضرورة فنية لإثارة مساحة من الغموض بشأنه، بعض الشيء. لكن مع ذلك، يظل هناك شىء ما خفي يجعل الأخرين مفتونين به بغض النظر عن هذه الريبة. كنا نختبر كل المستثيرات التى تُدخله فى حالات انفعالية مختلفة، بحيث ينتقل، فجاءة وبصورة منطقية، من العذوبة إلى العدوانية والعكس، وذلك بفعل الصراع الإنساني الدائر داخله. بالنسبة لي، أحسبها تجربة فريدة أن أكون قادرًا على العمل مع ممثل يمكنه معايرة الأشياء كثيرًا حتى نصل للنغمة الشعورية الصحيحة في بعض اللقطات المختلفة.

استمتعت أيضاً بحماس"جودي فوستر" و "شايلين وودلي" ، وهما أمريكيان جدًا في نهجهما بشأن كيفية أداء المشاهِد والنقاش معهما مثمر للغاية. كانا يجلسن ويشاهدن "طاهر" ويقلن لي : "رائع.. هذا أشبه بامتلاك مقعد أمامي فى مسرحية من بطولة شخص واحد... إنه رائع للغاية ويشعرنا بالاكتفاء، والكثير مما يفعله يأتي من تلقاء نفسه بفعل الارتجال". عن نفسي، أسرتني لحظة بعينها، قرب نهاية الفيلم، حين يلقي "طاهر" ذلك الخطاب في المحكمة. لقد فعل ذلك بشكل تلقائي لدرجة أنني في تلك اللحظة، علمت أن هذا سيكون مذهلاً. وبعد أن انتهى من كلماته التى ألقاها أمام هيئة المحكمة عبر شاشة من محبسه، استدار إلى "ستيف"، الحارس الذي صادقه فى السجن، وقال له: "هل سمعوني؟". قالها هامساً مستجدياً، متشبثاً بأمل أن تنفُذ كلماته إلى هيئة المحكمة.. كان يتوق إلى حياة يحاول استعادتها بسكينة ويقين.

* أحببت تطور أحداث الفيلم، والطريقة التى بدأت "نانسي" تنظر  بها إلى "محمدو" كـ "إنسان" وليس كـ"متهم" تترافع عنه، خاصة بعد أن كشفت الملابسات  كونه بريئاً . تُرى، كيف كانت الطريقة التى رُسِم بها ذلك التصاعد الدرامي بالاشتراك مع "السيناريست" ومع "جودي فوستر"؟

- هذا من أصعب الأمور التى حاولنا وضعها فى نصابها الصحيح. من المعروف عن "فوستر" أنها تنتقي أدوارها بعناية ولها نظرة عميقة فى الشخصيات التى تقوم بأدائها. قبل كل شيء، أرسلت لها النص، وبدا أنه لا توجد طريقة كي تقبل الدور فى بادىء الأمر . ولكن بشكل مثير للدهشة، بعد مرور ثلاثة أيام، كتبت إليّ مرة أخرى قائلة: " أحببت حقاً عنوان الفيلم، وهو ما جذبني إليه، ثم قرأت النص، وأعتقد أنه مثير للاهتمام حقًا. دعنا نتحدث عنه. لدي بعض الأفكار". التقينا عدة مرات وناقشنا النص وعملنا مع كاتبى السيناريو "روري هينز" و"سوهراب نوشيرفاني". لكن"جودي" كانت دائمًا تقول: "أعطني مساحات أقل داخل النص. هذا الفيلم ليس عنيّ، ولكن عن محمدو..لست بحاجة إلى كل هذه الخلفية الدرامية، لأن الناس سيعرفون شخصية نانسي في أول مشهدين. لكن "محمدو" هو محور هذا العمل".. كانت رائعة  حقاً، لأنه من المعتاد أن يسعى كل ممثل للتكريس إلى مزيد من المشاهد التى تخصه وتُزيد من تعاطف واشتباك الجمهور معه، لكن مع "جودي" الأمر مختلف.. دائماً ما قالت لى: "أستبعدني من ذلك" .

