تتهادى الثلاثينية الحسناء بفستانها الوردى الأنيق.. تخطو بدلال أخاذ، تسبقه بعطر باريسى ساحر يعبق بشذاه المكان ويبشر بقدوم الفاتنة الأنيقة.. تمتد يدها برقة لتمسح خصلات شعرها الأصفر المنسدل على كتفيها.. تحكم نظارتها الشمسية كأنها تأبى أن تحرم سحرها على العيون المشرئبة بإفتتان .. أو ربما تدخر طاقتها الاثيرة لمهام أكبر من عبور تلك البوابة الحديدية للبنك.
يتوقف الجميع فى حضرة الجمال، بينما موظف البنك الموكول إليه تنظيم حركة دخول العملاء يخفت صوته الجهورى الذى كان يملأ بصخبه المزعج الهواء الخانق.. تخرج كلماته فى تودد غريب، كمن تلبسته روح أخرى غير التى كانت تسكنه من لحظات.. لايعرف كيف أفسح لها الطريق، بينما لم يكلف نفسه حتى عناء سؤاله المعتاد السخيف "رقمك يافندم ..إنتظر دورك لم يأت بعد.. ممنوع الدخول بدون الكمامة" .. ضاعت تلك التعليمات أدراج الرياح وكسر بكل القواعد عرض الحائط.. أزاح جسده بتثاقل المجذوب ومرت الحسناء بغير اكتراث، دون إبتسامة شاكرة أو حتى مجاملة محيية.. لم يكن يطمع بالقطع فى أى منها، فيكفيه أنه أفسح لها الطريق ومنحها إستثناء تستحقه عن جدارة من وجهة نظره، فللجمال حق وحضور وأوامر تفوق كل الحواجز ويحظى بإستثناء تتضاءل أمامه قوة وسطوة كل القواعد والتعليمات مهما بلغت درجتها من سطوة وإحكام.
لم يكد يفق الجميع من سحر الفاتنة الأنيقة، حتى عادت الأمور إلى طبيعتها.. تململ الجميع فى مقاعدهم بفعل الحر وساعات الإنتظار الطويلة.. الموظف بصوته الرتيب ينادى على الأرقام تباعا، يحسب الجميع أنفاسهم متمنين أن يغيب أكبر عدد ليصلهم الدور المميت فى بطء حركته.
ساعات أخرى تمر يتزايد فيها الشعور بملل يسكنه غضب مكتوم.. لا تفلح محاولات كسره بالانشغال بالموبايل أو الإستسلام للنوم أو حتى فتح حوار مفتعل يصل حبال الود بأغراب جمعتهم الصدفة وظرف سخيف اضطرهم لطرق أبواب البنك يعلمون أنه يستنزف يوما ضائعا من أعمارهم المهدورة.
يتقدم آخر فى بدلته الرسمية بخطوات ثابتة واثقة قوية يطغى حضوره المهيب على المكان.. يسرع الكل لإفساح الطريق، لا يجرؤ أحد للنظر إلى الإسم المعلق على كتفه ولا تمييز تلك الرتبة التى يحملها، يكتفي أول مستقبليه باللقب المعتاد "إتفضل ياباشا" رغم إنتهاء زمن الباشوية، إلا أن اللقب يظل حاضرا فارضا سطوته وهيبته فى كل العصور والأزمان.
ساعات أخرى تمضى ببطء حالة من الاستسلام، أقرب للموات تكسو وجوه الجالسين على مقاعدهم البلاستيكية المتعبة المتراصة على رصيف البنك.
يتقدم ثالث ببدلة أنيقة يسبقه بخطوات محسوبة اثنان من رجاله يحيطانه من كل جانب، يحمل أحدهما حقيبة سوداء بينما لا يتوقف وزميله عن الإشارة للرجل بالتقدم فى محاولة ممجوجة لإفساح طريق، لم يكن فى حاجة لتلك الحركات التى يبدو أنها جاءت بحكم العادة، أو ربما لإضفاء مزيد من الهيبة على الرجل الذى لم يكن فى حاجة إليها، فوجهه المالوف للموظف كان كفيلا بفتح كل الأبواب الموصودة فى وجوه التعساء من العامة المنتظرين دورهم فى استسلام، وكأن لسان حالهم يردد مقولة عمنا الأبنودى "إحنا ولاد الكلب الشعب".
بدا الغضب على وجوه البعض، كان أحد الشباب هو الأكثر ترجمة وتعبيرا عنه وبخ الموظف بكلمات مؤنبة.. أشاح الأخير بوجهه كمن يقر "بأنه مابيده من حيلة".. تدخلت عجوز خطت الحياة على وجهها فوشمته بهدوء وحكمة.. هونت من غضب الشاب مربتة على كتفه "للجمال وللنفوذ وللمال دوما إستثناء" لكن للبسطاء رب يرسل لهم دوما بشائره ويسخر لهم عباده فيقضون حاجتهم ويردون حقوقهم فينعمون بدورهم بامتياز واستثناء.. قول يارب..
--------------------
بقلم: هالة فؤاد