02 - 07 - 2025

فرسان حُورَس .. قصة قصيرة بقلم: أحمد سراج

فرسان حُورَس .. قصة قصيرة بقلم: أحمد سراج

مر زميلي هامسًا: "الوزير هنا

"الوزير!" فكرتُ في سببِ حضورِه دورة تدريبية لضباط شرطة سيوزعون على مناطق سياحية، فهمت سبب وجود عددٍ من اللواءاتِ - ظننتهم في البداية محاضرين - فتوقعتُ أن يكونَ هناك لقاءٌ سريٌّ، وأن مسألةَ المحاضرةِ غطاءٌ أمني.

قبل هذا.. كأن لا شيء يحدثُ

وكأني أشاهدُ شريط مراقبة صامت؛ يدخل المدعوون من رجالِ الجهاز من البوابة الرئيسية وسطَ إجراءاتٍ مشددة، يترجل الراكبون منهم حتى المبنى، ويعبرون بوابته، وينتظرون في الاستراحة فتح القاعة.

(1)

سألتُ نفسي: "من أين دخل الوزير؟" لكن فتح القاعة، ودخول الناس جعلاني أطردُ الإجاباتِ المحتملة..

موقعي في الممر بعد عبور الزوار من البوابة، ومهمتي روتينية، ودوري حين تبدأ المحاضرات أشبه بدور المدعوين تقريبًا..

نظرتُ إلى البوابةِ فوجدتُ شيخًا يَرتدِي جِلبابًا أبيض يعبرُ؛ فتحركتُ بتلقائيةٍ نحوه، خطواتُه هادئة، ووجهُه باسمٌ، قلتُ لنفسي: "هذه مِشيةُ ضابطٍ، لكن بجلبابٍ، وفي مقابلة الوزير!".

فكرتُ أن أسأله عن سببِ دخولِه، لكن إشارةَ ضابطِ البوابةِ لي جعلتني أكتفي بابتسامةٍ، ردَّها الشيخُ مع هزةِ رأسٍ خفيفة، وإشارةٍ من يدِه التي يُمسكُ بها ميداليةٌ يبدو أنَّها لتمثالٍ فرعونيٍّ.

"معالي الوزير"

هكذا رنَّ صوتٌ حادٌّ وواضحٌ وسط هدوء فجائيٍّ تامٍّ؛ فبدا أن مشهدًا من فيلم تم تثبيته في لحظة محددة، وهنا اضطررت إلى أن أقترب من الشيخ هامسًا: "هل تسمح بأن تنتظر حتى يدخل معالي الوزير؟".

انتبهت إلى أن أنظار الجميع تتجه إليَّ، ثم اكتشفت أنها تتخطاني، وقبل أن أستدير، سمعت الوزير: "سيادة اللواء أحمد.. شرفتنا، حين عرفت بحضورك جئت إليك مسرعًا" جمدت مكاني، وأنا أرى الرجلين يتعانقان، وتوقعت تعنيفًا من الوزير لأنني حاولت تعطيل الشيخ الذي ظهر أنه لواء كبير.

"سندخل معا القاعة، تفضل

قالها الوزير، وتحركا معًا، تبعتهما ولاحظت أنَّ كل مساعدي الوزير يرحبُون باللواءِ أحمد في احترامٍ شديد.

(2)

"لماذا أنا هنا اليوم؟

حين جاءتني مكالمة زميلي العزيز، الذي صار وزيرًا للداخلية، طبعا هو زميلي لكنني أسبقه في السن.. "

صمت مبتسمًا، ولاحظت بعيني أن الجميع يبتسمون..

"معالي الوزير كلمني أنه يريد مني أن أتحدث معكم عن تجربة بسيطة مررتُ بها.. وافقتُ رغم أنني لم أفعل شيئًا يستحق ذلك.. لكن أوامرَ وزيرِنا الهمام لا بد أن تنفذ"

عادت البسمة للقاعة

"هل فيكم من ولِد يوم الإثنين 17 نوفمبر 1997؟ أنا ولدت في هذا اليوم.. ولدت من جديدٍ.. 

