14 - 05 - 2025

وجهة نظري| التعايش مع الوباء

وجهة نظري| التعايش مع الوباء

رغم أن ظاهرها يبدو فيه الرحمة، إلا أن باطنها يحمل لدى البعض إحساسا بالألم.. فالتعايش في نظر البعض كلمة تعنى الاستسلام، فقدان الأمل، الخضوع للأمر الواقع.. شعور سلبى لا يدفع للتحدي، المقاومة، شحذ الهمم.. بل على العكس هو داعم أكبر للإحباط، التهاون، الكسل.

ربما لايكون الهدف وراء إطلاق مصطلح "التعايش مع كورونا" يحمل تلك المعاني، لكن من المؤكد أنه يثير تلك المشاعر لدى المستهدفين من إطلاقه.

تجاربنا مع حالة "التعايش" التي كثيرا ما نطالب بها، أو تفرض علينا ونجد أنفسنا أسرى لتبعاتها المقيدة البغيضة، تجعلنا لا نتفاءل كثيرا عندما نرى العالم يسعى بخطى واضحة نحو تطبيق تلك السياسة.

فبعد حالة الرعب والفزع ومتابعة تصاعد حصد الأرواح التي تسبب فيها الفيروس بإنتشاره السريع، بعد جمود وجهامة الإجراءات الاحترازية التي التزمنا رغما عنا بها، ورغم الحظر الذى فرض علينا وجعلنا سجناء في بيوتنا، معزولين بإرادتنا عن أحبائنا، نخشى لمس فلذات أكبادنا أو فتح أذرعنا لإحتضان أحفادنا، ورغم حالة الملل والضيق التي لم يسلم أحد منها، رغم الحياة الغريبة التي فرضت بتفاصيلها الخانقة علينا.. يخرج علينا حكام العالم بقراراتهم الجديدة "التعايش مع كورونا"!!.

ولماذا إذا كل هذا الذعر الذى تم بثه من البداية؟! ولماذا كل هذا الفزع الذى أصاب دويه كل البشر على كوكب الأرض المنكوب؟! لماذا فرضت على البشر جميعا، وفى توقيت واحد، تلك القبضة الخانقة من الخوف والقلق والاضطراب؟!

ثم نخرج عليهم في النهاية بتلك الحكمة المستفزة "التعايش مع الفيروس"، لتوقظ كل المشاعر السلبية التي تسببها كلمة "التعايش" من ميراث وخبرات وتجارب خضناها معها.

تعايشوا مع الألم، مع المرض..تعودوا عليه، لأنه سيصبح جزءا لايتجزأ من حياتكم، هكذا ننصح المبتلين بالمرض الخبيث، نطالبهم بالتعايش، مغفلين مدى الجهد المطلوب لتطبيق تلك النصيحة، نتغافل عن حجم الألم، ورحلات العذاب بين مراكز التحليل، والوهن الذى يطيح بكل قوى الجسد بعد جلسات الكيماوي، الآثار الجانبية الموجعة، الآلام المصاحبة لعمليات الإستئصال والناتجة عنها، الدائرة المغلقة التي يتعين الإستسلام لقواعدها الخشنة بين أمل الشفاء والتعافي، وبين يأس الارتداد والتراجع والنكوص والتدهوروالإنتكاسة بهجوم أخطر وأشرس للمرض.

يواجهون كل تلك الآلام ثم نطلب منهم ببساطة وهدوء وبرود أن "يتعايشوا مع المرض"، فقدت حكمة "التعايش" وقعها بعدما تحولت إلى سوط مسلط على نفوس عاجزة يائسة.

ننصح بها الضعفاء قليلي الحيلة، نهمس في أذن الزوجة أن تتعايش مع زوج غليظ الطباع يفتقد لأى درجة من درجات الإنسانية، ونطالب بها أيضا زوجا بأن يتعايش مع زوجة مهملة قاسية لايعرف قلبها أي شعور بالعطف أو الحنان أو الود.

باتت كلمة التعايش سيئة السمعة.. لذلك كان من الطبيعى أن يثير ترددها على ألسنة حكام العالم كل المشاعر السلبية.

صدعونا بتبرير سياستهم الجديدة بنفس الدرجة التي بثوا فيها الرعب والذعر والفزع من الفيروس، وفرضوا علينا الحصار والحظر والسجن داخل بيوتنا، ثم خرجوا علينا الآن بقراراتهم الجديدة بتخفيف الإغلاقات وفتح المحلات والحدائق والملاعب بشكل تدريجي، والتعايش مع الفيروس بعدما تبين للجميع عدم وضوح المدى الزمنى الذى يستغرقه الفيروس اللعين على كوكبنا المنكوب.

لم تخرج مصر بالطبع على تلك السياسة الجديدة، فأعلنت الحكومة عن خطتها للتعايش مع الفيروس مع التأكيد على إعادة تقييم الوضع الوبائى كل 14 يوما، وإتباع كافة الإجراءات الاحترازية بصورة دقيقة ومستمرة وحاسمة في شتى المنشآت.. ومطالبة جميع الوزارات والهيئات التنفيذية والرقابية بوضع الضوابط وفرض عقوبات فورية في حال عدم الإلتزام بها، مع توفير معايير إلزامية للمؤسسات والشركات ومراكز التسوق وقطاع البناء والمصانع وكافة المواصلات، وإستمرار غلق الأماكن التي تسبب خطرا شديدا في نقل العدوى.. والأهم الحفاظ على قواعد التباعد المكاني وتخفيف الزحام.

تبدو الخطة محكمة وبنودها على درجة كبيرة من الدقة والجدية، لكن ماذا عن التطبيق؟ خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على التباعد المكانى، هل سننجح عمليا في الالتزام بذلك البند الأخطر من الخطة؟! وهل سنضمن بالفعل التزام المؤسسات بتوفير معايير السلامة والوقاية من الفيروس؟! هل سيتم بالفعل إعادة تقييم للوضع الوبائى كل 14 يوما؟.

أم أن كل بنود الخطة سيعصف بها الواقع الذى نعرفه جميعا، ليسيطر الإهمال والتراخي واللا مسؤولية، لنقع اسرى لامبالاة المهملين من ناحية وسندان "مناعة القطيع" التي يتم تطبيقها من جهة أخرى، تحت شعار "التعايش مع الوباء".

يبدو أن "حكمة التعايش" لن تصيبنا فقط بمشاعر سلبية، لكنها ستتحول  إلى  فوبيا ستكون أخطر علينا من الفيروس نفسه، ربنا يستر.

مقالات اخرى للكاتب

قانون الإيجار القديم .. لغم لا يحمد عقباه