01 - 07 - 2025

العقل الجمعي ما بين قدسية أشعار نزار قباني، وإباحية سفر "نشيد الأنشاد"!

 العقل الجمعي ما بين قدسية أشعار نزار قباني، وإباحية سفر

لماذا نزارقباني، وأمل دنقل، وسفر نشيد الإنشاد؟.. بداية دعونا نبدأ بالأسئلة المعتادة؛ كنوع من الولاء للاكلشيهات المكررة والمعادة، كأن نقول مثلا: هل ثمة رابط بين هذا الثالوث الشعري؟ أم هي مجرد نماذج ليس أكثر؟ هل يستقيم من الأساس ان نضعهم في كفة واحدة؟ وأن نقارن بين النصوص الأرضية، والنصوص السماوية؟ تحديدا هذا السؤال يضعنا أمام إشكالية أكبر تقودنا للحديث عن الفرق بين السماوي، والأرضي والُمقَدس والُمقدِس! فهذا الطرح يجعلنا نتساءل هل حقا ما يقوله البعضالشعراء أنصاف أنبياء؟ هل الأشعار، والكتابات الأدبية تعتبر نصوصا مقدسة؟ وكأنها "طواسين، ومزامير" أدبية!. أنا شخصيا أرى انه من الضروري ترك كل هذه الأسئلة؛ فهي من ناحية كثيرة ومتعددة، ومن ناحية آخرى غير مجدية؛ خاصة أمام ما يتعرض له الُكتّاب من تنكيلِ، ومصادرة تصل إلى التكفير والسجن، والقائمة طويلة جدا، وتضم أسماء عديدة من الغرب، والشرق .. من القديم، والحديث؛ بل انها امتدت في بعض الأحيان لعصور كاملة؛ كالعصور الوسطى بكل ما فيها من فساد كهنوتي، ومحاكم للتفتيش، وغيرها من الأمور التي تخلص منها الغرب وخرج للنور، ولم يتخلص منها مجتمعنا العربي، الذي يدافع بكل ما أوتى من قوة عن عصوره الظلامية، ورغم ضبابية المشهد هنا أمل ونزار وآخرين كبار؛ كان بعضهم صاحب النصيب الأكبر في حالة الجدل التي تُثار حوله، وحول منجزه الأدبي .. ومن بين العديد والعديد من الأسماء الأدبية توقفت بشكل انتقائي عند شاعرسوريا الأشهر نزار قباني، والذي وُضع في قفص الاتهام لا لشيء إلا لانه قدّم إبداعا مغايرا جعله يتبوأ قائمة المتهمين؛ فهومن أكثر شعراء الفصحى في العصر الحديث إثارة للجدل، وذلك لتعامله مع جسد المرأة بشكل مغاير عما ألفناه، وهو نفس ما فعله الجنوبي شاعر الرفض أمل دنقل، والذي خرج بصحبة صديقيه شاعر العامية الأشهر عبدالرحمن الأبنودي، والقاص يحيى الطاهرعبدالله متجهين إلى قاهرة المعز أو إلى "مدينة بلا قلب" كما وصفها أحمد عبدالمعطي حجازي. 

وفي فترة وجيزة استطاع أمل أن يكتب اسمه بحروف من نورفي سماء شعر التفعيلة. وفي الوقت الذي ضمت فيه أشعار أمل دنقل الكثير من الآيات الدينية مما شكل صدمة كبيرة جدا للمتلقي العادي، كان أمل يكتب أشعاره بمنتهى الأريحية متوكئا على عصا التناص الأدبي .. حاول البعض – ونجحوا إلى حد كبير - في كسر هذه العصا السحرية؛ فترنح التقييم بين التناص، والتحريف؛ فأغلب الأدباء، والنقاد يروا ما قدمه وأقدم عليه أمل دنقل ما هو إلا تناص أدبي، وعلى النقيض يرى العقل الجمعي – مضاف له بعض الأدباء- أن ما فعله أمل دنقل تعد سافر على النص القرآني، والمسيحي أيضا. فكما كتب أمل (والتين والزيتون وطورسنين وهذا البلد المحزون) كتب أيضا (أبانا الذي في المباحث) وهذه كتابات صادمة جدا للعقل الجمعي .. رفض العقل الجمعي لمثل هذه الكتابات، وان بدا غريبا وعصيا على الفهم؛ لكنه يفسر لنا طبيعة هذا العقل، والذي يرفض أي نقاش حول أي مقدس بدون أي مبرر؛ فبمجرد ان تكتب، على وسيلة البحث العالمية google / جوجل "سفر نشيد الإنشاد" وتضغط على مؤشر البحث تجد نفسك أمام دوامة كبيرة من التناقضات تصل حد الصراع؛ فما بين التقديس والتدنيس، الاحترام والاحتقار، الهجوم والدفاع

