20 - 04 - 2024

حياة البسطاء مهمة

حياة البسطاء مهمة

هاتف والدتَه، فسمِعَ صوتًا غلّفه الشجنُ.. ماذا حدث؟ أجابت: جارُك وقريبُك ذهب "شقى" عمرِه يا "وِلداه"، إنه في الغُربة منذ ثلاث سنوات أو يزيد، رزقَهُ الله طفلاً خلالها لم يره حتى اللحظة، جُلُّ همِّه أن يؤمّنُ له وأخوته بيتًا أو جزءًا من مستقبلهم، متحملاً عناء كل عناء، لقاءَ عودته لوطنه، علّهُ يحقق بُغيته المنشودة..

ماذا جرى؟ مكررًا.. تابعت: الجيران كلهم في حالة حزن، هناك سيدات صوتن كما يصوتن على فقيد غالٍ، فارقهن وهو في ريعان شبابه، قبل أن يُكمل شهرًا في عُرسه تاركًا القلوبَ موجوعةَ، إلا أنها سرعان ما استدركت أنه مهما يحدث فلا وجهَ شبهٍ بينه وبين فقْدِ ولو ظافرَ ضَنى أو عزيزٍ..

اطمأنُّ قلبُه قليلاً، إلا أنه حاول أن يهدّئ من روعها، قبل أن تُكمل: "البيت الذي سافر من أجل بنائه، "على عيني" أصبح "كومة تراب"، جرت مساواته بالأرض بواسطة قوة شرطية بصحبة عدة عربات، و"لودر" أتى على ما تم من البناء، لم تُلقِ هذه القوة بالًا بما حلّ على ذوي المُصيبة، غير آبهةٍ بـ"الحسبنة" التي نطقت بها ألسنة كل من كان شاهدًا على الواقعةـ قريبًا كان أو غير قريب..

لم تسطع والدته إكمال الحديث، أخذتْ الهاتف شقيقته، مُردفةً: بمجرد السؤال عن وجود إذنٍ بالهدم، جاء الردُّ سريعًا بعبارة تحمل نبرة التعالي، تلك، المعهودة في بعض قيادات عدة على رأس مجالات عِدة أيضًا: "ألم تكفك كل هذه القوة؟".. حُررّ محضرٌ، واقتيد المتولي أعمال البناء سندًا لأخيه المشغول بجمع أقوات أبنائه الصغار خارج الوطن، داخل عربة الشرطة ترمقه عيون الواقفين، يرددُ لسانُ حالهم "هوّ موت وخراب وديار".. نعم هدم المسكن وضياع شقى العمر دون ردة فعل، ليس بالشيء الهيّن.

قال أخوه: "المجلس المحلي يعي بعملية البناء، ولم يحرر أحدٌ محضرًاـ أو حتى يحذرهم من هدم البناء، على اعتبار أن أهل القرية كلهم يعرفون بعضًا جيدًا، ويُعدون أهلًا، وأبناء عائلة واحدة، موضحًا أن الأرض التي كانت ستحمل مشروع البيت ضمن "كردون مبانٍ"، ولا حائل دون البناء، ولو كان، لِمَ تركوهم يبنون، ثم أتوا على ما بُني؟ هكذا فضفض.

أغلقَ الهاتفَ مُسترجعًا كل ما دار في المكالمة، وأصابعه تقلّب في موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، لتقع عيناه على الشجن نفسه وللسبب عينه، في أكثرَ من قرية، نساء باكيات تصرخ إحداهن أمام هدم بيت زوجها جاثيةً على ركبتيها، والدموع تغطّي وجهها، تحادثُ نفسها بأن ربيبها في الغُربة منذ ثلاث سنوات خلتْ حتى يبني هذا المسكن.. أناسٌ بسطاءٌ يقفون مستائين من هذه الطريقة التي يتم بهم الهدم، متسائلين، أما من أخرى بديلاً عما حدث ويحدث؟!.. لسان حالهم أنهم يتحملون كل شيء في سبيل رفعة ومساعدة وتقدم البلد، لا يبخلون عنه حتى بأبنائهم، فلمَ لا يكون للحكمة دورٌ قبل تنفيذ مثل هذه الإجراءات؟

جالت في خاطره تقاريرُ قرأها مراتٍ عدة، تصدر عن هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية حول انتهاكات سلطات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة عبر تنفيذ عمليات هدم بحق منشآت الفلسطينيين، لا سيما في مدينتي القدس والخليل.. نعم إن المحتل الغاصب يُرسل إخطاراتٍ لذوي المنشآت قبل إتمام عمليات الهدم، لكنه في الأخير يُفعّلها.. لكنه سرعان ما طرد هذه المقارنة بسرعة كبيرة من ذهنه، لا، لا، لا وجه شبه بين هنا وهناك، كيف يُعقلُ أن يُقارن مَن يغتصبُ الأرضَ وينتهكُ الحرماتِ ببني وطنٍ واحد، شركاء فاعلين في كل ترابه، لا يبخل أحد فيه على آخر حتى بنفسه وماله وولده..

وفي استذكاره لتعامل البعض بنوع يشوبه جزءٌ من العنصرية والتعالي، شطحت ذاكرتُه صوبَ جورج فلويد، ذاك المواطن الأمريكي من أصل أفريقي ذو البشرة السوداء بمدينة منيابولس الأمريكية، حيث قام ضابط الشرطة ديريك تشوفين بالضغط على عُنقه بركبته لمنعه من الحركة أثناء الاعتقال لما يقارب تسع دقائق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، أواخر مايو الماضي.. لكنه استفاق بسرعة، مستبعدًا هذه المقارنة بنفس درجة استبعاده، تلك، الفكرة التي ربط خلالها في لحظة تفكير طائشة بين تعامل بني صهيون مع أرباب الأرض الفلسطينية التاريخيين رغمًا عن أنوف المحتل.. إلا أنه تذكّر التأييد الكبير الذي عمّ معظم بلدان العالم، مُعْلِمًا كل الأجهزة الشرطية أن  حياة السود مهمة، لا فرق بين أسود أو أبيض، عندها وقر في قرارة نفسه أيضًا أن "حياة البسطاء مهمة".

-------------------

بقلم: عزت سلامة العاصي


مقالات اخرى للكاتب

«العصفور المفترس».. هل أدرك المحتل حجمه؟





اعلان