ثم نصل إلى الـ "ماستر سين"؛ وهو المشهد المفضل لدي في الفيلم، حيث تدرك "نانسي" حقيقة ما مر به "محمدو" وتتأكد من براءته  وتذهب لزيارته للمرة الأخيرة في زنزانته، وهى زيارة أشبه بالاعتذار.. بدت صلبة ومتماسكة، ولكن يمكنك أن تشعر بذلك الأخر المحطم داخلها.. هى حقاً تمتلك ذلك "الآسى" الذى ينضج في الداخل، وهو ما تجيد "جودي" التعبير عنه باحترافية.وكأنها تقول لك: "أنا قاسية، لا تقترب كثيرًا"، لكن يمكنك استشعار أن هناك شخص ضعيف وهش للغاية يختبىء بالداخل خلف ذلك القناع. ذكرتني كثيراً بشخصية "كلاريس ستارلينغ" التى لعبتها فى فيلم "صمت الحملان".وهو الشيء الذي جعلني أرى أنها الشخص المثالي للقيام بدور "نانسي هولاندر". عندما تصل "نانسي" إلى تلك اللحظة الانسانية وتتهشم الحواجز، تتحول إلى "إنسانة" تدافع بضميرها، وليس بمهنيتها. حتى وصولها لهذه اللحظة كانت تعتبر "محمدو" مجرد "متهم" تترافع عنه. ولكن بعد أن تجلت أمامها الحقائق، اعتبرته قضيتها الشخصية.

لدى "نانسي" قاعدة تقول: "لا أقترب كثيرًا من عملائي، لأنهم مذنبون دائمًا." ولم يكن يهمها ذلك، لأنها تقوم فقط بمهمة تمثيلهم دستوريًا. لكنها مع "محمدو" ترافعت عن قناعة بقضيته وإصرار على تبرئته. ومنذ تلك اللحظة، صارا قريبين جدًا فى الحقيقة. لقد ظلت على مدارالسنوات السبع الأخيرة التي قضاها في السجن، تذهب إليه فى محبسه كل شهر؛ هي و مساعِدتها "تيري" ويدفعان من جيوبهما الخاصة؛ كانا يسافران إلى هناك لمجرد الحفاظ على معنوياته وتعضيده نفسياً والبقاء برفقته. أحببت، بشكل خاص، ذلك المشهد الذى زارت "نانسي" فيه "محمدو" دون وجود مستجدات فى سير القضية، حيث مدت يدها ووضعتها فوق يده وقالت له: "أردت فقط ألا تكون بمفردك وأن تعرف أننى هنا معك ولن أتركك حتى تخرج للحياة مجدداً".. تلك اللفتة الصغيرة وضغطة يدها  فوق يده، كانت دليلاً انسانياً عل أهمية التواصل البشري، بل وكانت كافية لاختزال مجلدات عن أهمية الدعم النفسي لمن يمرون بتجارب قاسية. هكذا تجلت براعة "جودي"، فعلى الرغم من حرصها على مساحات غير مفرطة فى الظهور، لكنها مساحات فاعلة ذات دلالات طويلة الأمد لدى المتلقي.

لقد أحببت أيضًا الجزء اللايف الذى جاء فى نهاية الفيلم، مُوثِقاً لحظات حقيقية بين "نانسي" و "تيرى" و "محمدو" عقب الإفراج عنه وعودته إلى دياره،والتى وصفت شكل علاقتهم الانسانية بعد أن انتهت علاقتهم القانونية ؟

- نعم،  أدركت الآن أنه كان عليّ وضع تعليق على تلك المادة فى ختام الفيلم والتى كانت تزييلاً وثائقياً مكثفاً في النهاية. تناولت هذه المادة تفاصيل ولقطات من واقع ستة أو سبعة أيام بعد إطلاق سراح"محمدو" من غوانتانامو، حيث كانوا جميعاً معاًعلى الشاطئ، عندما أهدى "محمدو" كليهما قلادة للذكرى. ثم مشهد مطالعته نُسخاً من مذكراته التى طُبعَت بأكثر من لغة. كان قد خرج للتو قبل سبعة أيام  من السجن، بينما نانسي وتيري ينتظران خروجه. لكن الحكومة الأمريكية أبقت موعد إطلاق سراحه غير معلن. لذلك لم يكتشفا الأمر، إلا عندما وصل إلى هناك. اتصل بهم، فقفزوا على متن طائرة وأمضوا أسبوعاً معه. ثم جاء ختام الفيلم وهو يغني أغنية Bob Dylan من فيلم The Big Lebowski، لكونه فيلمه المفضل. هكذا أراد الختام وله ما أراد  "ضاحكاً ".

