12 - 05 - 2025

من قتل نعيمة البزاز؟ مرثية عن كاتبة لم نعرفها جيدًا

من قتل نعيمة البزاز؟ مرثية عن كاتبة لم نعرفها جيدًا

لأنك لم تكوني مثلهم لم ترضعي ما رضعوا من خبايا العيب والحرام، ما منعوه علنا وتعاطوه سرًا. لأنك جهلت هذا التاريخ الطويل من القسوة ومن الانفصام، وصدقت حين صحبتك أسرتك إلى عالم آخر يتشدق بالحرية أنك ستكونين حرة. صدقتِ يا صغيرتي ما تقوله الأغاني عن الحب، عن الفن، عن الطيران في سماء شاسعة والتحليق بين السحاب، ولأنك في عليائك حين نظرت إلى الأرض وتعرفت على الملامح التي باتت غريبة عنك لتلك المجتمعات الأولى التي نزحت منها، والتي مازالت تعصف بأحلامك في البيت حين يقولون لك لا تعودي متأخرة عن العاشرة وليس عن الثانية عشرة مثل سندريلا، ويتركون أخاك أو ابن عمك أو ابن الجيران المغربي يعود وقتما شاء، ولأنك لم تستطيعي اختيار شاب إلا بشق الأنفس وبتهديدات بالقتل إذا ما مارست حقك في اختيار شريك، وزميلاتك في المدرسة يتعرفن على عالم الحب وهن في الثانية عشرة، ولأنك لا تستطيعين إعلان رأيك بصوت واضح في حضرة الرجال وتمارسين كل ما تريدين اختيارا حرا في المدرسة، ولأنك لم تحتملي حالة الانقسام التي تعيشينها داخل جدران البيت وخارجه حين تشاهدين التورم حول عيني أمك  وتقرأين في وطنك الثاني عن المساواة التي لا تجرؤ عربية على الحلم بها،  ثم وجدت الحرف وعرفت الطريق إلى الكتابة وتجرأت وأنت في الواحدة والعشرين ونشرت بالدم الأسود صراع الحروف على أفكارك النقية المتحمسة لتغيير العالم الذي عرفته في المهجر الهولندي أولا وفي الوطن الأم ثانيًا، وتصورت أنك باحتراق موهبتك الثمينة ستكونين مثل تلك النسوة اللائي دافعن عن وجودهن ووجود جنسهن كله بالجرأة، فتجرأت ونشرت روايتك الأولى عام 1995 بعنوان "الطريق إلى الشمال" ونقلتٍ بصدق هذه الحالة من الانسلاخ عن الجذور الجنوبية نحو الشمال الأوروبي.

