30 - 06 - 2025

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (8) "بتحبك .. يخرب بيتك صعيدي"!

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (8)

(22)

بداية عملي في مؤسسة الإمارات للمواصلات في سبتمبر 1999 كانت مع نقل طلاب ومعلمات مدرسة دبي الدولية من الشارقة إلى منطقة القرهود أمام مبنى مطار دبي.. إضافة إلى الرحلات الأسبوعية كل أربعاء إلى دبا الفجيرة لنقل طالبات جامعة الشارقة (الثالثة بعد الظهر نكون قد انتهينا من توصيل طلاب المدارس .. نتجه إلى مقر المؤسسة لنستبدل الحافلات .. ثم إلى الجامعة لنقل الطالبات).. يحدث أن لا تتواءم مع تعامل بعض إدارات المدارس هنا أو هناك فيأتي التغيير.. أو أن تتمسك بك إدارة المدرسة إذا رأت مصلحتها في ذلك.. شهران فقط ثم انتقلت للعمل على خط سير لنقل طالبات جامعة الشارقة والجامعة الأمريكية اللائي يسكنن في دبي.. خط تجاري يتم تكوينه حسب عدد المشتركات بحد أدنى عشر طالبات .. الحق أنني لم أكن متوائما مع أي من هذه الخطوط لأنني في الأصل لم أكن مقتنعا بالمكان ولا بالمقابل المادي البخس.. أضف إلى ذلك تراكم المستحقات المالية هنا وهناك.. ما جعلني أترك صديقي محمود الورواري وبيتي في الشارقة.. واتلقف فرصة الانتقال للسكن في غرفة مستقلة ضمن شقة في عجمان كانت أرخص بكثير.. ومع ذلك لم استطع فيما بعد الالتزام بدفع الإيجار المستحق.. ربما كانت هذه الفترة هي الأصعب والأكثرة قسوة على نفسي.. تصحو مع أذان الفجر لتنسل من فراشك الدافيء.. ينتظرك صقيع الخارج بصفعة يرتجف لها شعر رأسك.. لتبدأ رحلة المعاناة الصباحية اليومية في شوارع المدينة الخالية، تحت وطأة الإلتزامات والضغوط المحيطة دون مقابل يذكر.. فأنت لا تملك من راتبك فلسا واحدا.. ولا تعرف من سترضي من الدائنين وكيف؟.. هكذا أصبح موعد اقتراب نهاية الشهر كابوسا مزعجا بدلا من أن يكون موعد حلحلة للمسائل المادية الشائكة.

في تلك الفترة لم تنقطع زياراتي لأصدقائي في الصحف والمجلات.. الصديق الأديب والصحافي نواف يونس في جريدة الخليج.. الصديقة الصحافية ليلى سعيد بمركز الدراسات بالجريدة.. الدكتور الإعلامي والفنان التشكيلي عمر عبد العزيز في مجلة كل الأسرة.. القاص والصحافي فوزي صالح في جريدة البيان.. والصديق عمر بسيسو في مجلة الصدى .. والروائي والفنان التشكيلي ناصر عراق والشاعر يحيى البطاط في مجلة دبي الثقافية..كنت أتناسى في حضورهم ما يعلق بي من هموم لبعض الوقت.. في إحدى زياراتي لجريدة البيان جلسنا كعادتنا في الكافتيريا ..  كان مدخل مجلة الأسرة العصرية في المواجهة .. لا تحضرني الذاكرة إن كان أحدهم قد لفت انتباهي أم أنني من اتخذت المبادرة من نفسي.. طرقت باب مدير التحرير آنذاك.. الشاعر والأديب والصحافي رأفت السويركي.. اتفق معي على أن أجري حوارات ثقافية متنوعة.. وتعاملت وقتها مع الزميلين بدوي شاهين ومحمد النجمي.. أدعي أنني أجريت مجموعة من الحوارات الممتعة مع شعراء ومسرحيين وفنانين تشكيليين .. هذه التجربة أوجدت عندي نوعا من التوازن النفسي .. لكنها لم تكن كذلك على الصعيد المادي (في تلك الفترة هناك من الزملاء القائمين على الصفحات والدوريات الثقافية من كان يعرض أن أنشر نصوصا مقابل مكافأة مادية لكنني لم أعر هذه العروض اهتماما لعدة أسباب أهمها العبث بمفردات النص التي قد لا تحتملها هذه الجهات .. خصوصا وقد كنت أسمع باستمرار شكوى أحد الشعراء من هذا العبث).. المهم أنني ما زلت أعتز بتجربة الأسرة العصرية، وممتن لكل من تعاملت معهم وفي مقدمتهم الشاعر المحترم رأفت السويركي.. والصديق المحترم والمبدع محمد النجمي.. والصديق الغائب الحاضر بدوي شاهين..

