19 - 06 - 2025

قصص قصيرة جدًا.. بقلم: هالة البدري

قصص قصيرة جدًا.. بقلم: هالة البدري

(النوم وسط الذئاب)

نم سنصحو مبكرا في الفجر غدا خميس عمك. قالت جدتي والدموع في عينيها. قلت: لماذا تبكين؟ ألم يذهب عمي إلي أبي؟ قالت: نعم. جاء صوت أمي تزعق، سيأتي فقهاء القرية مبكرا، ولن أوقظك. 

دفست رأسي تحت اللحاف، وحين أطفأت الضوء، ومضت، تسللت إلى الشباك، وقفزت منه، وسرت بمحاذاة البيوت حتى وصلت إلى سور المقابر، ووقفت بباب أبي، لم أستطع أن أفتحه، والقفل يغلقه بإحكام، جلست على الأرض انتظر. غفوت، وصحوت على صراخ أمي: ألم أحذرك من الذهاب مرة أخرى إلى المدافن وحدك في الليل، وسط الذئاب؟ تريد أن يأكلك الذئب؟ قلت: أبي لا يخاف من الذئاب وينام هنا.

(طائرة من الورق)

امتلأت رئتاها بعبير وردة السواقي، التي تلعب يمها. ورائحة شواء أسماك البني على شاطئ دجلة في المساءات السعيدة. وسيج الحنين روحها لرفرفة طائرة ورق، تحمل الأسرار إلى القمر. رفعت رأسها نحو السماء تستطلع الآتي. برقت النجوم، وهطلت أمطار من الصدأ. ولف الغبار الغضوب توابيت الموت، وكفن جثث القصائد.

(يتيم)

سرحت روحه وراء الأمهات، تترقب منهن فتات الحنان، يجمعها بصبر في سرر صغيرة، يخفيها بجوار الكبرياء، فإذا جاء الحزن من الباب الواسع للوحشة، التحف بها، ونام.

(الفرجة) 

مر هذا الهواء في صدري من قبل. مرهذا الكلام من هنا مختلطا برائحة عطر أمي، وحليب صدرها، وصوت القنبلة، وهي تدوي، وتدمر شوارعنا، والشجرة، وتيتم الأصدقاء، ونحن نعيد الفرجة، ونحكي عنها في المساء.

(سنابك الخيل)

برق أمام عيني زر نحاسي في ملابس الجندي الفرنسي. لم أعرف لماذا يصرخ الناس، ويهربون أمام الخيل؟ جاء أبي من الحانوت، وعلى وجهه الفزع، أزاحني إلى الداخل فانكفأت وراء جوال الفحم، وخرج يركض فجريت وراءه. دخل الجنود من بوابة الأزهر دون أن يترجلوا، رأيت أبي وهو يحاول أن يمنعهم دون جدوى. اخترقت جسده حربة طويييييييييلة يمتطيها عشرات الجنود من سحن غريبة متعاقبة. رأيت سجونا تفتح، وقلاعا تنهار، وأنهارا تجف، ونخيلا يضمر، ومشانق تعلق، وشموسا تنطفئ، ومدنا تذوى، وقرى تذوب وآلهة تصعد نحو السماء، وسفنا يبتلعها البحر ورأيت أبي يموت آلاف المرات قبل أن يلفه الدم تحت سنابك الخيل

(مساء) 

في الليل أبحث عن نجمة الصبح. في النهار أبحث عن القمر. أحلم بدرج طويل أتسلقه بسرعة إلى الشمس. أزيح الغيوم، ليتألق الفجر.أجمع أصوات أصحابي في سلة. أقف عند محطة القطار انتظر السنوات، وهي تمر. في إحدى العربات ألمح طفلة لها نفس ملامحي.

(سر الشمس)

اليوم أخبرتني الشمس عن سرها. كنت أظننا وحدنا المبكرين. ضبطتها تجاورالقمر. تمهل ليلقاها بين نسمات الصبح، وقبل أن يذهب الليل إلى الهلاك، قالت لي: اقبلي الصفقة، يا صغيرتي. قاومي الفناء بالحب. حين انطفأت جذوة أول رعشة حب، سمعت أغنية الموت ترن في الأفق. لم أصدقها تماماً. أمسكت بالناي، ورحت ألقمه قلبي الوحيد.