ولأنك انتبهت للعالم المحيط بك بكل ما يحمل من متناقضات قاتلة واستمعت إلى دبيب الهمس في البيوت المغلقة في المجتمعات المنغلقة على عفنها، ولأنك لاحظت حالة التذمر المحيطة بتلك المجتمعات والتي تصل إلى حد الاحتقار في بلاد أوروبية كثيرة، ولأنك أدركت استعار النيران تحت القدر الذي يغلي كلما حدثت جريمة بطلها عربي أو مسلم، ولمست ما يحدث من انفجارات باتت تصبح ملموسة وتقترب من السطح فتطال المهاجرين حتى من الأجيال الثانية والثالثة بل والرابعة كما حدث لك، حولت كل ما تلتقطينه بذكاء إلى قصص قصيرة وروايات تفضح المسكوت عنه عند كل الأطراف وتراكمت أعمالك المكتوبة بالهولندية لتسري في المجتمع باعتبارك ابنة له، لكنك يا حبيبتي المسكينة لم تكوني مجرد ابنة بل ابنة موصومة بريشة الألوان التي تدل على النزوح لست "بيور" أنت مخلطة ولست من أصل أبيض. وأنتجت عملك الثاني "عشاق الشيطان" عام 2002 ثم "المنبوذ" عام 2006 الذي فضحت بها مواقف رجال الدين الفاسدين ورحت تصلين الماضي الذي تخيلته جميلا في المغرب التي غادرتها وأنت في الرابعة من عمرك، وتكتبين عن الحب عن الأنثى كما تصورتها، عن قدرتك على الكلام بصوت عال ومسموع، ولأنك ذبت في هذا العالم واتحدت به ونقلته بحساسية مفرطة قامت الدنيا، اتهموك بالإلحاد وهددك بعض المتأسلمين بالقتل وهاجت الدنيا من حولك، لكنك لم تيأسي أو تتراجعي انسحبت إلى الداخل وقاطعت الجميع واستمرت علاقتك بالحرف الأسود الذي يصور عالمك ولم تنتبهي لهذه الحركة الغادرة التي تزحف لتلتف حول نفسك وتقتلها من الداخل، فعرف الاكتئاب طريقه اليك مثلك مثل كثيرات غيرك من الكاتبات لم يستطعن التأقلم مع الواقع المر الحزين. رأيت فيك تجربة انجبورج باخمان الكاتبة النمساوية التي كتبت عن انفصام المجتمع وعزت العنف ليس إلى النازية، بل إلى الأسرة ولم تبارح مستشفيات الأمراض العصبية لعشر سنوات انتهت بانتحارها أيضًا. لكنك يا نعيمة قاومت وكتبت عن هذا الزائر البغيض وصراعك معه واسميتها نكاية في الاكتئاب متلازمة السعادة عام 2008، فهل اكتفيت بهزيمته في روايتك؟ لا بل عدت للتطلع إلى المجتمع المحيط الذي يبغض العرب والمسلمين وكتبت أهم أعمالك روايتك الشهيرة "نساء فينكس" وحكيت عما يجري من اضطهاد لعائلة عربية في مجتمع هولندي متعصب  أثرت بها جدلا واسعًا في المجتمع بين رافض لها ومطالب بمعرفة أعمق وحاقد وغاضب، ولأن المتطرفين لا يولدون لشعب معين أو لدين بعينه تصور أحد جيرانك أنك تقصدينه في روايتك ذائعة الصيت وحمل قنبلة مولوتوف إلى بيتك ليدمرك ودعا أهالي الحي للاعتداء عليك. فوقعت بين شقي الرحى؛ رجال الدين من ناحية والمجتمع العنصري ضد العرب والمسلمين من ناحية أخرى، فهل توقفت؟ هل توقف السواد الزاحف على نفسك الشفافة؟ هل خلصتك الكتابة من تلك الآلام المرعبة التي تتخيلينها حين تسألك واحدة من طفلتيك عما تثيرين من جدل؟ هل حظيت بلحظات حب وصفاء حقيقية مع زوجك الذي يعاني معك من ضغوط المجتمعين المتصلين المنفصلين الذين تعيشان بهما؟ هل قرأت تلك الرسالة الرائعة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون التي كتبتها الفرنسية من أصل جزائري د. نصيرة جينيف سليماس بعنوان مهاجرات عربيات.. عقدة الاندماج

 وأدركت العنف الموجه إليهن في كل البلاد من أسرهن في البداية ثم من نبذ المجتمعات الجديدة لهن بسبب عدم قدرتهن على الاندماج؟ أصدق أنك قرأت الكثير الكثير وربما تكون هذه هي المشكلة، تطورت وحدك وحاولت النهوض بمن حولك فانكسرت، لكنك تقاومين وتكتبين رواية "المزيد من نساء فينكس" عام  2012 وتقوم الدنيا فتصرين وتلحقين بها روايتك "في خدمة الشيطان" فتزداد الشراسة وتقعين فريسة للمرض النفسي العضال هذه المرة وتدخلين المصحة، وتحاولين الخروج من الجب الذي وقعت به، تقاومين وتقاومين وحين تبدو بادرة أمل تمسكين بالقلم وتخطين رواية جديدة وتوقعين عقدها، وحين تصبح على مشارف الميلاد العلني بالنشر الشهر القادم يظهر لك ما يوسوس بالغضب القادم وبدلا من أن تواجهيه أو تدفعيه بعيدا عنك، توجهين تلك الطاقة التي لا تنفك ترميك في أحضان إزاحة التابوهات للخلاص من نفسك، لعلك أخيرا تستريحين من أعباء كل مشاكل العالم التي تعتلي كتفيك وتنهش فؤادك. 

من قتلك يا نعيمة البزاز؟ الشيوخ المتأسلمون بتحجرهم؟ المجتمع الهولندي المتعصب ضد العرب والمسلمين الأبرياء؟ أهلك؟ نحن الذين لم ندافع عن حرية الكلمة؟ أنت بأحلامك في الحرية والسمو؟ من يا نعيمة؟ أم كلنا مجتمعون؟
-------------------------
بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

من قتل نعيمة البزاز؟ مرثية عن كاتبة لم نعرفها جيدًا