على خط مواز في هذه الفترة كانت لقاءاتنا اليومية على مقهى الفنون مستمرة مع الأصدقاء .. أخبرتني الصحافية العزيزة منى سعيد أن مصطفى سالم (مدير تحرير مجلة المشاهير التي عملنا فيها سويا من قبل) شرع في إصدار مجلة في دبي متخصصة في السيارات.. غير أن التجربة السابقة معه جعلتني أفكر كثيرا قبل أن أتعامل معه.. على عكس منى التي كانت قد بدأت العمل بالفعل.. 

شارع صلاح الدين بدبي.. مكتب فخم في بناية تضم فرعا لبنك المشرق (حسابي البنكي في هذا الفرع وقد اشتبكت مع إدارته مرارا واستطعت في النهاية أن أضعهم أمام خيارات خرجت منها بما يرضيني من إلغاء لفوائد متراكمة).. استقبلني مدير تحرير المجلة بابتسامة تلطف ما كان منه سابقا.. كوب من الشاي رفقة الصديقة منى سعيد.. وعلى مكتب غير بعيد جلست إحداهن .. لا أتذكر كيف تعارفنا.. أو أن أحدا كان وسيطا في التعارف.. أنا ذكرى لعيبي، صحافية وقاصة.. أهديتها نسخة من مجموعتي القصصية (عتمة المرايا) ورواية (آخر ما قاله النهر).. ولأنني لم أحبذ فكرة العمل في المكان لم أرها إلا بعد عدة أشهر..

(23)

مر عام 2001 ثقيلا جدا على نفسي.. كنت محاصرا بالإلتزامات المادية ومتطلبات الحياة اليومية.. ومع بداية العام الدراسي في سبتمبر ألقت بي خيارات التوزيع للعمل مع معهد التمريض في الشارقة.. نقل طالبات المعهد من مناطق سكنهن في أم القيوين وعجمان والشارقة إلى المعهد والعكس.. إضافة إلى ثلاث رحلات كل أسبوع إلى مستشفى الأمل في دبي .. لا شك أن العمل مع طالبات في هذه المرحلة أمر لا يخلو من المشاهدات والانطباعات.. وأمور أخرى كثيرة تضعك على ممشى وسط حقل من الألغام.. كأن تتصل إحداهن من هاتف والدها بعد أن أفهمته أنها تتحدث مع صديقتها ثم تمسح الرقم بعد انتهاء المكالمة .. بالطبع احتفظت بالرقم حتى أعرفه فلا أرد عليه ثانية كما حدث بالفعل.. هناك أيضا من تتوسل إليك أن تنزلها من الحافلة صباحا على أن تقلها إلى منزلها بعد انتهاء الدراسة من نفس المكان .. لكن الأمر كان أكثر وقاحة عند طالبتين تقطنان في منطقة واحدة.. تجلسان في أخر الحافلة على المقعد العريض.. مرآة الحافلة الداخلية ضرورية لمتابعة صعود الطالبات وانتظار جلوسهن قبل إغلاق الباب والتحرك.. أو عند النزول والتأكد من ابتعادهن عن الحافلة.. بعض الأيام يتبادلن النزول عند بيت إحداهن .. تعجبت أن لا يكون قضاء الوقت في المنزل غير كاف فتأتي الممارسة صباحا في الحافلة ونحن نقول (يا فتاح يا عليم).. تحدثت إلى طالبة رصينة كانت تجلس دائما على أول مقعد.. أجابتني أن كل من في الحافلة يعرفن ذلك.. وأن هذه الممارسات تنتقل مع هاتين الطالبتين أينما تحركن.. تقدمت بشكوى لمديرة المعهد وخيرتها أن تجد حلا أو أن أطلب نقلي من هذا المكان.. بعد ثلاثة أيام كان مقعد إحداهن خاليا في الحافلة .. 

على خط مواز جاءت بداية شهر سبتمبر 2001 بمتاعب جديدة .. كنت مرغما على لملمة ملابسي وبعض الكتب والأغراض وأن أترك السكن.. إلى أين ؟؟ لا أعرف.. تذكرت تجربتي الوحيدة حين طلبت من أحدهم أن يستضيفني بضعة أيام في سكنه المشترك بعد أن تركت العمل في مطعم التكية بداية التسعينات ورفض .. بعدها فضلت النوم في حديقة عامة على أن أطرق باب أي شخص ولو كان قريبا من الدرجة الأولى.. تذكرت ذلك حين جمعتني جلسة مع الصديقتين الصحافيتين ثناء عبد العظيم ومنى سعيد.. سألتني ثناء: ماذا ستفعل؟؟ .. ليس أمامي سوى النوم في سيارتي..

(في كل الأحوال كنت محتفظا بالسيارة لأن ثمنها حال بيعها لا يكاد يذكر مقابل الاستحقاقات.. ولأنها مهمة جدا في التحرك خصوصا من وإلى العمل).. بعد هنيهة فتحت ثناء حقيبتها .. بحثت عن مفتاح في ميدالية.. خذ .. هذا مفتاح استديو هنا في الشارقة كنت أنوي الإنتقال إليه .. وأنتِ؟؟.. يوجد استديو آخر في نفس البناية سوف أحضر مفتاحه.. 

شارع الشرق  إمتدادا لشارع العروبة.. وعلى بعد خطوات شارع كورنيش الشارقة .. بين الشارعين بناية زجاجية مطلة على حديقة المجرة.. استديو في الطابق الثالث (موعود أنا مع الطابق الثالث).. مطبخ أمريكي يمينا.. مرحاض يسارا أربع خطوات .. خزانة ملابس كبيرة مصممة مع الجدار .. غرفة مربعة على مساحة أربعة أمتار .. نافذة مطلة على الحديقة من دون بلكونة.. رتبت ملابسي في الخزانة وانتظرت أذان المغرب مع إفطار ثاني أيام شهر رمضان تقريبا.. وبمجرد الانتهاء من الإفطار خرجت متجها إلى منطقة التراث حيث كانت تقام الفعاليات الرمضانية هناك.. لم يكن لدي ماء في الاستديو ولا كهرباء.. وبالتالي قضيت معظم أيام الشهر احضر الماء في (جراكن بلاستيكية) .. أما الملابس فإلى المغسلة.. غير أنني وبمجرد الإنتقال إلى المكان .. جاءت الصديقة منى سعيد حاملة معها ما استطاعت من المعلبات والمواد الغذائية، إضافة إلى غاز صغير للطهي (بوتوجاز صغير).. هناك أيضا من أحضرت أواني طهي وأطباق .. بينما تكفلت ثناء بالعبء الأكبر بحكم أنها تسكن في نفس البناية رفقة سيدة مغربية .. هكذا مرت الأيام الأولى في المكان الجديد دون ماء أو كهرباء.. وكنت محظوظا أن التوقيت في الخريف مع بداية ميل الطقس إلى البرودة.. في العمل نهارا.. استراحة ما قبل الافطار.. منطقة التراث ليلا.. كورنيش البحيرة أحيانا.. ومع بداية شهر اكتوبر تدبرت أمر رسوم توصيل الخدمات إلى السكن..

(24)

بداية عام 2002.. رقم غريب ظهر على شاشة الهاتف.. صوت أنثوي رقيق على الطرف الآخر.. لم يكن بوسعي أن أعرفه ولا أن أخمنه .. إذ أنني لم أحظ بسماع هذا الصوت إلا لدقائق معدودة وقبل عدة أشهر.. كمن أرادت أن تختبر ذاكرتي أو أن تضفي نوعا من الغموض المغلف بالمزاح راحت تراوغ .. أخيرا أفصحت عن هوية صوتها.. القاصة والشاعرة والصحافية ذكرى لعيبي.. أين أنتَ؟؟.. أين أنتِ؟؟.. ارتديت ملابس الخروج ثم طويت درج البناية في غمضة لهفة.. انتقيت مكانا (مصطبة أسمنتية) في حديقة المجرة مقابل البناية التي أسكن فيها.. بضع دقائق وجاءت .. نسمة آتية من فضاءات مدينة العمارة بمحافظة البصرة .. جلسنا .. لم يكن لدينا مادة للحديث سوى هم الكتابة أو (شو الأخبار).. قلت.. وقالت.. ليشاركنا كورنيش بحيرة الشارقة أكواب (شاي الكرك).. تعددت اللقاءات .. حتى جمعتنا جلسة على كورنيش الشارقة رفقة الصديقة الشاعرة رانيا الجزار.. كنت وعدتها في اليوم السابق أن ألبي رغبتها وأن نخرج إلى شاطئ البحر في يوم شتوي ماطر (تعشق البحر .. لكنها أجبن من أن تجرب ملامسة الأمواج الميتة على الرمال).. ربما استيقظت متأخرا فتخلفت عن الموعد .. اعتذرت.. قالت رانيا: لقد اعتذر.. ردت: وما جدوى الاعتذار وقد ذهب يوم دون رجعة؟.. في طريق عودتنا مالت رانيا ناحيتي هامسة (بتحبك .. يخرب بيتك صعيدي)..

