الرأسمالية المتوحشة.. تلك القنبلة الموقوتة التى ستنفجر فى المجتمعات التى تفتقر للعدالة الاجتماعية، حيث يفقد الفقراء إنسانيتهم فيلجأون إلى شتى السبل لضمان بقائهم أحياء أمام وحش الجوع الكاسر، الذى بات ينهش أجسادهم وأرواحهم فى مجتمع رأسمالى لايرحم، والذى يقف حائلا أمام تحقيق أحلامهم فى حياة كريمة داخل أوطانهم.
ذلك هو فحوى الفيلم الكورى" parasiteالطفيلي" الذى استحق بجدارة ان يحصد عددا من الجوائزالعالمية، آخرها جائزة اوسكار والسعفة الذهبية فى السيناريو والاخراج والتمثيل.
تدور أحداث الفيلم حول عائلة كيم المكونة من زوج وزوجة وابن وابنة يعيشون حياه لا آدمية فى قبو معتم لاتدخله الشمس، ويبول على نافذته السكارى والمشردون، وتفوح من أجسادهم رائحة الفقر والعطن داخل القبو، فاقصى طموحاتهم أن يلتقطوا شبكة "واى فاى "من أحد الجيران، وفى المقابل هناك أسرة غنية تتمتع بدرجة عالية من الثراء الفاحش تقطن منزلا كبيرا بحديقة غناء وعندما يسقط المطر تغسل قطراته أشجار الحديقة فتصبح أكثر بهاء وروعة.
رسم الابن خطة محكمة ليوظف جميع أفراد عائلته فى المنزل بعد حصوله على وظيفة كمدرس لغة انجليزية لابنة أحد العائلات الثرية، وكانت خطته طرد كل من مديرة المنزل وسائق تلك العائلة تمهيدا لاحضار كل من والده ووالدته للعمل بدلا منهما، وتم إيهام الزوج والزوجة أصحاب المنزل بمرض تلك المرأة بداء السل، واستغلال السائق سيارة الزوج فى نزوات عاطفية، كما قام الابن بإحضار شقيقته لتعمل مدرسة رسم لابن تلك الأسرة، وهنا قصد الفيلم أن يبرز كيف يدبر الفقراء شئونهم حتى وإن لجأوا إلى شتى أنواع الحيل للوصول لغاياتهم، وقد يصل الأمر الى درجة قتل بعضهم البعض إذا لزم الأمر، صراعا على لقمة العيش، وهو ماحدثلمديرة المنزل السابقة التى لقيت حتفها بعد مشاجرة عنيفة عندما حاولت كشف خداع عائلة كيم أمام أصحاب المنزل بالتقاطها صورة جماعية لهم .
نجح الفيلم فى أن يجسد الطبقية فى المجتمع الرأسمالى فى أبشع صورها "الفقر والثراء –طبقة عليا وطبقة سفلى" بطريقة احترافية رائعة وسهلة وبسيطةفى مشهد هزلى، فعندما حاولت الاسرة الفقيرة اقتناص فرصة ذهبية للتمتع بالمنزل مستغلين سفر أصحابه، وسرعان ما يقترب موعد وصول أصحاب المنزل، فتلجأ اسرة كيم الفقيرة للاختباء أسفل إحدى الأرائك بينما يجلس صاحب المنزل وزوجته فوق نفس الأريكة فيسمع أفراد الأسرة الفقيرة ما يردده صاحب المنزل من عبارات تهكم وتأفف من رائحة كيم. وبينما ينام صاحب المنزل وزوجته قريرى العين فوق الأريكة بعد ممارستهما الحب، يختبئ كيم وأسرته أسفل نفس الأريكة وهم يكتمون انفاسهم ويرتعدون خوفا وهلعا.
وتتجلى ثنائية - الطبقة العليا و السفلى- أيضا فى الفيلم فى مشهد آخر داخل قبو المنزل الذى يختبئ فيه فقير آخر، وهو زوج المديرة السابقة، هربا من ديونه بعد فقدانه عمله، بينما يقطن أصحاب المنزل فى الدور العلوى الذى يفصله عن القبو مجرد سلم، فالفيلم أحداثه تدوربصورة مشوقة ومثيرةتارة فى الطابق العلوى حيث يقطن الاغنياء، وتارة أخرى داخل قبو المنزل حيث الصراع الدموى والتناحر الدائر بين أسرتين فقيرتين، بين مديرة المنزل السابقة وزوجها.. وبين أفراد أسرة كيم المهددة بالطرد من المنزل وفقدان وظائفها بعد أن كشفت مديرة المنزل السابقة حيلتهم وخداعهم.