تدور معارك فكرية طاحنة ووسط كل هذا التناحر الفكري يبرز سفر نشيد الإنشاد لسليمان النبي/الحكيم كأحد أهم النصوص الدينية الإشكالية على مر العصور؛ فهو أحد أهم أسفار العهد القديم، وواحد من الأسفار الشعرية الموجودة في الكتاب المقدس. كُتب هذا السفر باللغة العبرية، وهومن ضمن الأسفار التي جمعها عزرا الكاهن بعد عودة اليهود من السبي البابلي. أي أننا ووفق العديد من المصادر نجد أنفسنا أمام نص ديني كُتب على شكل قصيدة غزلية مقدسة من المنظور المسيحي، وإباحية من المنظور غير المسيحي. وما بين المقدس والإباحي تتضح طريقة تفكير وتعامل العقل الجمعي مع النصوص والقضايا الدينية، وهي طريقة مغايره تماما لتعامله مع أي شيء آخر، ومن هذا المنطلق دعونا نتفق على أن المُقدِس هو الذي يُكسب الُمقدس قدسيته؛ أي ان الأضرحة على سبيل المثال مقدسة بالنسبة لأصحابها، وغير مقدسة بالنسبة للآخر، وهذا الطرح ينطبق على كل النصوص، والقضايا الدينية بما فيها سفر نشيد الأنشاد، والذي يُنصح بعدم قراءته أمام للأطفال، وذلك لما يتمتع به هذا السفر من خصوصية شديدة؛ فالتلقي المباشر، والسطحي لهذا السفر لن يصل بك إلا لمنطقة رمادية؛ بل هوة سحيقة.. فلا مفرمن تطبيق الكثير من المعايير الأدبية كي تخرج متصالحا مع هذا النص الديني بديع النسق. ولكن هذه المعاير لابد أيضا أن نطبقها، ونحن نتحدث عن النصوص الأدبية .. هكذا تقضي الموضوعية وهكذا يقتضي التخصص. فعندما كتب أمل دنقل العهد الآتي، كان يقول لنا: (لديكم العهد القديم؛ الذي فيه سفر نشيد الأنشاد، والعهد الجديد الذي يضم الأناجيل المقدسة، وهاكم العهد الآتي الذي يضم أشعاري)!!! وكثيرة هي أشعار أمل التي أثارت الجدل؛ بل ووضعته في قفص الاتهام، ففي قصيدة "أوراق أبو نواس" وتحديدا الورقة السادسة يقول أمل: (لا تسألْني إن كانَ القُرآنْ مخلوقاً.. أو أزَليّ. بل سَلْني إن كان السُّلطانْ لِصّاً.. أو نصفَ نبيّ!) جلية جدا المراوحة بين الدينى، والسياسي فبدون الإسقاط والمجاز، تضيع معاني كثيرة جدا؛ وهي نفس الأدوات التي لا بد لنا من استخدامها ونحن نقرأ نشيد الإنشاد.. فكيف لنا فهم هذا البيت النزاري الشهير دون المجاز

(بلادي ترفض الـحُبّا ... بلادي تقتل الرب الذي أهدى لها الخصبا) يأتي هذا البيت في مقدمة الأبيات التي كُفر بسببها نزار قباني!! يقال:(أهل مكة ادرى بشعابها) ويقول أبو نواس: (قل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء)  ويدعونا الفيلسوف الأندلسي العظيم ابن رشد لإعمال العقل، والعقل العربي مأزوم لدية إشكاليات كثير منها: - أزمة المصطلح التى تلازمنا وتلاحقنا في كل شي، وأزمة التخصص؛ فنادرا ما تجد شخصا يرفض الحديث في موضوع معين لأنه ليس من أهل التخصص؛ مع أن العقل الجمعي كله تربى على القول الشهير المنسوب إلى الإمام مالك (قد أفتى من قال لا أعلم)!.

يقول البعض:ان ما كتبه أمل ونزار وغيرهما من الكتاب كهوف مظلمة لابد لها من مصابيح ..