راودتني فكرة الارتباط أكثر من مرة .. الأولى عام 1988 عندما خطبت إبنة زميلي في قسم المواصلات ببلدية دبي .. وقد كانت والدة العروس هي الداعمة بقوة لهذا الارتباط.. ولأسباب مختلفة لم تكتمل التجربة.. المرة الثانية عام 1989 .. علاقة ود مع مدرسة تربية رياضية كانت تعمل في منطقة السلع الحدودية مع قطر.. جاءت إلى دبي مع بداية العطلة الصيفية لتبتاع الهدايا ولزوم السفر.. استقلت الحافلة من منطقة السبخة في ديرة متجهة إلى منطقة الغبيبة في بر دبي (أنا هنا لا أفشي سر عمل ومهنة حتى أتهم بنقص في إنسانيتي فهي مجرد راكبة مثلها مثل أي راكبة ذكرتها في كتابة سابقة.. انا هنا أنوه فقط حتى لا يجرجرني شاعر ما زلت محتفظا له بالود والاحترام رغم أن ماء كثيرا في فمي..) .. أعطيتها التذكرة حيث كانت تجلس في المقاعد الأمامية المخصصة للنساء.. وكعادتي عدت لأقف عند الباب الخلفي .. لحقت بي محتجة أنني أعطيتها التذكرة بطريقة غير لائقة (بقرف على حد قولها).. اعتذرت لها إن كانت أحست بهذا (القرف) في تعاملي.. كانت كمن تريد أن تتحدث.. أن نلتقي .. اسمي إلهام.. اهلا .. أنا أسكن في غرفة بمساكن الشباب بالقرب من النادي الأهلي في شارع القصيص.. نعم أعرف المكان.. ألغت سفرها.. تنتظر انتهاء عملي استعدادا للخروج.. تطورت العلاقة وهي تتحسس كلماتها عن الارتباط والزواج.. كانت تصر في كل مرة على دفع الحساب رغم شجارنا المتكرر .. إلى أن كانت النهاية حين قالت في إحدى المرات: تدفع إيه براتبك الـ ..ده؟؟ ..

المرة الثالثة كانت عام 1996.. ممرضة في مستشفى الأمل بدبي (مستشفى للأمراض النفسية).. كانت تستقل حافلة المواصلات العامة من منطقة الكرامة إلى مقر عملها في منطقة الوصل..تزوجتها .. وتم الإنفصال بعد أسبوع واحد فقط (كانت معي في زيارة عائلية لصديقي الشاعر إبراهيم المصري في أبوظبي.. قال ما معناه: ايه اللي رماك الرمية دي يا بني؟؟).. بعدها لم أفكر بالارتباط .. والحق أن الظروف لم تعطني رفاهية التفكير في هذا الأمر .. لكن.. أما وأن القلب قد راق له الخفقان بنغم مختلف .. أما وأن تلاحظ صديقتي ذلك اللمعان في العيون.. فلا بأس من التجربة.. وأول التجربة أن أعيد تذكيرها بعملي .. حيث استقلت معي الحافلة وأنا أنقل الطالبات في رحلة من رحلاتهن إلى دبي .. ثم دعوة لتناول الغداء في بيتي .. وجبة هندية من المطعم القريب (أربعة دراهم فقط).. لم تكن لدي طاولة فافترشنا الأرض لنأكل.. في أكثر من جلسة كانت معي في بيت الزميلة ثناء عبد العظيم رفقة الصديقة منى سعيد وأخريات.. كانت أكلات السمك المشوي ووجبات المطبخ المغربي حاضرة دائما.. وكان أيضا الإزعاج المتكرر الذي تسببه أوتار العود وأنا أعزف ما تيسر من كلمات أحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي على طريقة الشيخ إمام ..
------------------------
بقلم: عز الدين الأسواني *
* شاعر وقاص مصري مقيم بالإمارات