يوم الإثنين 17/11/1997 كنتُ أنا المقدم أحمد أبو العزائم وكيل قوات أمن الأقصر معينًا للمرور على الخدمات الأمنية بدائرة المديرية من الساعة الرابعة صباحًا، وحتى الساعة الثامنة صباحًا، وعقب ذلك أغادرُ إلى القاهرة لقضاء الراحة الدورية المجمعة على مصر للطيران الرحلة رقم 134 القادمة من أسوان، وأثناء المرور تَلاحظَ لي تأخر ملازم أول شريف عفيفي الذي كان معينًا على خدمة كمين حاجر الضبعية؛ فأمرت ملازم أول محمد رستم بالانتظار لحين وصول البديل، وأثناء عودتي عقب انتهاء المرور تقابلت معه في منتصف الطريق، فطلبت منه سرعة التوجه للخدمة، وعدت إلى قوات الأمن لكتابة تقرير المرور".

(3)

توقف اللواء ليلتقط أنفاسه، وينظر في وجوه الحضور، ورفع رأسه فجأة نحوي.. ثم استأنف حديثه:

"وفي الساعة التاسعة والربع توجهت إلى المطار صحبة كل من رائد حسن أمان، وملازم أول عمرو ذكري، وملازم أول هيثم صلاح بسيارة النجدة، وأثناء دخولنا حرم المطار سمعت على الجهاز اللاسلكي للسيارة نداءً بوجود أصوات لإطلاق أعيرة نارية في البر الغربي، وقام اللواء أبو العطا الحكمدار بتوجيه العميد محمود البحيري مأمور القسم – الذي سبقنا إلى المطار لأخذ راحته – للعودة إلى مكان الحادث.

هبطنا من السيارة، وأنا غيرُ مطمئنٍ؛ لذلكَ أمرتُ قائدَها بالانتظارِ وعدم المغادرة ودخلت المطار لأحجز تذكرة السفر، ثم جلست منتظرًا وصولَ الطائرةِ الذاهبة إلى القاهرة والقادمة من أسوان".

(4)

صمت يستجمع أفكاره فيما حاولتُ أنا تذكر ما جرى في هذا اليوم البعيد:

 "في اتجاهي لصالة الانتظار، فتحت جيب الحقيبة الصغيرة، لأتأكد أنني لم أنس هدية أختي هدى، فقد طلبت مني تمثالًا مقلدًا لحورس، كانت تحبه وتقول لي: إنني أشعر أنه يرفرف ليحمي المصريين، وأن في عينيه رسالة ما، أمسكت به وأحسستُ أنه ينظر إلي كما أنظر إليه، وحين نظرت للحائط وجدت شعار "مصر للطيران" ولأول مرة أنتبه إلى أنه هو التمثال نفسه.. تمثال لصقر حورس.

تملكني إحساسٌ غريبٌ دفعني للعودة إلى السيارة لمتابعة البلاغ؛ ففوجئت بالسيد الملازم الأول ناجي ربيع يصرخُ على الجهاز اللاسلكي بأن السياح والضباط قد قُتلوا في البر الغربي، ثم تبعته استغاثة من السيد النقيب محمد القصبي: "الحقونا السياح والضباط انضربوا بالنار".

تصببَ وجهه عرقًا من المجهود الذهني؛ فالتقط منديلًا من العلبة التي أمامه، وجاءه صوت الوزير: "هل تحب أن تستريح يا سيادة اللواء؟" شكره اللواء...

"ذهبت مسرعًا لإعادة الحجز، بعد أن طلبت من السائق تشغيل السيارة، وسألني الضباط الذين كانوا معي: ماذا ستفعل؟

قلت: زملائي استشهدوا، وأنا ذاهبٌ لهم. ركبوا معي وهم يقولون: ونحن معك.

عدتُ صحبة الضباط إلى قوات الأمن، وتقابلت مع السيد الرائد أيمن بلال ضابط منوب الإدارة، وطلبت منه تسليح أربعة مجندين على وجه السرعة، لأصطحبهم للبر الغربي، وتسلمت بندقية آلية وعدد أربع خِزن.

