01 - 11 - 2024

هل أنت قلق على تونس؟!

هل أنت قلق على تونس؟!

يوما بعد يوم وتجربة تلو أخرى يتضح أن بناء الديمقراطية بعد طول استبداد وفساد عملية صعبة معقدة حافلة بالصراعات. كما  لايكفيه وفقط التخلص من الحاكم الديكتاتور، خاصة اذا كان المجتمع الذي يقوم بشرف محاولة البناء يقع اقليميا في محيط  يتربص بالتغيير وتزعج قصور حكمه وأمواله كلمة "الثورة". والعبد الفقير  الى الله المتعطش إلى الحرية والتقدم اختار بوعي أن يتابع تجربة الانتقال الى الديمقراطية في تونس. وكان حاضرا هناك في محطاتها المفصلية اعتبارا من خريف 2011، كما أنني اقمت بها لنحو العامين مراسلا صحفياموفدا من"الأهرام" بين نوفمبر 2016 وأغسطس 2018، تنفست فيها الحياة لحظة بلحظة اجتماعيا وثقافيا، وليس سياسيا فقط. وقبلها انجزت عددا من الكتب والدراسات المنشورة تناقش هذا الانتقال الفريد إلى الديمقراطية في محيطه العربي، وفي كل هذا سعيت الى أن الزم النفس اخلاقيا ومهنيا واحتراما للعقل  وللقارئ بنقل أمين لما يجرى وبمحاولة الفهم. 

وربما لهذا فقد تلقيت خلال الأسابيع القليلة الماضية تساؤلات من اصدقاء وزملاء اعزاء عما يجرى في تونس، ومفادها وملخصها: هل انت قلق إزاء ما يبدو من سلسلة أزمات متتالية هناك؟.. وهل انت متفائل أو متشائم إزاء مصير التحول إلى الديمقراطية؟. ولعل آخرها خلال اتصال مع كاتب صحفي تونسي شاب يعيش في باريس. وبالطبع فإن  النظر عبر الوقائع والواقع وبالعقل يتطلب تجنب مفردات المشاعر والأمنيات والرغبات من انزعاج وتفاؤل وتشاؤم، وكذا التوظيف الرخيص أو الساذجوللاستهلاك المحلي أمام جمهور بائس من ضحايا الاستبداد والفساد والتخلف ولحساب سلطات حاكمة متصارعة أو متحالفة على خريطة العالم العربي والإقليم. 

وباختصار أرجو ألا يكون مدعاة لخلل، يمكن القول أن تونس تعيش وضعا معقدا بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية خريف 2019. ثمة صعوبة واضحة وإلى اليوم وبعد نحو عشرة شهور من اجراء الانتخابات في استقرار حكومة تحظى بثقة الرأي العام وبدعم قوى من كتل البرلمان المتعددة المتنافرة، والتي لاتتجاوز حصة أكبرها (حزب حركة النهضة) ربع مقاعده، وقد افضى تعثر تشكيل  الحكومة واستقرارها الى أن يأخذ الرئيس (المستقل) قيس سعيد ـ و وفق الدستور ـ بزمام تكليف "الشخصية الأقدر" لتأليف حكومة جديدة للمرة الثانية ( هشام المشيشي بعد الياس الفخفاخ). فكلف بدوره شخصية مستقلة معرضا عن ترشيحات كل الكتل الحزبية البرلمانية. وهذا مع احتمال لجوئه الى حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة لو اخفقت الحكومة الجديدة في نيل الثقة، كما جرى مع محاولة النهضة بداية تمرير حكومة الحبيب الجملي الذي اختارته من خارج صفوفها. لكن الأرجح  أن تضطر معظم الكتل في البرلمان إلى منح الثقة لحكومة المشيشي توقيا لانتخابات تخسر فيها بعض ما حصدته من مقاعد. وحتى لو افترضنا جدلا أن تدفع التطورات الى حل البرلمان وانتخابات مبكرة فلن يكون هذا بمثابة انهاء للتجربة الديمقراطية، كما لن يحمل  ـ من جانب الآخر ـ علاجا ناجعا يمنع انتاج أزمة أخرى مشابهة.

وهذا المشهد يتأسس على نوع من"التصويت العقابي" في انتخابات تشريعية أكتوبر 2019 ضد البرلمان ومعظم الأحزاب الرئيسية التي حكمت وعارضت في الدورة السابقة، بينما منحت كتلة أكبر من  الناخبين ـ وباقبال أكبر على المشاركة في الانتخابات الرئاسية 2019ـ شرعية مميزة للرئيس قيس سعيد الذي يجاهر بمشروع سياسي يقلل من شأن الأحزاب والحزبية. وكان لافتا انخفاض نسبة المشاركة في تشريعية 2019(نحو 42 في المائة) إلى الأدني بين كل استحقاقات ما بعد الثورة، باستثناء البلديات إبريل 2018. كما أن من بين ملامح هذا المشهد صعود أسوأ طبعات حزب نظام الرئيس المخلوع بن على المنحل "التجمع الدستوري" ممثلة في الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي ذات التوجهات المعادية للثورة والديمقراطية، وأيضا المنادية باستئصال النهضة والنهضويين الإسلاميين والموصومة إجمالا بالفاشية. وللنهضة بدورها أخطاء وأخطاء كبرى وممارسات انتهازية كما لخصومها. ولعلها احدي دروس مكر التاريخ أن نعلم أن النهضة هي التي فتحت الباب أمام عبير موسي حين اسقطت في المجلس التأسيسي قانون تحصين الثورة والعزل السياسي ودعمت تأسيس حزبها  في عام 2013.

 وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي حاليا في تونس ترفع الحزب الدستوري الحر من مرتبه الكتلة الخامسة في البرلمان (17 نائبا من اجمالي 217) إلى المقدمة، تليه النهضة مباشرة مع مخاطر تعمق استقطاب ثنائي بين (الغنوشي / النهضة و عبير موسى / الدستوري الحر )، فإنه من الخطأ اختزال المشهد الحزبي السياسي في هذا الاستقطاب وحسب، أو التعويل بثقة بلا حدود على استمرار هكذا صعود لأسوأ طبعات حزب الرئيس المخلوع بن على. صحيح أن "الدستوري الحر" يتقدم كوريث لقطاع  كبير من مؤيدي وجمهور حزب نداء تونس للسبسي الناقمين على إسلاميي النهضة قبل توافقه معهم في الحكم بعد انتخابات خريف 2014، إلا أن الدستوري الحر على عكس حزب النداء يفتقد إلى بناء تنظيمي معتبر على الأرض والقدرة على تجميع شخصيات ورموز وازنة للحداثيين والبورقيبيين والنقابيين وغيرهم. ونظرا لطبيعة السيولة الحزبية التي ما زالت تعرفها تونس بعد الثورة فمن غير المستبعد تماما أن يحمل المستقبل ظهور مبادرة حزبية جديدة تكسر هذا الاستقطاب وتسحب من رصيد مؤيدي الدستوري الحر. كما أنه من الخطأ أيضا المبالغة في التصور الذي يذهب إلى ان الرئيس سعيد لديه من الصلاحيات والقدرات على مصادرة حرية تكوين الأحزاب وعملها أو حل البرلمان بعد تمرير حكومة المشيشي أو تغييرالدستور ببساطة لتعظيم سلطات رئيس الدولة والاطاحة بقواعد وتوازنات اللعبة الديمقراطية. َ

وتجنبا لمزيد من المبالغات فإن هذه ليست الأزمة الأولى أو الأخطر التي يمر بها التحول الى الديمقراطية في تونس. فقد كانت أزمة 2013 أشد خطورة حين انتقل الصراع السياسي الحزبي وعلى هوية تونس (علمانية مدنية أو إسلامية دينية) إلى الشارع وكتابة الدستور الجديد ومع اغتيال للشهيد محمد البراهمي بعد الشهيد شكري بلعيد. وربما كان الأوفق القول بأن تونس بعد الثورة اجتازت و تجتاز عديد الأزمات، لكن في النهاية تجد لها حلولا وبالآليات الديمقراطية. ولعل الأهم في  الديمقراطية والانتقال اليها هو القدرة على ايجاد وابتكار الحلول وتصحيح الأخطاء، دون الدفع الى الاقصاء والاستئصال والعنف ومصادرة الحقوق والحريات. 

 ومن الصحيح أيضا القول بأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الآن خطرة تضغط بشدة على تونس وهكذا نظام سياسي يعيش تحولات سريعة وصراعات صعبة. لكن من مخاض الأزمة الراهنة في البرلمان وبين مؤسسات الحكم تقدم التجربة التونسية سوابق مهمة في محيطها العربي في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال فقد اخضع هذا البرلمان ـ الذي حملت شاشات التلفزيون تشاحنات بائسة تحت قبته ـ رئيسه للمساءلة القاسية ولاختبار سحب الثقة نجا منه بصعوبة،. كما اصدر هذا البرلمان تشريعات مهمة تنتظر التطبيق على صعيد بناء الاقتصاد الاجتماعي التعاوني والزام الدولة بتعيين الجامعيين العاطلين الذين مضى على تخرجهم عشر سنوات. و اخضع رئيس حكومة ( الفخفاخ) لمساءلة قاسية، وأسهم ـ مع حرية التعبير والصحافة ويقظة مؤسسات المجتمع المدني ـ في اجباره على الاستقالة لتكشف شبهة تضارب المصالح.

وبالطبع فإن تونس تعيش صراعات معقدة غير محسومة النتائج في ظروف اقتصادية صعبة ضاغطة. كما أن بناء الديمقراطية لا يجرى خلف زجاج معقم خال من الفيروسات والجراثيم، بما في ذلك الفساد.لكن الحيوية البادية في صراعات وتوازنات وتوافقات القوى السياسية وإعادة بناء المؤسسات والسعي لترسيخ المؤسسية وحرية التعبير والصحافة تعين على تجاوز الأزمات وتسمح بالمراهنة على ادخال اصلاحات تشير اليها سلبيات وأخطاء الممارسة. وهي ذاتها المقومات التي يمكن الرهان عليها للحيلولة دون العصف بديمقراطية وليدة  في محيط عربي معاكس.
-------------------------
بقلم: كارم يحيى 



مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال