"لا استطيع التنفس...لا استطيع التنفس "..هكذا صرخ المواطن الأمريكى جورج فلويد فى مدينة منيابوليس فى الولايات المتحدة الأمريكية وذلك أثناء تثبيته على الأرض لاعتقاله من قبل شرطة المدينة حيث قام ضابط الشرطة "ديريك تشوفين" بالضغط على عنق جورج فلويد بركبته لمنعه من الحركة لما يقرب من تسع دقائق، فتسكن حركة فلويد وتتوقف نبضات قلبه فيلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يسمح لأحد من المارة بالتدخل لانقاذه...
..يعكس ذلك المشهد العنصرية البغيضة ضد السود داخل المجتمع الأمريكى ففلويد ليس المواطن الزنجى الوحيد الذى يتعرض لتلك المعاملة اللا إنسانية فهناك ملايين من البيض ممن ينظرون للسود نظرة دونية تحمل قدرا كبير من التعالى والعجرفة، فبالرغم من مرور أكثر من ستين عاما على مقتل زعيم السود مارتن لوثر كنج الذى دفع حياته لمحاربته العنصرية فلا زالت متجذرة ومغروسة فى قلب المجتمع الأمريكى على حد قول الكاتب الأمريكى "تانبهيتس كوتس "الذى ذكر أنه حتى الآن يعيش السود فى شوارع وأحياء أدنى مستوى من بعض دول العالم الثالث وللبيض مدارس وللسود مدارس أخرى على الرغم من صدور قانون الحماية المدنية. وايضا ما ذكرته المساعدة السابقة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن ترامب العنصرى استخدم كلمة زنجى مرارا وتكرارا ،الأمر الذى دفعها لتقديم استقالتها من وظيفتها.
ولقد تناول كثير من مخرجى السينما قضية العنصرية فقاموا باخراج العديد من الأفلام التى تكشف مدى بشاعة العنصرية ضد السود داخل المجتمع الأمريكى ويأتى المخرج الأمريكى سبايك لى فى قمة هؤلاء المخرجين والذى تفاعل مع قضية مقتل جورج فلويد فقام بطرح فيلمه da5 bloods على netflex مستغلا حالة الغضب التى اجتاحت المجتمع الأمريكى والتى اسفرت عن اندلاع المظاهرات عقب مصرع جورج فلويد بدم بارد.فالفيلم جاء انتصارا لمقتله وهو دعوة لاحياء حركة مارتن لوثر كنج فى النضال ضد العنصرية. وقد ظهر موعد طرحه من خلال نوتفليكس كما ولو تنبأ سبايك لى بما يحدث حاليا من مظاهرات فى الولايات المتحدة الأمريكية وقد اشتهر المخرج سبايك لى بافلامه التى تتناول العنصرية منها فيلم malkom x 1992” do the right thing “inside man” وقد تحدثت أفلامه عن العلاقات بين الأعراق المختلفة ، والتمييز العنصرى والجريمة والفقر والعديد من المشاكل السياسية التى تواجه السود فى المجتمع الأمريكى.
ومن المتوقع أن يحصد فيلم da5 bloods ما نحن بصدد تناوله بالنقد والتحليل العديد من جوائز الاوسكار حيث حاز على اعجاب الكثير من النقاد لدرجة ان الناقد ديفيد رونى اعتبر أن هذا الفيلم هدية فى الوقت الحالى ولايوجد مخرج آخرغير سبايك لى يمكن أن يصنعه"فضلا عن ان هذا الفيلم حصل على تقييم 92%بموقع تقييمات الأفلام rotten tomatoes .كما من المتوقع ايضا حصول الممثل" ديلروى ليندو"على جائزة أوسكار أفضل ممثل عن دوره المتميز فى هذا الفيلم.
يتناول فيلم da 5 bloods قصة أربعة أصدقاء من المحاربين القدامى الأمريكان ذوى الأصول الأفريقية خلال الحرب فى فيتنام وذلك أثناء محاولتهم العودة الى ساحة الحرب مرة أخرى هناك فى أدغال فيتنام بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما لاستعادة رفات قائدهم وصديقهم نورمان الذى قتل أثناء الحرب وأيضا البحث عن كنز من الذهب سبق أن عثروا عليه فى الماضى ودفنوه على أمل العودة لاحضاره بعد انتهاء الحرب.وخلال الرحلة يواجهون أهوالا انتهت بفقدانهم حياتهم فيما عدا واحد منهم استطاع نقل رفات زميلهم نورمان ليتم تكريمه فى أمريكا وقام الصديق الناجى بالتبرع بنصيبه من الكنز لاحد هيئات الاغاثة لصالح ضحايا الألغام التى زرعها الأمريكان فى الأراضى الأفغانية.
فى بداية أحداث الفيلم يستدرج المخرج المشاهد بفيديوهات عن الملاكم محمد على كلاى وتصريحاته المناهضة للحرب فى فيتنام وأيضا خطب مارتن لوثر كنج ضد العنصرية وضد المشاركة فى الحرب وذلك تمهيدا لنقل المشاهد رويدا رويدا لأجواء الحرب فى فيتنام.
تناولت أحداث فيلم da5 bloods خدعة المكاسب التى وعد بها المسئولون فى امريكا الجنود السود نظير مشاركتهم فى حرب فيتنام فى الماضى. وقد رمز لتلك المكاسب بالكنز الذهبى الذى سبق أن عثروا عليه وقاموا بدفنه فى ادغال فيتنام على امل جلبه بعد انتهاء الحرب مما اسفر عن فقدان ارواحهم جميعا فيما عدا تييس الذى رفض التخلى عن رفات زميلهم وقائدهم نورمان المتحمس الذى جاءوا خصيصا من أجله ليتم تكريمه من قبل الجيش الأمريكى كما تناول ايضا خدعة المكاسب التى سبق ان وعد بها الرئيس الأمريكى ترامب السود نظير دعمهم له فى حملتة الانتخابية .
كشف الفيلم عن العنصرية التى تم التعامل بها مع الجنود السود فى حرب فيتنام بعد ايهامهم بانها حرب مقدسة ضد المتمردين هناك ليكتشفوا انه تم وضعهم فى الصفوف الأمامية ليقتلوا كالذباب فكانت النتيجة شعورهم بالآلام والحسرة لما واجهوه خلال الحرب من قتل وما انتابهم من وخز الضمير لمشاركتهم فى حرب قذرة وليكتشفوا أن الحاضر أيضا ماهو الا سلسلة مستمرة من اضطهاد السود على مر التاريخ الأمريكى.
عبر الفيلم عن مدى بشاعة الحرب وما تركته من دمار للشعب الفيتنامى وما خلفته هذه الحرب من حقول الالغام والتى سقط ضحيتها الآلاف من الفيتناميين منهم من فقد حياته ومنهم من قطعت أطرافهم بسبب انفجار تلك الألغام .
كما تناول الفيلم تفكك السود وانشغالهم بمكاسبهم الشخصية فى الوقت الحالى وفى الماضى والتخلى عن مسيرة نضال مارتن لوثر كنج حيث قاموا بنفيذ مايملى عليهم من سياسات خاطئة وهو ما جعلهم يدفعون الثمن وقد رمز بذلك الى ما حدث "لبول " أحد الأصدقاء الخمسة الذى ارتدى قبعة حمراء كدعاية للرئيس الأمريكى رونالد ترامب من أجل تحقيق مكاسب شخصية وايضا اثر عودته لفيتنام لاسترداد الكنز حيث آثر الاستقلال والرحيل عن بقية اصدقائه والتخلى عن رفات قائدهم نورمان الذى اعتبره قد مات ولاداعى لاسترداد رفاته فكانت النتيجة اصابته بلدغه ثعبان ثم وقوعه فى شرك نصبه احد الصيادين الفيتناميين فى الأدغال ليفقد فيه نصيبه من الذهب الذى تعلق اعلى الشجرة بينما سقط بول على الارض وتعلقت احدى قدميه فى الشرك ثم يسقط فى النهاية فى يد عصابة من الفيتناميين التى تقوم بقتله بعد اجباره على حفر قبره بيده وقبلها يعود اليه صوابه ويدرك مدى الخطا الذى وقع فيه بتركه اصدقاءه وتخليه عن مبادئه التى عاهد قائده عليها وكذلك ماحدث لصديقهم الثالث بفقدانه حياته اثر انفجار لغم ارضى وهو يؤكد على حاجته الشديدة للذهب ورفضه التبرع به لضحايا الألغام
اظهر الفيلم ان العنصرية ليست موجودة فقط فى امريكا وانما متجذرة فى ذهن الرجل الابيض بوجه عام كما ورد فى مشهد الاتفاق مع تاجر فرنسى ليسهل لهم خروج الكنز الذهبى من فيتنام بقوله “ان الذهب اهم من لون بشرتكم “ وهو ما أشار اليه الفيلم بمحاربة العنصرية فى كل مكان ليس فى امريكا فقط وانما فى كافة بقاع الأرض فالانسانية هى طبيعة الحياه لادخل لها فى عرق او دين او جنس .كما نوه الفيلم إلى فضل السود على الفرنسيين اثناء الحرب العالمية الثانية فى حمايتهم من الألمان كما ورد على لسان أحد الأصدقاء الخمسة" أنه لولا الجنود السود لقام هتلر باحتلال فرنسا واطعم الشعب الفرنسى النقانق الألمانية .
تناول الفيلم الغزو الاقتصادى الأمريكى لفيتنام اذ ظهرت لافتات مطاعم ماكدونالز و كما ورد على لسان بول أحد الأصدقاء الخمسة بشكل ساخر ان امريكا لم تكن بحاجة الى تلك الحرب فى فيتنام طالما كان من الممكن غزوها بتلك الأطعمة اللذيذة.
ولا يمكننا الحديث عن فيلم da 5 bloods دون الاشادة بدور الممثل الانجليزى ديلروى ليندو الذى لعب دور "بول " فى الفيلم والذى من المنتظر حصوله على جائزة افضل ممثل فى الفيلم لدوره المتميز والذى برع فى اظهار الصراعات النفسية التى مر بها اثناء الحرب وبعد عودته اليها بعد سنوات طويلة وأيضا فى أثر الحرب على علاقته المضطربة بابنه والتى حالت دون وصول مشاعر الود اليه.
تتجلى عبقرية المخرج سبايك لى فى وضع مشاهد فيتنام فى السبعينات بصورقاتمة توحى بأجواء الحرب وبشاعتها مقارنة بصور فيتنام الحديثة حيث ظهرت الصور زاهية ومضيئة .كما لعبت الموسيقى التصويرية دورا مؤثرا فى الانتقال بالمشاهد بين الماضى بما يحمله من ذكريات مؤلمة والحاضر وما يحمله من شعور بالخزى ووخز الضمير للمشاركة فى حرب لاناقة لهم فيها ولا جمل.
واخيرا يعتبر فيلم da 5 bloods بمثابة مكاشفة للنفس تصور التقصير فى مسيرة نضال السود ضد العنصرية بعد مقتل مارتن لوثر كنج الذى دفع حياته غاليا ثمنا لها وهو فى الوقت ذاته دعوة لاستنهاض روح نضال السود مرة أخرى ضد العنصرية و رفض الاملاءات التى تفرضها السلطات الامريكية عليهم فى قضايا سياسية تخدم فقط أجندة المصالح الأمريكية .
--------------------
رؤية: هدى مكاوى