لقد قلت إنك كنت حذراً قليلاً بشأن قبول الفيلم حتى تحدثت مع محمدو.. كيف غيرت هذه المحادثة رأيك وحسمت قرارك بشأن العمل؟

- قرأت الكتاب- يوميات جوانتانامو- الذى استندت إليه أحداث الفيلم و عمل عليه ثلاثة من كُتاب السيناريو. فكرت كم أن هذا الكتاب بمثابة وثيقة رائعة من داخل "جوانتانامو". لكنني لم أتمكن من القبض على زاوية تناول تروقني، ولم أستطع رؤية الطريق وصولاً إلى جمهور أكثر انتشارًا. لم أرغب في صنع فيلم للأشخاص الذين يهتمون فقط بمعرفة مثل هذه الأشياء. هى مشكلة حقيقية في الأفلام الليبرالية القائمة على القضايا، حيث لا يراها إلا الليبراليون المهتمون بهذه التيمات. لكنني أردت أن أصنع فيلمًا يكون له نطاق جماهيري أوسع من ذلك. ومن الواضح أن وجود فريق عمل رائع ساعدني فى تحقيق هذه الغاية. لكن المفتاح بالنسبة لي كان عندما تحدثت إلى "محمدو". لقد شعرت بالتخوف بعض الشيء، لأن هذا الرجل قضى 14 عامًا في السجن، وقد تعرض للتعذيب واتُهم بأنه أحد منظمي أحداث 11 سبتمبر. رسمت له صورة ذهنية نمطية تحاكي أى شخص فى نفس موضعه، وكيف سيكون غاضباً جداً ويحمل نبرة شديدة العدائية للغرب. لكنه فاجأنى، وبدلاً من ذلك، وجدته ذلك الرجل الذى لا تفارقه الابتسامة وكأنها بطاقة التعرف الأولى التى بددت كل مخاوفي. أخبرني أنه شاهد أفلامي عندما كان في غوانتانامو .كان يغني أيضاً بعض الأغاني الغربية الريفية التي تعلمها من أحد الحراس الذين صادقهم فى السجن. ثم أخبرني بما حدث له وانفعلت معه بشدة، ولم استوعب كم التعذيب والضغوط النفسية التى تعرض لها داخل السجن لانتزاع اعترافات عارية من الصحة.

سألته سؤالاً مباشراً حين اِلتقيته بعد مرور حوالي عام على خروجه من المحبس، قائلاً : "هل تقاضي الحكومة الأمريكية؟" –- كررت عليه السؤال بصيغة أخرى : "هل تطالب بتعويض عما حدث؟"  فضحك، وأجابني:  "لا.. لماذا أفعل ذلك؟ أنا لن أكترث لشىء سوى التهام ما تبقى من حياتي. أريد المضي قدمًا فيها وألا أضيع وقتاً أكثر من ذلك." .. فى تلك اللحظة أدركت أننى لابد أن أصنع فيلماً عن هذا الرجل. لقد رأى "التسامح" سبيله الآمن للتداوي ولاستكمال حياته، وهو بالطبع أمر ليس سهلاً و يصعب على الأغلبية فعله.

* كان مدهشاً، بالنسبة لي، أن يقوم الممثل البريطاني Benedict Cumberbatch، و هو فى الاصل منتج للفيلم، بالقفز إلى ساحة الأداء التمثيلى و القيام بدور ممثل الادعاء العسكرى الكولونيل "ستيوارتكوتش/Stu Couch" .. ترى كيف كان شكل تعاونكما، وكيف استطاع أن يوازن "كامبرباتش" بين هاتين الوضعيتين داخل الفيلم ؟ 