تتصاعد أحداث الفيلم بشكل درامى سريع ليحدث الانفجار الكارثى فى الحديقة أثناء الحفل الكبير الذى أعدته الزوجة صاحبة المنزل بعناية فائقة، حرصت فيه على شراء أطعمة لا يعرفها الفقراء، فجأة يتمكن زوج المديرة السابقة من الخروج من مخبئه فى القبو بعد ضربه لابن كيم الشاب، ثم يصعد السلم إلى مكان الاحتفال ممسكا بسكين، فيوجه عدة طعنات لأفراد أسرة كيم انتقامالمقتل زوجته، كما يقوم والد كيم بقتل صاحب المنزل الغنى الذى سبق أن تناوله بالتهكم والسخرية من رائحة ملابسه .
وبالرغم من أن بداية أحداث الفيلم أصابت المشاهد بالنفور من عائلة كيم المحتالة والتعاطف مع أصحاب المنزلالفخم، إلا أنه مع تصاعد الأحداث بشكل درامى تتغير مشاعر المشاهد لينحاز لأسرة كيم الفقيرة، ويفيق على حقيقة صادمة ليدرك من المقصود بالكائن الطفيلى الذى جاء عنوانا للفيلم.. إنهم الاغنياء الذين بلغوا قدرا من الثراء الفاحش الى حد التخمة، مثل هؤلاء هم الكائنات الطفيلية الذين يستغلون حاجة الفقراء ويمتصون دماءهم نظير حفنة من النقود بالكاد تكفي ملء بطونهم الجائعة، فلا يمكنهم التغلب على شظف العيش ولاتؤمن لهم حياه كريمة يشعرون فيها بآدميتهم .
إن المعاناه التى لقيتها تلك الأسرة البائسة عند كارثة هطول المطر كفيل ليجعلنا نشعر بالضآلة أمام أنفسنا، حين تعاطفنا فى بداية الفيلم مع طبقة الأثرياء، ففى الوقت الذى يعد فيه المطر نعمة على العائلة الثرية حيث تغسل مياهه أشجارالحديقة فتزيدها بهاء وجمالا ، يمثل نقمة بالنسبة لعائلة كيم الفقيرة حين ضربت مياه المطر القبو الذى يأويهم، فأغرقته بعد امتزاجها بمياه الصرف الصحى، ليبدو المشهد مرعبا وكارثيا تفوح منه العفونة والقذارة، وينتهي بأسرة كيم ومعها آلاف الأسر الفقيرة فى العراء.
نجح الفيلم فى أن يجعلنا نتعاطف مع أسرة كيم الفقيرة على الرغم مما اقترفوه من جرائم، فهم ضحايا الظروف التى حالت دون تحقيق أحلامهم فى عيش حياه كريمة حتى انتهى بهم الحال الى فقدان انسانيتهم وقتل بعضهم البعض، دون أن تكون الجريمة ديدنهم، فكيم يوجه اعتذاره لصاحب المنزل الثرى وهو يبكى نادما على قتله، وهو فى الوقت نفسه يفرح عندما يجد مديرة المنزل السابقة لازالت على قيد الحياة، والابن الشاب يرسل خطابا لوالده المختبئ فى قبو المنزل هربا من عقوبة القتل يخبره بحلمه وخطته لشراء المنزل حتى يتمكن والده من الخروج من قبوه المعتم وصعوده السلم الى الطابق العلوى دون خوف ووجل، والأم تحمل طبقا به طعاما لإنزاله الى مديرة المنزل السابقة حبيسة القبو قبل موتها اثر إصابتها بارتجاج فى المخ
... وأخيرا، فيلم الطفيلي بمثابة صرخة ألم ورسالة تحذير: انقذوا فقراء العالم قبل أن يفقدوا انسانيتهم.. انقذوا هؤلاء البؤساء قبل أن يتحولوا إلى وحوش كاسرة تهدد الإنسانية جمعاء.
-------------------------
بقلم: هدى مكاوى