 عند التحرك فوجئت بعدم وجود سيارة، لكن حضر المواطن حجاج متعهد الأكل بالتعيينات للمجندين في سيارة رُبع نَقلٍ، فركبتها أنا والمجندون وتوجهنا للبر الغربي. 

نظرًا لعدم وجود جهاز لاسلكي، ورغبتي في متابعة الموقف قمت بتبديل السيارة مع سيارة خدمة فندق الجولي فيل رئاسة السيد الملازم الأول تامر المسيري وتوجهنا للبر الغربي. 

 (5)

عند كمين القرنة مدخل البر الغربي تقابلت مع الملازم الأول عباس الحسيني الذي قال لي: "أحمد بيه، على الجبل بسرعة".

 وعند تمثالي ممنون سألت أحد الأهالي، فأشار إلى وادي الملكات فتوجهت إلى الوادي، وعند كمين حاجر الضبعية تقابلت مع اللواء نائب المدير وصُحبته العميد مدير المباحث، والمقدم عصام الجمل نائب المرور.

سألت اللواء عن الموقف فأفاد بأن الإرهابيين ضربوا الضباط والسياح، ومختبئين في الجبل، "ونحن لا نعرف الإرهابيين من الأهالي" فأخبرت سيادته بأنني صاعد للجبل، فاقترح العميد محاوطةً الجبل من الخلف فقلت لسيادته: "نحاصر! هل لدينا وقت لهذا؟"

صعدت الجبل أنا والعساكر، واقترب مني أحد المواطنين، وأخبرني بأنهم نقلوا جثة شريف عفيفي الذي قتله الإرهابيون، بألمٍ قلت لنفسي إنني من قتله حين طلبت منه سرعة التوجه لمقر خدمته، فقررت أن ألحق به أو آخذ ثأره.

كنتُ كمن يشاهد فيلمًا سينمائيًّا مثيرًا في لحظات الذروة، شدني انتباه القاعة كلها، وفوجئت باللواء الشيخ يستعيد شبابه وقوته:

"استمررتُ في الصعودِ حتى تقابلت معَ السيدِ الرائدِ عصام غزالي رئيس نقطة القرنة، والسيد الرائد طارق الطحاوي رئيس مباحث النقطة الذين أخبروني بوجود الإرهابيين بمغارة في الجبل المقابل؛ دير محارب، فأخبرتهم بأنني سأقتحم تلك المغارة.. ووجه الشهيد شريف يتجسدُ أمامي..

أسرعت نحو الجبل المقصود، ومعي المجند كامل زكي محمود من البداري، وعرض على ارتداء الصديري الواقي الخاص به، قائلا: "حضرتك متزوج وعندك أولاد". فرفضت وطمأنته ثم اخترت له موقع حاكم، وأخبرته أنني سوف أقتحم المغارة، وأن كل ما عليه فعله هو تأميني من الخلف.

تقدمت تجاه المغارة وقبل أن أصل إليها سمعت صوتًا يحذرني: "ارجع، العيال على شمالك.. العيال على شمالك".

فالتفت إلى مصدر الصوت فوجدته ضابط شرطة برتبة نقيب، علمت فيما بعد أن اسمه جودت عبد الجبار.

فجأةً وابلٌ من الأعيرة النارية ينطلق تجاهي من الخور الذي أشار إليه الضابط، فما كان مني إلا الرقود بسرعة، مع أخذ صخرة ساترًا، وما إن توقفت الطلقات حتى أمطرت هذا الخور بخزنةٍ كاملةٍ لكي أجبر الإرهابيين على الدخول إلى عمقه؛ فأتمكن من التقدم إليه واقتحامه.

تلوتُ الشهادتين، واستعذت بالله وبكلماته من شر ما خلق، وأعدت تعمير السلاح بخزنة أخرى، توقف الضباط أعلى الجبل عن إطلاق النيران حين يشاهدونني أتقدم لاقتحام المغارة منفردًا إلا من العناية الإلهية.