- فى عام 2016، عندما نُشرَت مذكرات "محمدو" فى كتاب - وهو السبب الأهم فى رأيي خلف حماس "كامبرباتش" -كان لا يزال "محمدو" في السجن. وقد قام بنشر مذكراته ناشر بريطاني، حيث قامت دار النشر بجعل بعض المشاهير يقرأون مقتطفات من الكتاب للمساعدة في تنقيحه و نشره."بنديكت كامبرباتش"، المنخرط جدًا في قضايا حقوق الإنسان، كان أحد الأشخاص الذين قرأوا الكتاب و رأى أن هذه المذكرات مثيرة حقاً للاهتمام. فى تلك الأثناء، بدأ في تدشين شركة إنتاج واشترى حقوق ملكية الفيلم. وهو الذي أرسل لي الكتاب للإطلاع عليه. وكان  صاحب فكرة تحويله إلى عمل سينمائي. فى الوقت الذى عكفنا فيه على تطوير محتوى الكتاب وتحويله إلى نص سينمائي، كان يطلع عليه "كامبرباتش" بين الحين والآخر.  القصة كانت معقدة للغاية و من الصعب جدًا فهمها بشكل صحيح، حيث اعتاد "بنديكت" تقديم بعض الملاحظات حول السيناريو. وقبيل أن نوشك على إرسال النص لأحد الممثلين لأداء شخصية الكولونيل "كوتش"- حيث كنا نلتقي مع جودي و طاهر، وقمنا باختيار "شايلين"ومازلنا نفكر فى الشخص المناسب لأداء هذه الشخصة العسكرية - قال بنديكت : "لا ترسل النص إلى أحد. أريد أن أقدم ذلك بنفسي.. هذا جزء عظيم من الفيلم أرغب فى أدائه"

"بينديكت" شخصية بريطانية كلاسيكية للغاية. لذلك لم يفكر وقرر على الفور أنه سيلعب هذه الشخصية البحرية ذات الخلفية العسكرية السابقة.. كانت شخصية "كوتش" لها تحولات نفسية كبيرة ومعضلات متشابكة؛ لقد كان وطنياً حتى النخاع وعضوا دائما في الحزب الجمهوري ورجل عسكري ولديه أيضًا ضغينة شخصية نحو "محمدو"، لأن أحد أعز أصدقائه كان ضمن الطيارين الذين لقوا حتفهم  أثناء أحداث في 11 سبتمبر،ومن ثم كان يرغب فى تجريم "محمدو" والمطالبة بإعدامه. لكنه بدأ تدريجياً فى فهم الكواليس التى دارت حول عملية اعتقال "محمدو" التى استندت إلى تكهنات دونما وجود دلائل قاطعة على تورطه. ومن ثم قرر أن يفعل شيئاً شجاعاً للغاية بشكل لا يصدق، وقام بالاعتذار عن تمثيل الادعاء فى القضية باعتبار ذلك مخالفاً للدستور ولمبادئه كمواطن مسيحي متدين، قائلاً : "لن أفعل ذلك".

موقفه بالطبع شجاع للغاية ومحوري أيضاً فى سير القضية، ففى مثل هذه الحالات، الأمر لا يتطلب سوى عدد قليل من الأشخاص الذين يتمتعون بنزاهة حقيقية ليقولون "لا".هذه اللمحة كانت تهمنى للغاية.هذا فيلم يتمتع فيه رجل عسكري مسيحي جمهوري بالكرامة والنزاهة، الأمر الذى جعل القصة بأكملها مثالية بالنسبة لي. تلك الشخصيات الثلاثة "نانسي، تيري، ستيوارت" تأثروا جميعًا بنفس الأحداث وبنفس الدرجة. لهذا السبب كانوا جميعًا سعداء بصناعة هذا الفيلم، وداعمين له بشكل لا يصدق من حيث البحث وتوثيق المعلومات. لقد كانوا رائعين.دعني أخبرك، لقد صنعت الكثير من الأفلام المستوحاةمن أحداث حقيقية أو عن أناس حقيقيين، ولكن قليلاً ما يحدث خلالها كواليس تشبه ما  حدث بالفعل فى فيلم "المويتاني".

* أستطيع أن أتخيل ذلك. لقد فوجئت، حتى عند القراءة، بمدى تشابك الجميع فى الأحداث، لقد كان من الرائع أنهم سعداء بالفيلم و بالنتائج.

- كان الأمر رائعاً حقًا. أردت أن أصنع فيلمًا متوازنًا و عادلاً ومنصفاً للجميع. ففي ذلك الوقت الذي يشهد فيه العالم مثل هذا الانقسام العظيم، تبدو لى رؤية قصة كهذه تتجلى بها مساحات براقة من الإيجابية والنزاهة والانسانية في كل شخصية من شخصيات العمل بمثابة تأكيد على قيمة الحياة، بصرف النظر عما قد يدور فى كواليسها.. الانتصار هنا للحياة ذاتها باعتبارها البطل الحقيقى الذي رغبنا جميعاً فى الاحتفاء به من خلال شخصيات الفيلم.
---------------------------------
أجرى الحوار : تاتيانا هولندر - ترجمة : شيرين ماهر