(نهار)

أسمع مخاض ميلاده الزاعق في الصباح، أحمله فوق ظهري في طريقي إلى المدرسة، أشعر بتفتحاته تزداد اشراقا، انتبه إلى لهاثه وهو يركض، فنتبادل المواقع، ويحملني إلى البيت، يذيب في طريقه الصخب، فأهرب من أبواق السيارات، وازدحام المارة وثقل الكتب، وأعبر الرجال والنساء إلى صدر جدتي. يموت تحت قدميها، فأغمض عيني ليعود، ويولد من جديد، وأصابعها الطويلة لاتزال تلعب في شعري.

(ترانزيستور)

أهداني أبي في عيد ميلادي الثاني عشر، راديو ترانزيستور برتقالى اللون مع علبة.  وضعته فوق الكومودينو مع البطاريات الملونة في غرفتي بجوار سريري ، كلما توغل الليل صفا صوته، وعلا. عرفت الطريق إلى البرنامج الموسيقى الذي يبث الموسيقى الخفيفة عندما تدق الساعة الثانية عشرة عند منتصف ليل القاهرة. تركته ينساب إلى مسمعى دون عائق حتى يفتح الفجر باب النهار، فأغمض جفونى على سعادة لم أعرف الكثير فى صفائها بعد ذلك. لم أكن أعلم أنه سيكون رفيق دربي، وأنه سيسدد رصاصة مع كل نغمة إلى وحدتي.

(الرسم)   

أحب الرسم على ورقة بيضاء كبيرة. أعرف أن رسمي ليس جميلا. لكنني أحبه. طيوري لا تشبه طيور السماء، ولا طيور الأرض. البنات والأولاد فوق لوحاتي لا يشبهون كثيرا ملامح الأطفال ولا النساء ولا الرجال. وكذلك تفعل أقلامي الملونة بالبحر، والصحراء بالحقول والمدن بالناس.لكن أقلامي حين ترسم النيل، تسمعني موسيقاه، وغناء النوارس، وتسألني معلمة الرسم: من أهداك سر النهر، ووسوس لك عن مباهج الدنيا بلغة الشعراء؟

(بناء) 

قررت أن أبني فوق الشاطئ قصري. طاوعتني الرمال. فظهرت ملامحه التي صمغها البحر وجففتها الشمس.أخبرت أصحابي أنني سأسكنه في مستقبل الأيام، حين يكون لي نهدان ينز من كل منهما حليب يرضع أطفالي.وحين يكون لي حبيب يأتيني من وراء موج البحر وغربة الأيام. بنيت في حديقة القصر فرنا يخبز للفقراء، وساحة كبيرة اختفى منها الكلام، والطغاة، والوحشة، والعرافون، ومنصة عالية للأحلام، وصندوق بريد يأتي بالخبر. شققت من تحت البناء أنهارا تجري بالقصائد، وسيجت الغد بزهور من الياسمين الهندي مثل تلك التي كانت تزين بيوت كامب شيزار، ووضعت فوق سارية عالية نسيجا من حنين، يرفرف كلما دعا النفير لثورة، ثم بنيت خندقا حول القصر حتى لا يطاله الموج، أو تأتيه الرياح بسفن يهرم فيها الزمن، وتبهت فيها الصور.

(مرفأ)

أحبه يا أمي. أدارت وجهها. أحبه يا أمي. أدارت ظهرها. أحبه يا أمي. ولت شطر الليل. تشهيت مرفأً، وسكوناً. تشهيت رائحة القهوة فوق صهد الحطب. تشهيت رائحة مطر يزخ فوق الرجاء. تشهيت قطعة شيكولاتة تذوب في روحي. لم تسمع. لا أعرف يا أمي لماذا تعذبني غربة المراكب. ويوجعني أنين الموج. ولماذا أسمع مراثي الأسماك، في فم النورس. تفتح جفنيها، وتحدق في الأفق البعيد. أقول لها: يخطفني طيفه من فوق الوسائد. تخبئني الريح بين صواري الحنين. تخايلني بجعة، تشعل حلماً على صفحة البحر. تسكنني غابة من دموع حبيسة، وجزر تبرق بالتنبؤات، وتلمع بالبهجة.  تسرب الماء من كف أمي. قالت باسمة: تجربين ثوب الحب، قبل الزمان بزمان.
--------------------
قصص قصيرة بقلم: هالة البدري