22 - 05 - 2025

محجوب عبد الدايم جانيا أم مجنيا عليه

محجوب عبد الدايم جانيا أم مجنيا عليه

"القاهرة ٣٠" فيلم تم إنتاجه عام ١٩٦٦ قصة الأديب الكبير "نجيب محفوظ"، وإخراج المبدع "صلاح أبو سيف".. أعتقد أن البطولة فيه كانت "لسعاد حسني" التي قامت بشخصية "إحسان شحاتة"، هذه الفتاة الجميلة التي نشأت في مناخ سيئ لم تستطع فيه الوفاء بتعهداتها تجاه حبيبها.. و"أحمد مظهر" الذي جسد شخصية "قاسم بك فهمي" ذلك الرجل الثري صاحب النفوذ والمنصب الذي يعجب بإحسان شحاتة ويستخدم كل ما يملك من قوة للوصول إليها.. وهنا كان موضوع الفيلم.. ويظهر من الأفيشات الخاصة به أن البطولة الأولى بالفعل "لسعاد حسني وأحمد مظهر" أو هكذا رأى صناع الفيلم، إلا أن الجمهور صنع بطلا آخر، وجده الشخصية الأكثر تأثيرا بالفعل، وهو "محجوب عبد الدايم" والذي جسده  ببراعة الفنان "حمدي أحمد".. محجوب عبد الدايم شاب ريفي فقير يدرس في القاهرة، كان  يتطلع  للعيش بشكل جيد خاصة بعد حصوله على الشهادة الجامعية، ظنا منه أنها ستفتح له الأبواب المغلقة، ولكنه اصطدم بالواقع المؤلم الناتج عن الأوضاع الإجتماعية التي لا تعترف بالضعفاء، بل تسحقهم إذا لزم الأمر، وذلك لصالح طبقة الأثرياء الذين يملكون كل شيئ إلا المبادئ والقيم، ورغم وجود شباب يناضل من أجل تغيير ذلك الواقع مثل "على طه" الذي قام بدوره الفنان "عبد العزيز مكيوي"، إلا أن الأمر فوق قدرات الجميع، ولم يستطع علي طه بهذه العزيمة وتلك الحماسة، حماية حبيبته إحسان شحاتة من هذا المجتمع المتوحش، خاصة أنها كانت إبنة "شحاتة التركي"، الذي ينتظر بيعها بأعلى سعر في أي وقت، بحجة إطعام باقي أخوتها الصغار الذين يتضورون جوعا أمام أعينها كل يوم، وقام بدور الأب الفنان "توفيق الدقن".

يذهب محجوب لبلدياته "سالم الإخشيدي" الذي جسده  الفنان "أحمد توفيق" طالبا منه المساعدة في الحصول على فرصة عمل، وكان يشغل منصبا مرموقا كمدير مكتب وكيل الوزارة "قاسم بك"، الذي طلب منه البحث عن شاب يتزوج "إحسان شحاتة" ليقوم هو بدور العشيق.. استغل "سالم الإخشيدي" كل ما يملك من إقناع وإغراءات ليقنع "محجوب عبد الدايم" بذلك خاصة وهو يعلم حالته الصعبة وشعوره بأن طموحه يطغى على مبادئه، كيف لا، وهم أبناء بيئة واحدة وقد سبقه إلى ذلك، وكانت كلمة " عجينة واحدة با بن نفسية" التي حدث بها نفسه محجوب قاصدا  سالم تعبر عن ذلك.. كان مشهد من أروع المشاهد والأكثر تعبيرا عن إنهيار القيم والمبادئ والشرف نفسه بكل قهر وقسوة أما النفوذ والقوة والحاجة.

 كانت تعبيرات وجه محجوب عبد الدايم ترسم صورة حقيقية لمجتمع لا مكان فيه للضعفاء، مجتمع كل شيئ فيه يباع ويشترى حتى الشرف.. وافق محجوب عبد الدايم على القيام بدور الزوج ظاهريا، بينما قاسم بك هو الزوج الحقيقي وذلك مقابل وظيفة كبيرة.. وكان شعاره طظ.. تلك الكلمة التي رددها "أحمد بدير" الصحفي الذي جسده الفنان "عبد المنعم إبراهيم"، والذي كان لا يختلف كثيرا عن "محجوب عبد الدايم" ولكن بشكل آخر فقد ظهر كشخص متسلق يعرف كل شيء لكنه يسير مع التيار وفقط ليقينه أنه لا أمل من أي إصلاح.

 لم يشأ "نجيب محفوظ" إظهار المجتمع كله ساقطا، وهو كذلك بالفعل، فالشرفاء وأصحاب المبادئ موجودون دائما حتى وإن قل عددهم، ولذلك وضع شخصية "على طه" ذلك الشاب المناضل من أجل إصلاح المجتمع، وكان "محفوظ" عبقريا وموضوعيا في رسم تلك الشخصية حيث جعلها ميسورة الحال قليلا كأنه يقول لا تشيطنوا "محجوب عبد الدايم" بالمطلق، فلا يعلم أحد لو كان "على طه" في نفس حاله المزري ونشأته الصعبة كيف كانت ستكون شخصيته، والدليل على ذلك سقوط "إحسان شحاتة" هي الأخرى وعدم قدرتها على الصمود رغم ما كانت تؤمن به من مبادئ،  فباعت جسدها ومعه حبها.

العجيب أن الجميع أخذ "محجوب عبد الدايم" نموذجا للوصولية والإنتهازية وبيع المبادئ وذلك إن صح ظاهريا أو إجمالا، إلا أن أحدا لم يتهم  الظروف والمجتمع الذين أوصلوا ذلك الشاب الجامعي الطموح لهذا الحال، مع العلم أن لا مبرر أبدا، ولكن إذا تغافلنا عن دور المناخ السيئ في صنع أحداث أسوأ فقد لا ننتبه لإصلاحه، وهي الرسالة الأساسية التي كان يريد إيصالها "نجيب محفوظ" لا شك وأخرجها ببراعة "صلاح أبو سيف"، وأيضا رغم أن الفيلم يتحدث عن فترة الثلاثينيات وتحديدا عام ١٩٣٣ وبالمصادفة هي السنة التي ولد فيها "حمدي أحمد"، إلا أنه أنتج عام ١٩٦٦ ومن يعرف طريقة الأديب العالمي يعلم أنه كان يعالج قضايا مجتمعية بطريقة ذكية نظرا للمساحة المتاحة من الحرية.. فهل كان يقصد إسقاط الماضي على الحاضر آنذاك؟ خاصة ونحن رغم مرور كل تلك السنوات مازلنا نعيش أجواء "القاهرة ٣٠" ولكن بشكل مختلف بعض الشيء يراعي تجميل المشهد بالشعارات الرنانة والمظاهر الزائفة. 

وخلاصة القول هنا.. أنه ما دام "قاسم بك" موجودا.. سنري "محجوب عبد الدايم أيضا".. وسيظل "علي طه" يناضل مع طواحين الهواء ويواجه الإهانات والتعذيب دون جدوى.. وإن كان قد منحه الفيلم بعض الأمل.
----------------------
بقلم: السعيد حمدي

مقالات اخرى للكاتب

7 أكتوبر بين المكسب و الخسارة