وأنا أقول لك ما أكثر المصابيح الأدبية أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:- (الرمز - المجاز - التناص - التأويل ..إلخ) ذلك إلى جانب المدارس الأدبية. وكلها طرق تساعدك على فهم النصوص الأدبية؛ بل تساعدك على تفكيك هذه النصوص وإعادة تركبيها مرة آخرى."فالرب" عند نزار، هو "السلطان" عند أمل، و"السلطان" عند أمل هو "الرب" عند نزار؛ أي ان كلاهما لا يقصد (الله) الذي نعبده، ونصلي له. فهل عندما نقول "رب البيت" نقصد ان الأب أصبح ربَا؟!! بالطبع لا؛ فكلمة "السلطان" في بيت أمل دنقل هي المعادل الموضوعي لكلمة "البلاد" عند نزار، وكلاهما يعطي مدلولا سياسيا، وبالتالي يصبح "الرب هو السلطان" الذي ينصب نفسه إلها على رعاياه. وبنفس الطريقة نفسر قول نزار(وكتبتُ شعراً.. لايشابه سحره..إلاكلام الله في التوارة) فالمعنى المباشر لهذا البيت يجعل من نزار منافسا لله، وحاشا لنا وله. وبنفس القياس السابق، نستطيع فهم هذه الآية المكتوبة في سفر نشيد الانشاد (ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر) فمن يدرس المسيحية يعرف ان المسيح هو العريس، والكنيسة هي العروس، وعبادة الأوثان زنا. بمعنى آخر عندما تقرأ في العهد القديم تجد أن عبادة الأوثان سميت بزنا أي أن لفظة زنا في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس لا تعني المعنى الدارج الذى نعرفه، وكذلك الحال بالنسبة للخمر والتي تعنى المسكر في عمومه.. بمعنى آخر نحن نقول (بنات أفكاري) فهل الأفكار لها بنات؟!! بالطبع لا.. فكلها أمور مجازية، وكذلك الحال عند قراءة أي نص سماوي أو غير سماوي لابد أن يقرأ وفق سياقه ومعطياته والزمكان المتحكم فيه، ووفق المنطقة الجغرافية التي نزل فيها .. أمور كثيرة تحتاج إلى أهل تخصص بدونهم يتحول  سفر نشيد الأنشاد، والذي يبلغ عدد إصحاحاته ثمان إصحاحات، من سفر مقدس إلى سفر إباحي ونفس المنطق والنهج تُقرأ الأعمال الأدبية، والتي صنفت في أحيان كثيرة على انها كتابات كفر؛ فتأرجح نزار بين الفسق والزندقة، ولاحقه العهر بنفس القدر الذي لاحقته فيه الشهرة؛ فما بين شاعر النهود، وشاعر المرأة بنى نزار دولته الشعرية؛ بل إن بعض النصوص لديه أدت إلى إهدار دمه، وهو نفس مع حادث مع "الجنوبي" أمل دنقل، والذى قال عنه الإذاعي الكبير واللغوي البارع الشاعر فاروق شوشه: "أمل دنقل رأس رمح جيله". وكثيرا من أبناء جيل أمل، ومن الأجيال اللاحقة له خذلته وجعلوا رجال الدين هم الحكم. في الوقت الذى يقول فيه رولان بارت: إن عمل النّاقد يتّسم بعدّة خصائص معيّنة، أهمّها تعقيل الأثر الأدبي تعقيلاً تامّا، أي النظر إليه، وإلى وحداته أو عناصره على ضوء مجموعة من المباديء المنطقيّة. وطبقا لجان بياجيه هناك ثلاثة أنواع للمعرفة: -هم المعرفة الطبيعية، والمعرفة الرياضية والمعرفة الاجتماعية، ويقصد بالأخيرة كل مايكون محل اتفاق بين الجماعات والثقافات مثل القواعد والقوانين والاخلاقيات والقيم واللغة والمعرفة الاجتماعية، والاتفاق العام الذي نجده في البنية المعرفة للعقل الجمعي هو اتفاق على الفصام الفكري؛ ففي الوقت الذي يطالبك فيه الآخر بتطبيق المعايير الأدبية والعلمية عند دراسة نصوصه يتناسى هذه المعايير عندما يدرس نصوصك؛ بل عندما يدرس أي شيء، وما بين هذا وذاك تبرز فئة قليلة من المثقفين أغلبهم يؤمن بشيء واحد ألا وهو الحرية. 

فالحرية هي الجوهر الحقيقي للإبداع .
---------------------
بقلم: مينا ناصف
من المشهد الأسبوعي