توقفت على فتحة المغارة، وتسمعت ما يدور داخلها، فسمعتُ صوت حشرجة لشخصٍ في النزع الأخير، وصوت إعادة تعمير بنادق آلية فتلوت الشهادة ثانية، واستعذت بالله ثم اقتحمت، وأنا أطلق النيران شمالا ويمينا، وشاهدت الإرهابيين والطلقات تحصدهم جميعًا، وأشلاؤهم تتناثر على الجدران، استمررت في إطلاق النيران حتى نفدت الذخيرة، ثم ناديت على المجند كامل لعد الجثث وتفتيشها، حين تحسستُ جيبي اكتشفت أنني وضعت تمثال حورس، فأخرجته بتلقائية، ونظرت إليه.. كان يبتسم.. أو هكذا رأيته..

تبين لي أنهم خمسة، بقيادة مدحت عبد الرحمن أمير جماعة "العائدون من أفغانستان" الجناح العسكري للجماعة الإسلامية ووجدت معهم عدد ست بنادق آلية، وأربع عشرة خزنة بها 420 طلقة، وطبنجتين وأربعين طلقة تسعة مللي خاصة بشرطيين تابعين للسياحة في الدير البحري قام الإرهابيون بقتلهم، والاستيلاء على أسلحتهما.

(6)

"مساءً قابلت وزير الداخلية الذي وعدني بالترقية، وطلب مني عدم ذكر أنني كنت في المطار وعدت وأن أبرز مجهود زملائي. 

في اليوم التالي قابلت السيد رئيس الجمهورية، وحين سألني قلت له الحقيقة، فاستمع لي باهتمام، وإعجاب شديد".

بتلقائية وجدتني أصفق، وفوجئت أن الجميع يفعلون ذلك؛ أخرج اللواء ورقة من جيبه وقرأ: "بلغ مجموع القتلى 58 سائحًا أجنبيًّا، وهم ستة وثلاثون سويسريًّا، وعشرة يابانيين، وستة بريطانيين، وأربعة ألمان، وفرنسي وكولومبي بالإضافة إلى استشهاد ثلاثة رجال الشرطة، ومرشدٍ سياحيٍّ، ومن القتلى طفلة بريطانية تبلغ خمس سنوات، وأربعة أزواج يابانيين في شهر العسل، بالإضافة إلى جرح تسعة مصريين، واثني عشر سويسريًّا، ويابانيين، وألمانيين، وفرنسي."

قرأ: "كانت المذبحة هي آخر عمل مسلح قام به أفراد من تنظيم الجماعة الإسلامية، وبعده أعلن التنظيم رسميًّا مبادرة وقف العنف"

(7)

ساد الصمت في القاعة حتى قطعه اللواء:

"حين قررت المجيء استأذنت معالي الوزير في أن أحضر بالجلباب؛ لن أرتدي الميري لأنني على المعاش، وليس هناك فرقٌ بين البذلة والجلباب، ولأقول لكم إنه لا فرق بين المصريين، وإنه كما ساعدني ضباط وهذا واجبهم المهني، فقد ساعدني مواطنون وهذا واجبهم الوطني.

"بعد إذن معالي الوزير، 

أنت آمنٌ ما دمت تحمي المواطنين بتنفيذ القانون، نحن منهم ونحارب لأجلهم، وهم منا، ويعملون لأجلنا"

رفع ما ظننته ميدالية وابتسم: 

"هذا تمثالُ حورس؛ صقر المصريين الذي حارب ست قاتل أبيه أوزيريس، وسارق عرش مصر، وظالم شعبها، وناهب خيراتها، وبعد ما جرى معي ما جرى اكتشفت أننا نشبهه حين نقوم بواجبنا، وأنه في مكان ما يرانا ويبتسم".
-----------------------------
بقلم: أحمد سراج *
* القصة من مجموعة"الصقر والصليب" آخر إصدارات الكاتب، والصورة للبطل الحقيقي على ظهر جواده.